** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

 

 المسألة الدينية عند كانط (1) الشرّ الجذريّ في الطبيعة الإنسانية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
بن عبد الله
مراقب
مراقب
بن عبد الله


التوقيع : المسألة الدينية عند كانط (1)  الشرّ الجذريّ في الطبيعة الإنسانية Image001

عدد الرسائل : 1516

الموقع : في قلب الامة
تعاليق : الحكمة ضالة الشيخ ، بعد عمر طويل ماذا يتبقى سوى الاعداد للخروج حيث الباب مشرعا
تاريخ التسجيل : 05/10/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 8

المسألة الدينية عند كانط (1)  الشرّ الجذريّ في الطبيعة الإنسانية Empty
09072011
مُساهمةالمسألة الدينية عند كانط (1) الشرّ الجذريّ في الطبيعة الإنسانية



المسألة الدينية عند كانط (1)  الشرّ الجذريّ في الطبيعة الإنسانية Arton7400

في كتابه عن الدين والعلم، عقد هابرماز فصلا بيّن فيه أهميّة فلسفة الدين
الكانطية وراهنيتها. الفلسفة الكانطية حسب هابرماز هي نتاج للتنوير ونابعة
من عقلانيته. إلاّ أنّ تحليلات هابرماز لم تقنعني بما فيه الكفاية لأنّ
كانط -في نقطة هامّة من فلسفته الدينية- يذهب رأسا ضدّ التنوير
والعقلانية، وأقصد بالتحديد نظرته للطبيعة الإنسانية.

هناك رأيان متعارضان في ما يخُصّ مَسألة الشرّ وحَالة العالم وصيرورته:
الرأي الأوّل تشاؤميّ بالأساس يذهب إلى أنّ العالَم يسير من سيّء إلى
أسوأ، وحسب هذه النظرة ليس هناك تقدّم في سيرورة العالم ولا تطوّر، بل
هناك تراجع نحو الانحلال، لقد اقتربت الساعة وكلّ ظواهر الانحطاط والفساد
تنبئ بقرب نهاية كلّ شيء.

وفي تعارض مع هذه النظرة القيامية التي تشترك فيها كلّ الأديان هناك رأي
ثان، يدعوه كانط بـ" الرأي البطوليّ" (heroische Meinung)، الذي تمسّك به
الفلاسفة، ومفاده أنّ العالم يسير دون توقّف نحو التحسّن، والطبيعة
الإنسانية ذاتها تقدّم لنا الدليل على ذلك الاستعداد الكامن في الإنسان
والذي يقوده إلى فعل الأصلح "هذا الرأي ـ يقول كانط ـ لم يجد رواجا إلاّ
عند الفلاسفة، وفي أيامنا هذه عند البيداغوجيّين(1)"

"إنّنا نتألّم مِن عِلَل يمكن مداواتها، والطبيعة نفسها، التي ولّدتنا
للاستقامة، تساعدنا إن أردنا ذلك"، الإنسان والطبيعة في وِئام، إذ يكفي أن
يطوّع الإنسان إرادته كي يحيا في سعادة. هكذا يقول الفيلسوف الرواقي
سينيكا، الذي استشهد كانط بجملة من كتابه في الغضب (De Ira).

ويبدو أنه حسنا فعل، لأن ذاك الكتاب يُعبّر أحسن تعبير عن التفاؤل
الأنثروبولوجي الإنسانوي الذي تَميّز به الخطاب الفلسفي عند الرّواقيّين.
« مَن أَلْطَفُ مِن الإنسان؟ (Quo quid est mitius?) …. مَن يحبّ الآخرين
أكثر مِن الإنسان (Quid homine aliorum amantius?) … الإنسان وُجد لِكَي
يتعاون مع أمثاله (Homo in adiutorium mutuum genitus est) … إنه يرغب في
العيش مع بني جنسه (hic congregari vult). […] حياة الإنسان مبنية على
الأفعال الحسنة والوئام، وهي ليست مدفوعة … بالخوف ولكن بالمحبّة
المتبادلة(2)». إنها فلسفة التفاؤل والأخوّة والفضيلة، وهي نابعة من فكرة
مركزيّة ومحدّدة بمقتضاها تُتَصوّر طبيعة الإنسان على أنها خيّرة بالأساس،
أمّا الشرور فلا تُفسد أبدا من جوهره ولا تخرّب من براءته لأنها أمور
عرضيّة ويمكن أن تداوى بمساعدة الطبيعة ذاتها.

أين تكمن نظرة كانط في خضمّ هذين الطرفين المتقابلين؟ كانط يعارض كليهما
ويحاول أن يشقّ طريقه الخاصّ بينهما. السؤال هو: هل من الممكن اعتبار
الإنسان، حسب النوع الطبيعي الذي ينتمي إليه، لا هو بالخيّر ولا هو
بالشرّير؟ أو بالأحرى، هل يمكن أن يكون الإنسان بالطبيعة هذا أو ذاك، يعني
شريرا في بعض الحالات وخيّرا في البعض الآخر؟

في البداية لا يجيب كانط عن هذين السؤالين، بل يُحوّل وجهة الموضوع
ويحاول، قبل كلّ شيء، إيضاح المسألة بإعطاء تعريف للإنسان وطبيعته
الجوهريّة. ما هي طبيعة الإنسان؟ طبيعة الإنسان هي الأساس الذاتي لاستعمال
الحرّيّة الإنسانية بصفة عامّة (تحت قوانين أخلاقيّة موضوعيّة)، أساس سابق
لكلّ الأفعال الصادرة عنه(3). وتلك الطبيعة، كأساس ذاتي، يجب أن تكون
بالضرورة اختيارا حُرّا، لأنه لو لم تكن كذلك لما تحمّل الإنسان مسؤوليّة
انحرافاته وخروقاته للقانون الأخلاقي.

