ليس الانسان وحده الذي يمكن ان يأد ابناءه خشية إملاق، او يبيعهم في سوق النخاسة انقاذا لهم من الجوع او فقط يتخلى عنهم تاركهم لمصيرهم، بل ان هذه الظاهرة منتشرة في عالم الحيوان كجزء من الفطرة الطبيعية ايضا، فما هي اهدافها ولماذا سمح لها التطور بالنشوء؟
مجموعة من البيلوجيين الامريكيين وضعوا عصافير الفينيك Carpodacus mexicanus تحت المراقبة الدائمة منذ بداية فصل وضع البيض ولاحظوا كيف ان زوج من العصافير يمكن ان يضع ستة بيوض، وتحظى البيوض بالاهتمام لمدة ثلاثة ايام. وكيف ان الذكر يهبط على حافة العش ليطعم الانثى وبعد ذلك ينطلق الزوجين سوية لتعود الانثى بعد ثلاثين ثانية وتبدأ بتفتيش العش. بدون اي انذار تخترق بمنقارها احد البيوض وتصرف ثلاث دقائق في اكل محتوياتها. هذه البيضة لم تكن متضررة او تختلف بشئ عن بقية البيوض، لهذا السبب لايرى البيلوجيين سبب للقول بأن البيضة غير قادرة على الحياة، وبالتالي فطيور الفينك قامت عمليا بأكل ابناءها.
غير ان سلوك طيور الفينيك ليست ضد التطور او حادثة عرضية استثنائية، بل على الاغلب تعطي حظا اكبر لحفظ النوع. العديد من الانواع الاخرى، من العناكب الى الفئران والعديد من انواع الاسماك، يمارسون طريقة قتل الابناء كوسيلة للبقاء على الحياة. من المثير ان هذه الانواع بالذات هي التي تبدي الاهتمام الاكبر بنسلها.
العلماء يبذلون الان الجهود لفهم الميكانيزم الذي يقف خلف هذا السلوك المتعاكس ( القتل وابداء العناية) ليس فقط في نطاق النوع الواحد ولكن ايضا في على مستوى الابوين كأفراد. في السابق كان العديد من الخبراء يرى ان آكل الاهل لاطفالهم هو مرض إجتماعي لاعلاقة له بالتطور او علاقته غير ذات تأثير كبير. فيما بعد اصبح من المتعارف عليه ان هذا السلوك يملك تأثير تطوري غير معروف الاهمية ويرمز الى نوع من التوازن بين قدرة الاهل الحالية والمستقبلية على الانجاب والرعاية.
على الرغم من اعوام من الدراسات بما فيه على انواع من الاسماك التي تأكل ابناءها، تمكن العلماء من العثور على افضلية تطورية محتملة لمثل هذا السلوك منذ فترة قصيرة فقط. عندما كان الباحثين يحاولون تفسير قتل الابناء، كانوا غالبا يطرحون نظرية تقول ان الاهل يحصلون على قيمة غذائية إضافية من ابناءهم في الاوقات العصيبة والفقيرة بالغذاء. حسب هذه النظرية، يحصل الاهل على مخزون من الطاقة يساعدهم على صرفه على بقية النسل مما يحفظ حياة استمرار النوع، عندما تكون حظوظ الدفعة الاولى على الحياة قليلة لقلة الطعام. غير ان الدراسات المعمقة على الاسماك اعطت نتائج مختلطة.
عندما اعطى الباحثين وجبة غذاء اضافية للاسماك توقفت بعض الانواع عن اكل ابناءها في حين استمرت انواع اخرى على ذلك. إضافة الى ذلك قام الباحثين بدراسة فيما إذا كانت القيمة الغذائية التي يقدمها اكل الاطفال من الكبر بحيث تعطي الاهل افضلية في المرة القادمة من وضع البيض وهنا كانت النتيجة ايضا مختلطة المعطيات. لهذا السبب كان الاستنتاج ان اكل الاطفال ليس فقط لدوافع الحصول على قيمة غذائية اضافية وسهلة.
