وَطنٌ بين الأفْخَاذ
هشام تسمارت
الاثنين 23 يوليوز 2012 - 16:48
في بلدٍ كالمغرب، لا شيء على حظٍّ من اليسر أكثر من صناعة زوبعة
يتطاير في أعقابها زبد الأفواه من جدلٍ يثارُ بشأن العادة السرية أو تنورة
ّأو تبان، إذ يكفي أن يخاضَ في الموضوع حتى تجد الباب مشرعاً أمام
اجتهادات الأئمة والمحللين، والساسة والمنظرين، وكأننا أتينا على كل
الأجندة المستعجلة في لحظتنا الراهنة ولم يتبق إلاّ فصل المقال في أمور
الجنس وبيان ما بينها وبين الحرية من اتصال أـو انفصال، حتى آل النقاش إلى
إسفاف وإسهال كبيرين لا يخفيان على كل ذي نظر.
كان من العسير حقاًّ، أن نتقبل مجيء من أتى ليخبرنا بعد سقوط شهداء
الحرية، أن ما خلناه 'ربيعا عربيا' لم يكن سوى ربيع'احتجاجات' حسب محمد
ضريف، أو تمردات' بتعبير أدونيس، فالأمل في التغيير بدا كبيراً وما كان
للمرء إلاَّ أن يبارك أفول الطغاة وتحليقهم تحت جنح الظلام أو دوسهم بأقدام
الشعوب الثائرة.
بيدَ أن طفو خطابات متطرفة على السطح اليوم بعد كل التضحيات وإن كان
الأمرُ متعلقاً باستمرارية المؤسسات في المغرب، أمرا مؤسفٌ للغاية، سيما
وأن الزوبعة في مجملها قامت في أعقاب صدور رأي شخصي عن إعلامي لا يمثل أية
جهة رسمية وتعكسُ وجهةُ نظره قناعة شخصية حبيسة 'البصلة السيسائية بمخ
تعلمنا رسمه في الصف السادس ابتدائي وأخفقنا في تنويره رغم قطع أسلاك
تعليمية عدة، وهي بصلةٌ ودَّ كثيرٌ من ذوي النظرة الضيقة لو استخرجوها
وقاموا بفرمها في طبخة مذهبية وفكرية واحدة.
كل من ينبري اليومَ لإدانة فعل النهاري، يجابهُ بإرهابٍ فكري ينم عن
ردة خطيرة، تجعلُ من المخالفِ مداناً ينتظر حكماً سابق الصدور عن نظم
التفكير التقليدية الجامدة. وما يجبُ أن نعلمهُ في هذا المقام هو أن المهم
ليس تبني رأي الغزيوي أو نبذه، بل احترام حقه في الصدور فحسب، لأن الرجل
لم يقل إلا ما يجول برأسه، لا داخل مدرسة، و لا في منبر إعلامي تموله
الدولة، بل في برنامج تقدمه قناة فضائية خاصة في عاصمة عربية بعيدة، فهل
يستقيم أو يليق أن نصيح في مغرب يقال إن للإصلاح به نصيباً قائلين إن كل من
خالف توجهاتنا مجرم زنديق؟ وربَّ قائل قد يتساءلُ هنا؛ ما دام الأمرُ
هكذا فلما تم قمعُ الشيخ نهاري وقد عبَّر عن رأيه في الوقت الذي عُدَّ فيه
الغزيوي ذا حق في التعبير عن قناعاته؟
حين يتحدث الغزيوي فمن المعلوم أنهُ غير ذي سلطة روحية ولا معنوية، وما
قاله على قناة الميادين لا يعدو كونه رأيا شخصيا بعيداً كل البعدِ عن هدر
دم إنسان، أما كلام النهاري فحتى وإن لم يكن من حيث النية دعوة إلى قتل
الغزيوي، فإن تأويلاً خاطئاً له قد يسفر عن جريمة نكراء يرتكبها أحد
المتشددين؛ وما أكثرهم في مغربنا اليوم.
غير خافٍ علينا، أن الكثيرين ممن يعيشون بيننا يحلمون آناء الليل
وأطراف النهار بالنموذجين السعودي والأفغاني، وتحدوهم رغبة جامحة لطلبنة
المغرب وسعودته، في أفق إلغاء مظاهر الحرية النسبية التي يعيشها المغاربة،
فكم يسوؤهم أن يروا الناس على الشواطئ، وكم يستكثرون عليهم رقصة في ساحة
مهرجان وليس حديثهم عنها بسبب هدر المال كما قد يعتقد البعض، بل الوزاع
لديهم في كل ذلك هو قياس نسبة ما يسمونه 'نظافة الفن'.
حين يموتُ العشرات من شدة قر الأطلس، لا يستحق الأمرُ كثيراً من الجدل؟
وحين يذوي العمال في قيض تموز مقابل سبعين درهماً لا تكفي حتى لملء أفواه
تلاقي أباها كالطيور في عشها، لا نجد المسالة مستفزة إلى مدى بعيد؟ وغداة
سماعنا باعتزام الحكومة رفع الدعم عن المواد الأساسية والاكتفاء بتعويضات
هزلية لشريحة ضيقة، لا يبدو الأمر حرياً بحوار وطني؟
حين تلد الأمهات المغربيات أمام المستشفيات وتنفث السيارات دخانها على
وجوه الرضعِ الطرية ليس الأمر مستعجلاً؟ وبينما يستمر أنين المرضى في ربوع
البلاد داخل مستشفيات هي أقرب إلى الحظائر منها إلى المراكز الصحية لا
يبعثُ المشهد على القلق؟ وحين يقلب كهلٌ يحمل جنسية هذا الوطن كوم قمامة
للظفر بكسرة خبزة متقادمة يبدو المشهد عاديا؟ لكن غير العادي هو أي حديثٍ
عن الجنس والأعضاء التناسلية التي أصبحت تستحق نقاشاً وطنيا يضم كل
الفرقاء، للخروج بتوصيات وأجندة عمل؟
إن المرءَ ليشعر بخيبة أملٍ كبيرة وهو يتابع النقاش الدائر حاليا حول
الجنس وأدق تفاصيله، ومشاكلنا على كل الأصعدة لا تكاد تحصى من فقر وأمية
وتعليم وهجرة، إذْ لم يسبق وأن استأثر موضوع بالنقاش في بلدنا كما فعل
الجنس مؤخراً عقب انتهاء البرنامج الذي حل به الغزيوي ضيفاً، ولعل خيبة
الأمل تلك هي التي تكبحُ جماح آمالنا نحن الشباب وتؤكد حتمية الانتظار
لدينا، ريثما يزول غمام الجنس عن بلدنا ويمطر التنوير على ربوع الظلام كي
يتأتى لنا أن نحلم بوضعٍ أفضل في بلد لا يحصر أهله نظرهم إلى الأفخاذ، ولا
ريبَ أن بلداً يعيش بين الأفخاذ هو بلدٌ "لا يعول عليه" بتعبير المتصوف
الكبير ابن عربي.