أساس الشرّ إذن لا يُمكن أن يوجد في أيّ موضوع خارجيّ يحدّد الإرادة
الحرّة ونزوعاتها، لا يمكن أن يوجد في أيّ دافع طبيعي، بل يكْمُن فقط في
قاعدة أَقَامَتْها الإرادة الحرّة لذاتها في ممارسة حرّيّتها، يعني أنها
لا توجد إلاّ في مُسلّمة (Maxime). وبخصوص ذاك الأساس الذاتي، منبع أفعال
الإنسان والدّافع لها، نحن لا نعرف شيئا ولا يمكننا إدراكه البتّة: «
عندما نقول: إن الإنسان خيّر بالطّبع، أو إنه شرّير بالطبع، هذا يعني فقط
أن الإنسان يحمل في ذاته أساسا أوّليّا (ersten Grund)، (لا نستطيع
إدراكه) بمقتضاه يمكن له تَبنِّي مُسلّمات خيّرة أو مسلّمات شرّيرة
(مخالفة للقانون)(4)».

كلّ شخص له طبع يميّزه عن بقيّة الكائنات العاقلة الممكنة، وهذا الطبع
غريزي فيه، لذلك فإن أيّ ذنب (إن كان هذا الطبع شريرا) أو استحقاق (إن كان
خيّرا) ليس طبيعيا، بل هو نابع من الإنسان ذاته، لأنه هو الفاعل له.

يبدو أن كانط اختار الحلّ الذي يقول بأن الإنسان يحوي في ذاته مبدأي الشرّ
والخير. أقول "يبدو" لأنّ الرجل عقّد الأمور وأطال ولم يفصح بوضح عن رأيه،
بل استعمل لغة جافّة مُضنية وتقسيمات متشعّبة وتكرارا قد يلهي القارئ
ويصدّه عن المسك بجوهر موقفه ومغزى أطروحته التي يتبنّاها فعلا.

الأساس الأوّلي، الذي على غراره نتبنّى مسلّمات عملنا الأخلاقي ليس معطى
تجريبيا؛ وبالتالي فالخير والشرّ الحاضران في الإنسان هما "غرائز" بمعنى
أنّهما وُضِعا كأساس أوّلي في جبلّة الإنسان قبل أي استعمال للحرّيّة في
المجال الخارجي، أي قبل أيّة ممارسة عمليّة، إذن "هذان الأساسان
الأَوَّلاَن يُتصوّران على أنهما غرائز شبّ عليهما الإنسان منذ الولادة،
دون أن تكون الولادة هي سببهما(5)".

المسألة التي خاض فيها كانط هنا هي مسألة خطيرة، تطرح تحدّيات نظريّة،
فلسفية ولاهوتيّة كبرى وتثير قضايا أخلاقيّة وميتافيزيقية لا يمكن تخيّل
صعوبتها. الشيء الذي يشدّ الانتباه، في العرض الذي قدّمه كانط، هو برودة
الدّم والتماسك الواثق من نفسه. وأظنّ أن كانط كان يكتب نصه هذا بِكلّ
تَجرّد ولا تَختَلجُه أيّ عاطفة، بل هَمُّه الوحيد هو التسلسل المنطقي
وإحكام المفاهيم والمقدمات ثمّ استخلاص النتائج. وهذه بمعنى ما فَضيلة
كبرى في عمل الفيلسوف، والنّهج الأقوم والأصحّ في تحييد الحقيقة الفلسفية
من كلّ ما هو خارج عنها. ولكنها تُصبح مُخيّبة للآمال إن عَلِمنا بأنّ كلّ
بُرودة الدم تلك وذاك التجرّد المَحمود يَقبَعان فوق نَسيج مِن اللاعقل،
وتُحرّكهما ترسُّبات لاهوتيّة غير مُعلَن عنها لكنها تَطفو إلى السطح من
حين لآخر.

الاستعداد الأولي للخير في الطبيعة الإنسانية:
حول الطبيعة الإنسانية، يمكن القول بأنها شرّيرة في ذاتها "مَا مِن أحد
بارّ، لا أحد. مَا مِن أحد يُدرك، ما من أحد يبتغي وجه الله. ضلّوا جميعا
ففسدوا معا. مَا مِن أحد يعمل الصالحات لا، ولا واحد" (رسالة بولس الرسول
إلى أهل رومية، الإصحاح III، 10 ـ 12). بهذه الآية من الإنجيل (نقلها بولس
من العهد القديم مزمور 14، 1ـ3) يختتم كانط الفصل المخصّص للنظر في
الطبيعة الإنسانية وعلاقتها بالشرّ. ويبدو، في نهاية المطاف، أنّ هذه
الآية من الإنجيل تصوّر فعلا ما يتبنّاه كانط وما يعتقده شخصيّا بخصوص
الطبيعة الإنسانية: إنها طبيعة متجذّر فيها الشرّ ومتمكّن من كلّ البشرية،
لا أحد بارّ، الكلّ في فساد. لقد استشهد كانط بهذه الآية في نهاية الفصل
الذي عقده تحت عنوان «الإنسان شرّير بطبعه»، وقد يتساءل المرء هل أنه كان
يمتلك منذ البداية النتيجة وطوّع إليها تحليلاته أم أنّ دراسته الموضوعيّة
لمسألة الشرّ أخلصته بمحض الاتفاق إلى تلك الآية من رسالة بولس.

ولكن يبدو أن كلّ الدلائل تقود إلى ترجيح الافتراض الأوّل؛ ونحن نعلم أن
الديانة البروتستانتية والثورة العقائدية التي أحدثها لوثر، تَمّت عن طريق
مباشرته أفكار بولس الرسول والنسق اللاهوتي للقديس أوغسطينوس، وهي أفكار
تشاؤمية في جوهرها تعتقد أن الخطيئة الأصليّة قد أفسدت الطبيعة الإنسانية
بلا رجعة وأنه مِن يوم أن عصى آدم أوامر الله وأنزله إلى الأرض وقضى عليه
بالموت فإن تلك الخطيئة أصبحت إرثا ملازما لذرّيّته إلى الأبد.

