لم
يكن محمد البوعزيزي، في المجمل، كائناً فريداً. كان كمثل غيره من مئات
آلاف متخرجي الجامعات العربيّة المحرومين من فرصة عمل... ومن احتمال حياة.
إنّه واحد من الـ12 في المئة من العاطلين عن العمل في تونس بحسب الحكومة،
أو الـ25 في المئة بحسب جهات مستقلة. فرادة محمد تأتي، ربما، من مكان آخر،
من الجواب الذي قدّمه لنا: حين تغلق الحياة احتمالاتها كافة، سيكون السبيل
الوحيد أمامك كي تنير ظلمة الإغلاق تلك بأن تحرق نفسك.
حرق الشاب نفسه، حدث الأمر في ولاية سيدي بو زيد التونسية وسط البلاد (265 كيلومترا عن العاصمة).
سبحة الانتحار التي كرّت بعد حادثة محمد، والمواجهات العنيفة التي كان
مقدّراً لها أن تشهد ضحايا بالعشرات كما حدث في ما بعد، لا تؤشر فقط على
مستوى العجز الحكومي في معالجة الأزمة، بل وأيضاً على ما هو أكثر أهمية:
ما زال التونسيون، بمجتمعهم المدني ومنظماتهم النقابيّة قادرون على أن
يقولوا «لا».
المشاريع التي أعلنها الرئيس بن علي لدعم المنطقة، والتي تبلغ قيمتها 14
مليون دينار تونسي (حوالى 10 ملايين دولار) لم تنجح في تخفيف الاحتقان،
جاء الردّ عفوياً وعميقاً في الوقت نفسه: «الشغل استحقاق يا عصابة
السراق»، إذ ليست القضية بالنسبة للأكثرية الساحقة من التونسيين قضية
عطايا موسميّة من الحاكم، بل هي، في الجوهر، قضيّة نظام الحكم.
«الشغل استحقاق يا عصابة السراق»، شعار ضد الفساد التي ينخر جسد الدولة
والمجتمع، وضد القمع الذي تمارسه السلطة لمن يحاول فضحه، وضد التعتيم
الإعلامي الذي لم ير الرئيس التونسي أنّه يسيء إلى صورة تونس. الإساءة
بالنسبة له، وفق ما جاء في خطابه، تأتي من «لجوء أقلية من المتطرفين
والمحرضين المأجورين ضد مصالح بلادهم إلى العنف والشغب في الشارع كوسيلة
للتعبير.. مظهر سلبي وغير حضاري يعطي صورة مشوّهة على بلادنا». هل محامو
تونس متطرفون ومحرضون؟ هل من يمثلهم محمد البوعزيزي أقليّة ومتطرفون؟ ثمّ
هل إنهانتحر فعلاً؟ ليس تماماً. الأجدى للفهم والأقرب إلى الحقيقة، هو
القول بأنّ محمداً نُحر.
كان لمحمد احتمالات للحياة أو للعيش. كان له احتمال بدء رحلة البحث عن
عمل، بعد أن أنهى دراسته الجامعيّة. رحلة كان سياقها سيبدو طبيعيّاً حين
يتوّج بإيجاد عمل، يعود على محمد بالقليل من النقود والكثير الكثير من
الكرامة واحترام الذات.. وحب الحياة. ولكن لا عمل. المدينة المنسيّة في
تونس الخضراء لا تجذب سياحاً، ليست على الشريط الساحلي للدولة الصغيرة،
حيث الكثافة السكانية الأعلى وفرص العمل الأكثر (800 ألف عامل في قطاع
السياحة). تترك، إذاً، السلطة التونسيّة أبناء المنطقة يهيمون في الفقر
والتهميش. لكن محمداً يحبّ الحياة.. وأمّه. هذا ما تشهد به كلماته الأخيرة
التي خطها على ذمّة الـ«فايسبوك».
وهو في احتماله الثاني للعيش لا يسعى إلى الحياة، حسبه أن يلبي متطلبات
العيش في حدها الأدنى؛ يرتجل إذاً عربة لبيع الخضار والفواكه. والسلطة
التي تحيا بلا قانون منذ 1987 تأتي لعند محمد كي تطبّق القانون، فتصادر
العربة والبضاعة. القانون في بلد الانقلاب الطبي (هكذا يسمى انقلاب زين
العابدين على بورقيبة)، يختزل في شخص الحاكم، إذ لا قانون فوقه؛ القانون
يطبّق على من هم تحت، ليس لأنّ من هم فوق هم فوق القانون، بل لأنّهم
القانون بذاته!
محمدُ يقلّب الاحتمالات، ويفكر في احتمال أخير للحياة، ربما ليبعد الشبح
الذي سيكونه وهو يحترق. يقترب من حاسوبه ويكتب الكلمات الموجّهة لأمّه،
علّها تحوّل النيّة إلى لعب أطفال لا أكثر. يطلب محمد من أمّه، في تلك
اللحظة، أن تسامحه لا على ما سيقوم به بل على مجرد التفكير بذلك. الاحتمال
الثالث لا يأتي.. يأتي.. لا يأتي.. وأخيراً ها هو يطلّ، لكنه هزيل ضعيف؛
ثلاث كلمات تختصره، تختزله: الاحتجاج والمطالبة بالحق. يضحك محمد، ثم
يرتجف، هذا احتماله الأخير، وعليه التمسك به. يهدأ. يفكر أنّ المطالبة
بالحق تحتاج إلى ديموقراطية، تحتاج إلى حزب ربما، يجسّد الرغبة في التغيير
وفي إعادة الحقوق. محمد يتنهّد تنهيدته ما قبل الأخيرة، ثم يردد لنفسه: لا
ديموقراطية في تونس. لا أحزاب. قمع وتنكيل.
قضي الأمر، محمد يعقد العزم، خياره الأوّل على الضفة الأخرى جاهز، سهل،
بسيط، مقنع وممكن، الموت ممكن، في كل لحظة هو ممكن، وارد، محتمل، الأنكى
من كل هذا أنّ الموت «معيوش»!
ليس لمحمد أن يجرّب أو أن يبحث أو أن يفكر، الموت بسيط كبساطة الألم
الصريح الذي يعتصره. محمد يحرق جسده، ليس بأية مادة قابلة للاشتعال، روح
محمد وعقله الملتهب تفيان بغرض الاحتراق، محمد مات؟ لا لم يمت. محمد أنار،