عام 2002 الباحث Adam Payne, من جامعة لندن، اقترح تفسيرا يقول ان الاهل الذين يأكلون لحوم اطفالهم يفعلون ذلك فقط عندما يتوقعون ان السنة ستكون قحف ومواردها اقل من الطبيعي. تقليل عدد البيوض او الافراخ يعطي الاهل فرصة تركيز الموارد الضئيلة على بقية الافراخ الامر الذي يعطي الاهل فرصة للتعبير عن حرصهم على اطفالهم وسعيهم للالتفاف على الظروف السيئة وابقاء فرصة لجزء من نسلهم على الاقل. باحثين اخرين عرضوا وجهات نظر مشابهة تقول ان الاهل يقومون بالتضحية بالاضعف، الامر الذي يوفر الجهد والموارد ويرفع حظوظ البقية على الحياة.
جميع التفاسير لم تقدم ايضاحات مرضية بالكامل عن الاهداف التي يحققها الوالدين من خلال اكلهم للبيوض او الافراخ، غير ان البيلوجي Hope Klug, من جامعة فلوريدا والبيلوجي Michael Bonsall, من جامعة اوكسفورد، قاموا بدراسة الظاهرة بمساعدة موديل كمبيوتري على اساس نظرية التطور وبذلك تمكنوا من الاقتراب من حل لهذه الاحجية السلوكية.
في الموديل كانت هناك العديد من السيناريوهات انطلاقا من وقائع سلوكية الحيوان وظروفه بما فيه آكل لحم النوع نفسه (الكانبياليزم). في الموديل يمكن للبيض والافراخ ان ينتهوا على ثلاثة حالات. إما ان يقوم الاهل بتركهم والتخلي عنهم او ان يأكلوهم او يقوموا بالعناية بهم. عدا ذلك يقوم الموديل بإطلاق خيارات التطور اللاحق انطلاقا من معطيات نظرية التطور. بهذا الشكل يقدم لنا الكمبيوتر فيما إذا كان اكل الابناء يمكن ان يقدم للاهل افضلية طبيعية في الصراع على البقاء ويقدم لنا صورة عن كيفية انتشار هذه الظاهرة بين الافراد.
الموديل اظهر بوضوح ان آكل الابناء يمكن ان يتواجد جنبا الى جنب مع مشاعر الاهتمام ورعاية النسل الذي يتطلب جهودا كبيرا ومع الاندثار التام لاي اهتمام من قبل الاهل والذي ينعكس من خلال تخلي الاهل عن ابناءهم. الموديل كشف ايضا ان العوامل التي تقف خلف هذه الظاهرة معقدة ومتتداخلة. لايوجد عامل واحد لوحده يمكن ان يفسر اسباب قيام بعض انواع الحيوانات بأكل ابناءها. الحيوانات الداخلة في السيناريو حصلوا على وجبة اضافية من خلال آكل ابناءهم او بيوضهم ولكن هذه الاضافة الغذائية ليست كافية لتوضح اسباب نشوء الكنيباليزم (اكل النوع لنفسه).
العالمين الاخيرين اعلاه لاحظوا ان الكنيباليزم عند الاهل زاد من نضوج البيض وسرع من نجاح الاهل الذين مارسوا الكنيباليزم في حضانة البيض والافراخ. إضافة الى ذلك لاحظوا ان الكنيبالزم كانت استراتيجية موفقة في حال قام الوالدين بأكل النسل الضعيف عن وعي (بمعنى انه سلوك يتكرر في حال تكرر الظروف). هذا يعني ان تأثير الكنيباليزم على البيض والافراخ ( في عالم الطيور) من ناحية التطور يعادل الضغط نفسه الذي يقوم به على رديفه في عالم الحيوان. اي ان الجنين الذي ينمو ويفقس بسرعة يملك حظوظا اكبر على البقاء على قيد الحياة.