هناك نزعة (Hange) للشرّ كامنة في الطبيعة الإنسانية منذ البداية. ما هي
النزعة؟ النزعة هي الأساس الذاتي لإمكانية ميل ما؛ وتتميّز عن الاستعداد
لأنها تصبح نزعة مكتسبة، إن كانت خيّرة، ومُحَصّلة، إن كانت شرّيرة(6).
وإذا كان من المسموح به الاعتقاد بأن تلك النزعة تنتمي كلّيّا إلى
الإنسان، يعني تخصّ طبع نوعه (Charakter seiner Gattung)، فإنه يمكن
تعريفها والقول بأنها « نزعة طبيعية للإنسان نحو الشرّ(7)» (einer
natürliche Hange des Menschen zum Bösen).

لا ينجو، حسب كانط، من هذه النزعة أيّ شيء مِن الإنسان: لا قلبه من الفساد
(die Verderbtheit "corruptio" des menschlichen Herzens ) ولا إرادته
الهشّة (Gebrechlichkeit) ولا طبيعته المُدنّسة (Unlauterkeit). وكلّ هذه
النقائص لا تنطبق على الأشخاص فقط بل تلفّ الإنسانية جمعاء السابقة
واللاحقة إلى الأبد، إنها، أي تلك النزعة، تكمن في صميم طبيعة الإنسان
وتترابط وثيق الترابط معها.

هذا اقتناع راسخ ومتجذّر عند كانط إلى درجة أنه يصدّ أيّ رأي مغاير،
ويفعل ذلك لا بحجج عقليّة بيّنة ولا بتقديم أي صنف من أصناف البراهين
المنطقية، بل بنوع من التقرير الإيماني المتزمّت. ويبدو أن كانط، حين
كتابته هذا النصّ، كانت تجول بخاطره أفكار روسو والفلاسفة الماديين
الفرنسيين الذين أجمعوا على خيرية الطبيعة الإنسانية. وانغلاق كانط هذا
يظهر بوضوح حينما يعارض الفكرة القائلة بأنّ ما هو شرّ أخلاقيّا، أي ما
يتحمّل الإنسان مسؤوليّته، يقتصر على الفعل الخارجيّ فقط. لكنالنزعة نحو
الشرّ، بالنسبة إليه، هي حقيقة فعل ما، ولكنها فعل مِن حيث أنها تملك
وجودا قائما بذاته: فهي، من جهة، الأساس الصوري (der formale Grund)، أو
المنبع الرئيسي للخطيئة الأصلية (Peccatum originans)، ومن جهة أخرى هي
الأساس المادي لأيّ خرق للقانون، أي لكلّ رذيلة (الخطيئة الثانية).
والنتيجة هي أنّ الأولى، أعني الأساس الصوري، تبقى مطبوعة في الإنسان حتى
ولو أنّ الثانية، أي الرذيلة، وقع تفاديها. وإذا عبّرنا عن هذه الفكرة
بلُغة أقلّ تعقيد نقول: الطبيعة الإنسانية (الأساس الصوري) فاسدة من
الأساس بسبب الخطيئة الأصليّة (السقوط)، وفي حالة أننا افترضنا وجود إنسان
لم يفعل في حياته قطّ أيّ رذيلة فإن ذلك لن يجعل منه إنسانا خيّرا بالطبع
ولا ينزع عنه صفة الشرّ الملاصقة لطبيعته، لأن العمل الخارجي لا ينفي تلك
الطبيعة المتجذّرة في النوع بأسره.

هنا تحوّلنا إلى خطاب ديني مسيحي وبالتحديد بروتستانتي: لقد نسِي كانط
التنوير ومبادئه الأخلاقية والنظريّة، وتغاضى عن قِيَم التفاؤل والتقدّم
المستمرّ وخيرية الإنسان؛ كلّ هذا غاب عن ناظريه، وسقط في الخطاب الأكثر
تشاؤما ورجعية. الخطيئة الأصليّة كنزعة غريزية مجبول عليها الإنسان بحيث
أنه لا يمكن اجتثاثها منه أبدا.

الإنسان شرّير بالطبع إذن (der Mensch ist von Natur böse): لا يمكن
لكانط أن يردّد على مسامع الفلاسفة الذين هم دائما حاضرين في ذهنه ـ لأن
كتاباته تتوجّه دائما للمفكرين والمنظرين المختصين لا للعامة ـ أقول لا
يمكن له أن يردّد أطروحات اللاهوت البروتستانتي هكذا في عرائها، (وهو واع
بذلك لأن الاعتقاد بأن الإنسان شرّير بطبعه هو من بين الثوابت الأساسية في
اللاهوت البولسي الأوغسطيني التي شيّد عليها لوثر مذهبه الجديد(8))، دون
أن يُلطّف من حدّة وقعها. والمخرج الذي ارتآه كانط هو العمل على إدماجها
في صلب تعاليمه الأخلاقية وإعادة صهرها في نسقه الفلسفي، بلُغة مُعقّدة
ومتكلّفة بعض الشيء، لكن الفكرة واحدة ومغزاها الأنثربولوجي يبقى هو هو:
«القَضيّة "الإنسان شرّير" لا تريد أن تقول أكثر من هذا: أي إنّ الإنسان
واعٍ بالقانون الأخلاقي، ولكنّه في مسلّمته (Maxime) وَافَق على الابتعاد
(ظرفيّا) عنه(9)".

بمثل هذه التقنية التعبيرية يُمكن أن تُحَيَّد خطورة الأطروحة الدينية
اللاهوتيّة، بل تُصبح خارجة حتى عن مجال اللاهوت نفسه، ويمكن أن يَتفوّه
بها أيّ إنسان يُشاهد في ذاته وفي الآخرين الفارق بين الوعي بالفضيلة
والعزوف عن تحقيقها في الواقع. وهذا أمر يَدخل في إطار ضعف إرادة الإنسان
وعزمه الواهن، ولا يَمسّ طبيعته الخيّرة بكلّيتها.

لكنّ كانط، وهذا رأيي، لا يريد أن يحيد عن قناعته الدينية البروتستانتية
من أن الطبيعة الإنسانية، مع سقوط آدم، حُكم عليها بالفساد وطُبعت جذريّا
على الشرّ. وقد يستثير فينا نوعا من التعجب تأكيده على أن الرأي النقيض هو
رأي الفلاسفة، فكَمَا لو أن الرّجل لا يعدّ نفسه مِن زمرتهم، ولا يَتبنّى
رأيهم البطولي حول الطبيعة وخيريتها المبدئية، ولا حتى يوافقهم على
نَعتِهم مُعتَقد الخطيئة الأصليّة، كما فعل فولتير، بأنه مُعتقد دَنِيء
(infâme)، مُقزِّز وفَظّ (cruel).

ونحن المسلمين، وكلّ من ينتمي إلى الثقافة الإسلامية، لا نستسيغ نوعا ما
هذه الأطروحة، لا لأننا نملك بديلا كلّه تفاؤل بخصوص الطبيعة الإنسانية،
بل لأنه وقع إهمالها، ذلك لأنّ الخطيئة الأوليّة، في اللاهوت الإسلامي، لا
تملك المَغزى الكبير والمُحدِّد في اقتصاديات الخلاص كما هو الشأن في
اللاهوت المسيحي. ويبدو أن تعاليم الدين الإسلامي وحتى القرآن ذاته لا
يُمكن أن نشتقّ منهما نظرة أنثربولوجيّة تفاؤليّة : فوجود الإنسان على وجه
الأرض يبقى دائما نِتاج خطيئة، أو معصية اقترفها أبو البشر في حالته
الأولى، والتي جرّ بها ذريته إلى نفس مصيره؛ وخلاص الإنسان غير متاح في
هذه الأرض بل في الآخرة بعد جُهد الطاعة والعبادة والتمسّك بتعاليم
الرسالة المحمّديّة. ولو ناقش اللاهوت الإسلامي الأمر بجدّيّة لتوصّل إلى
نفس النتيجة التي انتهى إليها اللاهوت المسيحي : وهو أنه بعد الخطيئة
الأولى كلّ بني آدم مُمكني الوجود أصيبوا بهذه اللعنة، وأن الطبيعة
الإنسانية فعلا قد دُنّست بلا رجعة(10).

ولا أدري، إن سلمنا بتفرّد الإرادة وبأنّ المسؤولية ترجع للشخص مباشرة،
كيف يمكن أن نعتقد في تحمُّل أجيال من البشرية ضنك العيش على هذه الأرض
بسبب خطيئة لم يقترفوها ومعصية هم في حِلّ منها؟ كيف يمكن أن يقترف
الإنسان خطأ ما وهو لم يولد بعد؟ ومن وجهة نظر لاهوتية، هذا المعتقد يخالف
فكرة العدل الإلهي : لماذا لم يمنع الله آدم من اقتراف الخطيئة إن كان
يعرف مسبقا أنه سيقترفها؟ إن الإله الذي لأجل خطيئة شخص واحد يَحكم بسقوط
الجنس البشري بأكمله، ويُعذّب الأطفال الرضعّ غير المعمّدين في نار جهنّم،
رغم أنهم لم يقترفوا أيّ ذنب، هذا الإله ليس بحكيم ولا عادل ولا خيّر. كيف
لا وهو الذي يعاقب الأبرياء بذنوب المجرمين، ويُجَرِّم من لم يفعل شيئا:
«إنه الانتقام الوحشي وليست عدالة الناس المتنوّرين […] إننا نخجل أن ننسب
إلى الله ما سنندم عليه نحن أنفسنا، لو كنا، كبشر مشرعين، قد وضعنا هذه
القوانين(11)".

لكن قد يعترض رجل الإيمان قائلا بأن هذه أسرار دينيّة وغيبيّات ولا يمكن
الغوص فيها بالعقل وإلاّ فإنها ستفقد من سرّها وستنقشع عنها هالتها
القدسية. وبعد، فالعقل الإنساني بطبيعته محدود، ومعرفتنا لا تتجاوز إطار
ما تقدّمه لنا التجارب الحسية، التي تخضع دائما للجواز والتزمّن. فالكون
هو أرحبُ من أن يٌستنفد في مداركنا العقلية أو الحسية.

إنه اعتراض العقل المستقيل، عقل الإيمان والتصديق لا العقل الكاشف
المتحرّر: الفيلسوف المخلص لعلمه يردّ بأنه لا سرّ في تعاليم الدين ولا
شيء في لاهوته يفوق العقل أو يتجاوز حدوده، بل إن العقل، كما قدر على سبر
أغوار الطبيعة وكشف أسرارها، قادر، بالمثل، على فحص "الأسرار" الدينية
وإماطة اللثام عنها وإرجاعها إلى أسبابها وعللها المادّيّة الطبيعية.

وأراهن على أن كانط بين هذين الخيارين وبين الموقفين المتضاربين سيتحالف
مع رجل الإيمان ويترك الفيلسوف في شأنه، لأنه سدّ الباب أمام أيّ تطلّع
نحو معرفة حقيقية تامّة بالطبيعة وطوّق العقل في بوتقة من المقولات
الأبدية المُحكمَة التي لا يمكن له أن يتجرّد منها أبدا. ومن هذا المنطلق
فإنّ المرور إلى سدّ الباب أمام معرفة أسرار الدين سهل جدّا؛ هذا أمر وارد
ومعاين، فكلّ الذين حدّدوا مجالات العقل أو قسّموا مناطق نفوذه، ارتموا
أخيرا في أحضان اللاعقل والإيمان. وهذا ما تفطّن إليه أحد الفلاسفة
الفرنسّيين الجريئين (Pierre Bayle) حينما قال: «إن التركيز على نقائص
العقل لهو تهيئة سعيدة للإيمان: ومن هنا فإن السيد باسكال (Pascal) وبعض
المفكرين الآخرين قالوا بأنه لكي نهدي الملحدين يجب إذلالهم في شأن العقل
وتعليمهم كيف يَتحدَّونه(12)".