الكنيباليزم يحقق هدف إزالة البيوض التي تحتاج الى وقت طويل للنمو وبالتالي تستهلك الكثير من العناية. هذه الاستراتيجية تعني ان الوالدين يركزون جهودهم على الافراخ التي تنمو بسرعة، وبدورهم سيقوموا ايضا بالقضاء على النسل الضعيف. بمعنى ان الكنيباليزم هو وسيلة لابقاء الفعالية العالية لصرف طاقة العناية بالافراخ ضمن العائلة وتوريثها للنسل الصالح، عوضا عن خسارة النسل لصالح الحيوانات المفترسة، الامر الذي يحقق افضلية تطورية عالية.
الموديل الكمبيوتري يظهر بوضوح ان الكنيباليزم يمكن ان يكون سلوكا ناجحا في الصراع الدائم للوصول الى افضل نسل. هذه السلوكية اكثر شيوعا لدى الاسماك، إذ لاحظ العلمء ان العديد من انواع الاسماك يقوم الوالدين بأكل صغارهم وعلى الاخص الاباء منهم.
اغلب انواع الاسماك لاتهتم برعاية صغارها وانما تكتفي بوضع كمية كبيرة من البيض، لتتركهم في رعاية الطبيعة. بعض انواع الاسماك لديها فطرة حماية صغارها ضد الاسماك المفترسة ونحاول تزويدهم بالمياه الغنية بالاوكسجين وتنظفهم من الطفيليات والاوساخ بعناية. المثير انه يوجد كنيباليزم ضمن الوالدين الذين يبدون رعاية واهتمام كبير بصغارهم. لهذا السبب يقف الذكر امام خيارات صعبة. من الذي يجب ان يموتوا وكم عددهم؟ القرار مرتبظ بظروف البيئة وله اهمية قصوى لمستقبل تطور " العائلة". القرار هو نتيجة لمجموعة من التنازلات المتوازنة بين استغلال موارد البيئة للحد الاقصى وبين تفادي استنزافها. إذا قام بقتل عدد اكبر من اللازم يضيع فرصة تزايد طبيعية ممكنة، في حين إذا قام بقتل عدد قليل فإن الباقين على قيد الحياة سيتصارعون على الموارد ويملكون حظوظا قليلة في الوصول الى فترة النضج، الامر الذي يعني طريق مسدود من منظور التطور.
الباحثين Hope Klug & Kai Lindström, من اكاديمية آبو (Åbo), قاموا بإختبار كيفية قيام ذكور سمك Pomatoschistus minutus بإختيار الصغار التي يجب ان تموت. هذا النوع من الاسماك يقوم ذكوره برعاية الصغار بدون مشاركة من الاناث. في سعي الذكور للحصول على اكبر عدد ممكن من النسل يقوم ، عادة، بتلقيح بيوض قادمة من انثيين. الباحثين اكتشفوا ان الذكر يقوم، غالبا، بأكل البيوض الكبيرة من الانثى الثانية التي لقح بيوضها. على الاغلب ان البيوض الكبيرة تأخذ وقتا اطول لتفقس، إضافة الى ان الانثى الثانية وضعت بيوضها في اليوم التالي لبيوض الانثى الاولى. من خلال تصنيف البيوض الى كبيرة ومتأخرة والتركيز على الصغيرة والاسبق يكون قد جعل رعايته للبيض اكثر فعالية. بهذا الشكل يكون قد وفر وقت ليتمكن من العودة سريعا لتلقيح المزيد من البيض.
انواع اخرى من الاسماك تحدث وظيفة التطور فيها بواسطة الصغار انفسهم. هذا الامر يختص بالاتواع التي لاتضع بيض وانما تقوم بولادة صغارها على الفور. في هذه الحالة ينضج الصغار في بنية تذكرنا بالرحم عند الحيوانات الثديية. في فترة الحمل يقوم الجنين الكبير بأكل اخوه الاصغر والاضعف. ذلك يعني ان الصغير يزول تحت تأثير الطبيعة التي لاتملك رحمة، وقبل ان يحصلوا على فرصة للدفاع عن انفسهم. قتل الاخوة لبعضهم في رحم الام معروف لدى العديد من الانواع من بينها بعض انواع اسماك القرش والاسماك العظمية Osteichthyes والسملمندر Salamandra salamandra.