مِن الصّعب جدّا أن يوفّق المرء بين مَطلبين مُتضاربين، لا يمكن للفيلسوف
أن يخدم إلَهين؛ يجب الاختيار: إمّا العقل أو الإيمان ولا ثالث بينهما.
لكن يبدو أنّ كانط قد اتّبع الطريق الأصعب والأعسر، أي طريق الجمع
والتوفيق، لأنّ الرجل لا يمكن له أن يفرّط في "العقل" وبالمثل لا يمكن له
أيضا أن ينتقص من الإيمان، ولا يدخل حتى في مشمولات تنظيره ككلّ إبعاد
الدين عن أن يكون عاملا مهمّا ومحدّدا في حياة البشر. سأناقش بالتفصيل هذا
الخيار الكانطي فيما بعد.

أعود إلى ما كنت فيه: الإشكالية المطروحة هنا هي إشكالية الخطيئة الأصليّة
وما تبعها من انغراس الشرّ في طبيعة الإنسان، وكيف تعامل كانط مع هذه
الفكرة الدينية التي استحوذت على تعاليم اللاهوت المسيحي عموما
والبروتستانتي خصوصا.

خلاصة القول والنتيجة النهائية التي توصّل إليها كانط هي أنّ "الإنسان
شرّير بطبعه"، وهذه العبارة تذكّرنا بنقيضتها «الإنسان خيّر بطبعه»؛
والأمثلة التي أوردها كانط، للبرهنة على أطروحته تلك، هي أمثلة مُستمدّة
من نفس الإطار المرجعي الذي اتخذه الفلاسفة الفرنسيّون للبرهنة على
أطروحتهم النقيض، أي، من نمط حياة الشعوب "البدائيّة". وكانط نفسه يقودنا
إلى هذه الملاحظة وهو واع بأنه يعارض أولئك الفلاسفة، حيث يقول : "إذا
أردنا أمثلة مستمدّة من تلك الحالة التي رغب الفلاسفة أن يقفوا بواسطتها
وبصورة شفافة عن الطبيعة الخيّرة المجبول عليها الإنسان يعني ما يسمّى
بحالة الطبيعة، يكفي [لنقض تلك الفرضيّة] مقارنتها بالمشاهد المرعبة
للوحشية التي تقدّمها لنا مذابح طوفو في زيلندا الجديدة، وفي جزر
الملاّحين، والمذابح اللامتناهية التي تحدث في الصحارى الشاسعة من الشمال
الغربي في أمريكا دون أن يربح أيّ أحد منهم ربحا ما(13)». هذه الأمثلة
تُبيّن، حسب كانط، أن تلك الحالة الطبيعية التي أشاد بها الفلاسفة
الفرنسيون وجعلوا منها مقدّمة للبرهنة على خيرية الطبيعة الإنسانية
يكذّبها العيان، ولا تفسير لمظاهر العنف تلك إلاّ بالقول بأن أولئك الناس
"مدفوعون بغريزة طبيعية نحو الشرّ".

أنثربولوجيا الأديان التوحيدية
إن الاستنتاج أعلاه يتماشى مع ما جاء في الكتاب المقدّس. كيف تروي لنا
التوراة والإنجيل (والقرآن) الخطيئة الأصليّة؟ وماذا يمكن أن نستخلص منها
عقليّا بشأن مسألة الشرّ الجذري وطبيعته؟ يُجيب كانط: «حسب الكتاب
المقدّس، الشرّ لا ينشأ على أساس نزعة ما، لأنّ نشأة الشرّ، في تلك الحال،
لن تنبع من الحرّية بل من الخطيئة (أي من خرق القانون الأخلاقي باعتباره
أمرا إلهيّا). الحالة التي كان عليها الإنسان قبل أي نزوع للشرّ، تسمى إذن
حالة البراءة (Unschuld). القانون الأخلاقي فُرض على الإنسان في البداية
على شكل منع (تحريم) (Verbot). ومن الضروري أن يكون كذلك لأن الإنسان كائن
غير طاهر بل هو عرضة للإغراء. لكن عوضا أن يتمسّك مباشرة بذاك القانون
كدافع كافٍ (الدافع الوحيد اللامشروط الخيريّة)، فإن الإنسان ذهب للبحث عن
دوافع أخرى، ليست خيّرة إلاّ بصيغة مشروطة. وهكذا […] فقد تبنّى مسلّمة
تقوده إلى اتّباع الواجب لا من أجل الواجب ذاته وإنّما لأجل غايات أخرى
أيضا. عند هذا الحدّ بدأ الإنسان يضع موضع شكّ صرامة الأمر، الذي يستبعد
تأثير أيّ دافع آخر؛ وبعد هذا بدأ يجادل في طاعة هذا الأمر، حتى اختزلها
إلى وسيلة مشروطة (في خدمة مبدأ حبّ الذات)؛ الشيء الذي دفعه أخيرا إلى
إضفاء المكانة الأسمى، في بديهية أفعاله، للدوافع الحسّيّة على حساب
الدّافع المستمدّ من القانون، وهكذا سقط في الخطيئة (14)".

حِكاية خياليّة، إنّها أسطورة النشأة الأولى المُستَمَدّة مِن أساطير
شرقيّة قديمة وقع هنا تَهْذيبها لُغويّا ثمّ صَهْرها في قوالب فلسفة كانط
الأخلاقية : جوهر الخطيئة الأصليّة التي اقترفها آدم يكمن في عدم احترامه
للقانون في ذاته دون غايات أخرى. ما المغزى النظري لهذه الأسطورة؟ وما
علاقتها بحياة الإنسان وبسلوكه الدنيوي؟ وهل من الممكن أن تكون قاعدة
لتشييد أنثربولوجيا ما؟ يجيب كانط، مستشهدا بقولة للشاعر اللاتيني هوراص
(Horace) " إذا غيّرنا الاسم، فالحكاية تتحدّث عنك («Mutato nomine de te
fabula narratur"). ومن هو ضمير المُخاطَب يا ترى؟ إنه الإنسان. فعلا هذه،
حسب كانط، هي وضعيتنا في الحياة اليومية: كلّنا ورثنا الخطيئة الأصليّة،
أي "كلّنا أخطأنا في آدم" ومازلنا إلى الآن نعيش في تلك الخطيئة. الفرق
بيننا وبين الإنسان الأوّل هو أن هذا الأخير كان ينعم بحالة من البراءة
سبقت زمنيّا اقترافه الخطيئة، ولذلك فذنبه يسمى خطيئة أولى، أمّا بالنسبة
إلينا نحن فأخطاؤنا هي نتيجة لشرّ مجبولة عليه طبيعتنا.

إنّه إصرار عنيد، أمر حقيقة يدعو للشفقة: هذا الموقف المرعب من الطبيعة
الإنسانية سواء على المستوى النظري أو على المستوى العملي. فأسطورة الهبوط
أو النزول التي اخترعها خيال الإنسان الماقبل علمي، مَهْمَا هُذّبت لغويّا
ومهما ضُخّ فيها مِن مَدَدٍ مفهومي، لا يمكن أبدا أن ترقى إلى درجة
المعقولية: إنها أسطورة لا أكثر ولا أقلّ، أي خارجة عن العقل بل نقيضة
له. المؤمن يكتفي بحرفية تلك الأسطورة ويعتقد في واقعيتها، والفيلسوف
يرفضها جملة وتفصيلا، بل يناهضها لأنها سَجنت عقول الناس وحجبت عنهم
التفسير العلمي للأشياء. لكنّ كانط لم يرفضها، بل إنه اكتفى بالتعبير عنها
بلُغة رصينة وبأفهمتها وتنظيرها طبقا لقواعد فلسفته العملية.

قبل أن يُنهي كلامه عن الشرّ الجذري، وبعد أن قال عنه كلّ تلك الأشياء
وحدَّده طبقا لقوالب فلسفته فإن كانط، كما حدث لموضوع العقل الخالص
والأشياء في ذاتها، ادّعى أنّ «المَصدر العقلي لتلك النزعة نحو الشرّ يبقى
مستحيل الإدراك». فعلا، الشرّ لا يُمكن أن يصدر إلاّ من شيء قبيح أخلاقيا،
لكن الاستعداد الأوّلي للإنسان هو استعداد للخير. النتيجة هي أننا لا نقدر
على إدراك الأساس الذي مِنه نَبَع الشرّ الأخلاقي الذي هو فينا(15).

المسألة لم تنته عند هذا الحدّ لأن كانط يعيد الكرّة ويحاول جرّ الكتاب
المقدّس للتعبير عن قناعته الدينية الفلسفية. لقد عبّر الكتاب المقدّس عن
هذه المعضلة، أي كيفية صدور الشرّ «بتلك القصّة التاريخية، حيث وضع الشرّ
في بداية العالم، ولكن ليس في الإنسان بعد، بل في كائن روحي كان في
البداية ذا مرتبة عليا(16)». ومغزى هذه القصّة، حسب تأويل كانط، هي أن
الإنسان قد سقط في الشرّ بعد أن أغواه الشيطان، لا لأجل أنه فاسد من
أساسه، بل لأنه كائن يملك القدرة على تحسين حاله، في مقابل الوضع الميئوس
لذاك الروح الغاوي، وعليه فالمجال يبقى مفتوحا أمام الإنسان كي يأمل في
العودة إلى الخير الذي ابتعد عنه.

هذه قصّة خلق الإنسان وسقوطه والمأساة التي يعيشها في كبدٍ بين مشقّة
الفعل وغياب التحقّق من الخلاص، إنها أسطورة مرعبة، أضنت اللاهوتيّين
وسحقت أذهان المؤمنين لكنّها فقدت مفعولها على جمهور الفلاسفة والعلماء.

وهناك مثال لكيفية تعامل المفكرين العقلانيين مع هذه الأسطورة، وهو
الفيلسوف الأفلاطوني كالسوس (Celsus) الذي عاين الأمر في بداية بروزه: إنه
ارتطام الفكر الفلسفي بدين حديث ورث كلّ الميثولوجيا "المقدّسة" عن
الديانة اليهودية وقدّم نفسه كبديل جديد لخلاص الإنسانية. يقول كالسوس
مُحوصلا أسطورة الخلق: «إنسان ما صنعه الله [بِيدَيه](17)، ثمّ نَفخ عليه،
ثمّ اشتُقّت امرأة (γυναιον) مِن ضِلعه (εκ της πλεθρας)، ثمّ فُرضت عليه
بعض الأوامر التي خَرَقها ثعبان وفي نهاية الأمر، تغلّب ذاك الثعبان، على
أوامر الله». ويُعلّق الفيلسوف قائلا: "خرافات من هذا القبيل، صالحة فقط
لأن تُروى للعجائز"، وهذه الخرافة، حسب رأيه، تحطّ من قيمة الإله وتُحقّر
من قدرته ولذلك فهي، من وجهة نظر دينية، عديمة التقوى، "لأنها تتمثّل
الإله على أنه عاجز وغير قادر على أن يُطاع من طرف ذاك الإنسان الوحيد
الذي صنعه [بيديه](18)".