قتل الاخوة لبعضهم لايحدث فقط في رحم الام وانما، عند بعض الانواع، يحدث مباشرة بعد الولادة، وتشكل السبب الاول لموت الصغار لدى الضباع المنقطة. صراع الصغار للبقاء على الحياة يبدء منذ لحظة الولادة، وكل رابع جرو يموت على يد اخوه او اخته. الام لاتعمل على منع او وقف الصراع وانما تشجعه بطريقة غير مباشرة. في دراسة امريكية نُشرت عام 2006 ظهر انه في الاسابيع الاخيرة من الحمل لدى انثى الضبع، تقوم الام بفرز هرمون الاندروغين ومن خلال الرحم ينتقل الى الصغار ليجعلهم مؤهلين لقتل اخوانهم.
قتل الاخوة مشهور ايضا لدى الطيور. من المعروف ان النورس من نوع Sula granti, (nazca sulor), يضع بيضتين فقط في الموسم الواحد، غير ان الثانية تلعب دور الضمان لاغير، في حال إذا ماحصل حادث مع البيضة الاولى، حيث ان الفرخ الذي يخرج من البيضة الاولى يقوم بدفع البيضة الثانية الى خارج العش او يقوم بقتل الفرخ الذي يخرج منها ليبقى وحيدا.
قتل الصغار لايحدث فقط في البحار وانما ايضا على اليابسة. حشرة حفارة القبور، Nicrophorus investigator وهي خنفسة تأكل جثث الطيور وصغار الحيوانات. ولكي تصل اليهم تقوم بحفر انفاق تصل في النهاية الى تحت الجثة وبعد ذلك تجرهم الى تحت الارض. عادة تعمل هذه الخنفسة في ازواج. الانثى تقوم بوضع بيوضها في الجثة التي جرى سحبها الى داخل الارض، وكلا الابوين يقومان بحراسة الجثة في الوقت الذي تقوم فيه اليرقات والكبار بأكل الجثة. من الواضح ان هذه الطريقة تجعل الخصوصيات البيلوجية لهذه الخنفس تحد من مصادر الغذاء.
البحث المختبري اظهر ان جثة بوزن 10-15 غرام غير قادرة على إطعام عائلة كاملة من خنفسة حفار القبور. الانثى تضع الكثر من البيوض، وإذا لم يقم الوالدين بتصنيف البيوض فإن الصغار سيكونون قلة وضعاف، ولكن الوالدين يقومون بتصنيف البيوض. الخنفسة حفارة القبور تضحي بنفسها من اجل صغارها، حيث تقوم بتأمين الغذاء وتبني وتحافظ على انفاق تحت الارض تحتوي على غرفة الجثة وغرفة للصغار وغرفة احتياط، وتطارد الحشرات الغريبة وتبقى الى جانب الصغار طوال فترة نموهم. غير ان هذه الرعاية ليست بدون حدود. الوالدين يقومون، بدون رحمة، بالمحافظة على التناسب بين اعداد الصغار وكمية الطعام المتوفرة، من خلال قتل الزائد من الصغار بحيث ان افضل واكبر عدد ممكن من الصغار يبقى على الحياة ويتمكن من التكاثر.
من الصعب التفكير ان قتل الكائنات لاطفالها يمكن ان يقدم افضلية تطورية، غير ان قتل النسل ظاهرة شائعة في عالم الحيوان عند العديد من الانواع، خصوصا عند الانواع التي تبدي حرصا شديدا على نسلها. لازال البيلوجيين يبحثون عن اسباب قتل الصغار لدى بعض الانواع، غير انهم تمكنوا من حل اسباب المعضلة لدى مجموعة كبيرة من الانواع، وكل المعطيات تشير الى انها ليست ظاهرة استثنائية او صغيرة وانما احد الطرق الفعالة في الصراع على البقاء والاستمرار على قيد الحياة كنوع، حيث تضمن إمكانية نمو افضل وتضمن استمرار تطور النوع.