إنّ كلام الأفلاطوني كالسوس يمثل تحدّيا كبيرا للكتب المقدسة جميعا والتي،
إن أخذت على حرفيتها، تقود حتما إلى هذه النتائج التشبيهية المدمّرة.
ولكنّ اللاهوتيين والمؤمنين العالمين لا يركنون إلى مثل هذه القراءة
الحرفيّة، بل يحاولون استخراج المعنى الرمزي من حرفية تلك القصص الفجّة،
والفيلسوف واعٍ بهذه الهموم الدينية لأصحاب الكتب المقدّسة ولكنه يعارضها
قائلا: «إن العقلاء مِن اليهود والنصارى، الذين هم في حيرة من أمرهم أمام
تلك الحكايات، حاولوا تفسيرها تفسيرا مجازيّا. لكن تلك الخرافات غير قابلة
لأيّ نوع من أنواع التأويلات المجازية، لأنها قصص تافهة». وبالنسبة إلى
كالسوس، وهذا هو حكمه النهائي، فأن تلك العملية التأويلية لا تجدي نفعا،
بل «هي أبشع وأكثر عبثيّة من تلك القصص ذاتها، لأنهم [العقلاء من اليهود
والنصارى] يرغبون، بِطُرق عجيبة وجُنونية، في التوفيق بين أشياء لا يمكن
أبدا أن تنسجم مع بعضها(19)".

أين يمكن أن يضع، الأفلاطوني كالسوس، كانط؟ مِن المؤكّد، لو أتيحت له
قراءة كتابه الدين في مجرّد حدود العقل، أنه سيُصَنّفه في خانة اليهود
والمسيحيّين العقلاء الذين اختاروا، للخروج من مأزق القصص الخرافي،
تأويلها حسب أطر فلسفة عجيبة، نظرا لأنها جعلت من أمور تشبيهيه صِبيانية
أمورا عالمة موغلة في التجريد وذات مغزى فكري فذّ وفريد من نوعه. إنها
بالنسبة لكالسوس، وكاتب هذه السطور يتفق معه، عبث نظري لا يجدي نفعا البتة.

ويبدو أن مأساة أولئك المفكّرين الذين اختاروا لأنفسهم التوفيق بين
المتناقضات أنهم باؤوا بالفشل سواء في إرضاء المؤمنين أو في إقناع
الفلاسفة. لا يرضى الفيلسوف أن تُهدر طاقاته الذهنية في التواءات تأويلية
لإنقاذ ما لا يمكن إنقاذه، أعني إضفاء معنى فلسفي على خرافات وهمية، ولا
يَرضى المؤمن أن تُمحَى أمام عينيه تلك الصّور الحيّة لأحداث يعتقد في صحة
وقوعها.

أعود إلى نصّ كانط، كيف يمكن إعادة إقامة ذاك الاستعداد الأصلي للخير في
الإنسان؟ يُجيب كانط بأنه «من وجهة نظر أخلاقية الإنسان هو إمّا خيّر أو
شرّير، ومن الضروري أن يصبح كذلك (أي إمّا خيّر أو شرّير ) بفضل إرادته
الحرّة(20)». نحن دائما هنا في صُلبِ المُفارقات: فطبيعة الإنسان شرّيرة
ولكن تصرّفاته وسلوكه يمكن أن تكون خيّرة أو شرّيرة بمحض إرادته. وكانط
نفسه مُدرك لهذه المفارقة، وهو الذي يطرح الاعتراض التالي «كيف يمكن
للإنسان ذي الميل الطبيعي الشرّير أن يصبح خيّرا من ذاته؟» ويمكننا أن
نحدس مسبقا الإجابة "هذا شيء يتخطّى كلّ مفاهيمنا".

بالنسبة للفيلسوف هذا الأمر يسمّى مُعضلة، والمعضلة، كما يقول أرسطو(21)،
وحسب ما يدلّ عليه اللفظ اليوناني (απορια)، هي مأزق عقلي، حيث يجد المرء
نفسه في موقف حرج بين تساوي الحلول. ولكن لا يجب عليه المكوث فيه بل ينبغي
الخروج منه والعمل على حلّ تلك المعضلة واختيار الطرف الأكثر إقناعا.
وكانط، الذي يطرح تلك المعضلة رغب في حلّها، على الرغم من أنه اعترف، منذ
البداية، بأنها تفوق مدارك عقولنا؛ ولحلّها لم يقدّم براهين عقلية، بل
مثالا كالأمثلة العديدة في الإنجيل(22) (والقرآن) " كيف يمكن لشجرة فاسدة
أن تعطي ثمارا طيبة(23)". الجواب هو: «بما أن الشجرة التي هي في البداية
طيّبة (خيّرة) طبقا لاستعدادها، قد تعطي ثمارا فاسدة»، وقياسا على هذه
الحالة فالنتيجة التي يستخلصها كانط لا تخلو من الاعتباط والخلط . علينا
أن نستمع إلى أقواله الصريحة: «وبما أنّ تصوّر السقوط من الخير إلى الشرّ
(إذا اعتبرنا بجدّ بروز الشرّ من الخير) ليس أسهل من تصوّر (النهوض) من
الشرّ إلى الخير، لا يمكن إذن نكران إمكانية ذاك النهوض. وعلى الرغم من
السقوط، فإنه يدوّي في داخلنا دائما، وبقوّة لا تنضب، ذاك الأمر "يجب
علينا أن نكون أناسا فضلاء"

إنها مواعظ شبيهة جدا بالمواعظ الدينية الخارجة عن مجال الفلسفة، مواعظ
كتلك التي استمع إليها كانط في طفولته وشبابه حين مزاولته تعليمه في
المؤسسات التي يديرها اللاهوتيون من أتباع المذهب التقويّ. وهذه ليست
الموعظة الأولى أو الأخيرة في كتاب كانط الذي نحن بصدده الآن.

لقد أحرج كتاب "الدين في حدود العقل" كثيرا من الكانطيين الجدد، ومن بينهم
كاسّيرر (Cassirer) الشيء الذي حدا به إلى اعتباره مجرّد كتاب للجمهور،
كتاب توفيقي (Kompromissschrift) لا يرقى إلى مستوى ثلاثية النقد ولا إلى
دقيق تحاليله الفلسفية الخالصة(24). لكن هذا الكلام هو في تضارب تامّ مع
تأكيدات كانط الصريحة، التي أعرب فيها عن أن عمله ذاك مخصّص لقلة من
الأساتذة الجامعيين المختصين، ولا يمسّ الإنسان العامي. والدليل على ذلك
أنه في رسالة إلى شتويدلن (Stäudlin) قال: «إن مُخطَّطي، الذي أرسيته منذ
زمان، في مجال الفلسفة المحضة يصبو إلى حلّ المسائل الثلاث التالية: 1)
ماذا يمكنني أن أعرف؟ (ميتافيزيقا) 2) ماذا يجب عليّ أن أفعل؟ (أخلاق) 3)
ما المسموح به أن آمل؟ (الدين)(25)» ويضيف قائلا: « بهذا العمل "الدين في
حدود مجرد العقل" أردتُ أن أتمم الجزء الثالث مِن مُخططي".

ولكنّ كاسيرر، في حقيقة الأمر وإن أردنا الدّقة، مُحقّ في رأيه ذاك، لأنّ
هذا الكتاب تكثّفت فيه مجمل تناقضات فلسفة كانط ومآزقها النظرية، وبالتالي
فهو فعلا كتاب ضعيف المُحتوى؛ إلاّ أن هناك من ذهب أبعد وقال نفس الشيء
أيضا عن ثلاثيته النقدية إن طهّرناها من التقسيمات المتشعبة والإطالة
المُملة ونزعنا عنها ثقل اللفظ والخطابة.

ولكن أخشى أن نكون قد أخطأنا المَرمى مرّة أخرى لأن كانط يَصدمنا حقّا،
يصدمنا بتَقلّباته وتناقضاته المستمرة. في مراجعة لكتاب "الدين في حدود
مُجرد العقل" صدرت في مجلّة (Neuste Kritischen Nachrichten) قال فيها
المراجع بأن: "هذا المُصَنَّف لا يُقدّم شيئا مُهمّا لأولئك الذين لا
يعرفون ولا يفهمون النّسق الكانطي، ولا حتى يُريدون معرفتَه وفَهمه؛
بالنسبة لهؤلاء يمكن أن يعتبروه غير مَوجود(26)". كيف كانت إجابة كانط؟
قبل إيرادها ينبغي التذكير بأنّ الرجل أكّد عديد المرّات أن كتابه مَجعول
للخاصة من الفلاسفة واللاهوتيين، وبأن ذاك الكتاب يمثل إجابة عن السؤال
الثالث من مخططه النقدي. لكن في إجابته أعلاه أكد العكس وقال: «لكي نفهم
هذا الكتاب في محتواه الجوهري تَلزم فقط الأخلاق العامة (nur der gemeinen
Moral)، دون ضرورة التّعثر في " نقد العقل العملي" ولا أيضا في "نقد العقل
المحض"(27)».

لم يكتف كاسيرر بإخراج كتاب الدين من المجموعة النقدية بل إنه عارض آرنولد
(Arnold) في محاولته إدخال كتاب"أحلام عراف…" في صلب الفلسفة الكانطية،
قائلا بأنه: « من العبث إرادة إدماج هذا الكتاب، الذي هو بصور مكشوفة وليد
اللحظة، في نسق التطوّر الصارم للفكر الكانطي(28)».

لكن ماذا نقول عن كتاب "الأنثربولوجيا"؟ لقد رأى فيه البعض دليلا على
بوادر الوهن والخرف وفعلا إذا تصفّحنا ذاك العمل يمكننا، بشيء من التحفظ،
أن نصادق إجمالا على هذا الحكم الذي أصدره تشارلز: الأنثربولوجيا هي خليط
من التخمينات اللامتجانسة، فيها ومضات عبقرية معزولة، ولكن تغلب عليها
الخلط والعتمة والسطحية، لقد تناول موضوعات شتى لا يربطها رابط: منافع
التبغ (التدخين)، الطريقة التي يُشرف بها على طاولة غداء، تعريف الحياة
الحسنة "غذاء لذيذ وصحبة جميلة" (eine gute Mahlzeit in guten
Gesellschaft) تقاسيم الوجه، شعر مستعار، ملكة التنبؤ، وملكة العِرافة،
ليس هناك نقاش معمّق وجدّي بل سطحية مرعبة، وكأنّ الشحنة النقدية قد
استنفذت مواردها(29
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

المسألة الدينية عند كانط (1) الشرّ الجذريّ في الطبيعة الإنسانية :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

المسألة الدينية عند كانط (1) الشرّ الجذريّ في الطبيعة الإنسانية

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» جماليات اللون في القرآن الكريم اللون من أهم وأجمل ظواهر الطبيعة ومن اهم العناصر التي تشكل الصورة الادبية لما يشتمل عليه من شتى الدلالات الفنية، الدينية، النفسية، الاجتماعية الرمزية والاسطورية. للون دوره الخاص في الصورة الفنية القرآنية لان اللون قد وظف في
» [ الطرح الإشكالي ] [ I-إشكالية الطبيعة الإنسانية: بين التصورين الماهوي والوجودي: ] [ II- جدلية الفطري والمكتسب: ألإنسان بين الطبيعة والثقافة ] [ ملحق: الأطفال المتوحشون
» علي فرزات: "الطبيعة الإنسانية ستنتقم لنفسها!" الكاريكاتير عندما يرتدي لباساً ميدانياً
» علي فرزات: "الطبيعة الإنسانية ستنتقم لنفسها!" الكاريكاتير عندما يرتدي لباساً ميدانياً
» الهوية الإنسانية :إنسانية الإنسانية عند ادغار موران أحمد تموز

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
انتقل الى: