** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

 

 السجال حول العلمانية في الفكر العربي المعاصر محمد أيت حمّو

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
هذا الكتاب
فريق العمـــــل *****
هذا الكتاب


عدد الرسائل : 1296

الموقع : لب الكلمة
تاريخ التسجيل : 16/06/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 3

السجال حول العلمانية في الفكر العربي المعاصر  محمد أيت حمّو Empty
27092012
مُساهمةالسجال حول العلمانية في الفكر العربي المعاصر محمد أيت حمّو

السجال حول العلمانية في الفكر العربي المعاصر

محمد أيت حمّو

تقديم:

إن الأمانة العلمية والمقاربة
الرزينة تفرضان علينا عدم تجاهل الهوة التي لا تردم بين رواد السلفية في
عصر النهضة من جهة أولى، والحركات الإسلامية المعاصرة من جهة ثانية،
والحركة الوهابية من جهة ثالثة. وإذا كان الإمام المصلح محمد عبده يتميز عن
الحركة الإصلاحية الوهابية، فإنه يتميز كذلك عن الحركات الإسلامية
المعاصرة كما ينبه إلي ذلك سعيد بنسعيد العلوي الذي يتحدث عن تاريخ الفكر
السلفي قائلاً: «هذا التاريخ هو بالأحرى (تاريخ نكوص وتراجع) منذ دعوة جمال
الدين الأفغاني إلى الآن»(1). فـ سعيد بنسعيد العلوي يختار المغايرة بدل
المماثلة، ويفضل القطيعة عوض الاستمرارية، وما يدور في فلكهما، باعتبارهما
الأوفى بالقصد في تناول علاقة الإسلاميين المعاصرين بمفكري النهضة
السلفيين، فشتَّان ما بين دعاوى هؤلاء وأولئك، حيث يقول: «الصلة بين هذا
الفكر الإسلامي المعاصر عند هذه (الحركات) وبين الفكر العربي في (عصر
النهضة): أهي صلة استمرار واتصال، فإنما هي تلوينات في النظرة الواحدة وهي
لا تخرج عن الإطار العام للإشكالات التي أثارها مفكرو النهضة السلفيون؟ أم
إن الأمر يتعلق، بالأحرى، بمغايرة تامة، بل وربما (قطيعة) تامة، بالنظر إلى
التباعد البنيوي بين الظرفين السياسيين والتاريخيين، وبالنظر إلى الجديد
الذي نجده منذ كتابات حسن البنا، والذي يبلغ مدى بعيداً من الابتعاد
والانفصال منذ كتاب (معالم في الطريق) للسيد قطب؟ وبكيفية واضحة ومباشرة
نعلن مشاطرتنا رأي أصحاب التساؤل الثاني وتأكيدنا، معهم، لصحة القول
بالمغايرة، بل (القطيعة) بين دعاوى المعاصرين (والمتأخرين المعاصرين لنا
خاصة) وبين مفكري (عصر النهضة)»(2). وغير بعيد عن هذا التمييز الذي يشدد
عليه الباحث المغربي سعيد بنسعيد العلوي، نجد أحد الباحثين التونسيين يفرق
بين السلفية والأصولية(3).

ودون أن نغفل أو نتجاهل هذه
الفواصل والفوارق التي تجثم بثقلها وتنيخ بكلكلها، بين الشيخ محمد عبده
[1849-1905م]، وأستاذه الثائر جمال الدين الأفغاني [1838- 1897م]. وغيرهم
من مفكري النهضة السلفيين الذين حملوا لواء الإصلاح(4) من جهة، والحركات
الإسلامية المعاصرة من جهة أخرى، فقد ارتأينا في حديثنا عن السلفيين
والعلمانيين أن نستحضر المناظرة الشهيرة بين الشيخ محمد عبده وفرح أنطون
حول «ابن رشد وفلسفته»(5).

ولا يخفى على الفطن الأريب أن استحضارنا لهذه المناظرة تفرضه عدة اعتبارات نورد أهمها في ما يلي:

أولاً: إن هذه المناظرة جزء لا
يتجزأ من الفكر العربي المعاصر الذي تعتبر الحركة السلفية جزءاً أساسياً
منه، «فمنها يستمد نصيباً من تاريخيته ومشروعيته ومعقوليته»(6). ومن
المعلوم أن مفاصل هذه المناظرة التي نحن بصدد الإبانة عن بعض ملامحها تشكلت
في بداية القرن العشرين، وبلغة الأرقام يمكن تحديد هذا الخطاب في سنة 1903
التي نشر فيها كتاب ابن رشد وفلسفته. وهذا الخطاب «يمثل أهم مرحلة من
مراحل الفكر العربي الإسلامي الحديث»(7). ولذلك فكل محاولة لا تقدر المساحة
التي تشغلها الحركة السلفية التحديثية والعقلانية في خريطة الفكر العربي
المعاصر، وتنقص من قيمة هذا التوجه السلفي التحديثي ستكون محاولة فاشلة.
«ويلفت نظرنا مسعى في الخطاب النقدي العربي المعاصر إلى الاتساع في استخدام
مفهوم السلفية، وهو مسعى يلفه كثير من الارتجال والغموض. وقد يكون الدافع
إلى ذلك موقفاً إيديولوجياً تهجينياً ينتقص من قيمة كل توجه تحديثي لا ينهض
على مبدأ الحسم الصارم مع الماضي، ولا يبني رؤيته على أساس من التشهير به،
وذلك برفع شعارات كالعقلانية والنقد التاريخي والقطيعة. فمثل هذا الاتساع
غير علمي في نظرنا، لأنه يقوم على حشر أصناف من الاتجاهات بينها فروق نوعية
في المقدمات والمنطلقات والتصورات في قالب جاهز واحد. وفي ذلك طمس خطير
لملامح الاتجاه السلفي التحديثي والعقلاني (في إطار الممكن التاريخي
والثقافي طبعاً) من ناحية، وتجن عليه من ناحية أخرى بعده في إطار خطاب
الحسم التهجيني من ضمن رؤى لا علاقة لها مطلقا… بتحديث الفكر وتمدين
المجتمع» (8).

ثانياً: إن سوء التفاهم الجاثم
بين الإسلاميين والعلمانيين المعاصرين يجد إرهاصاته الأولى وبوادره
الجنينية في هذه المناظرة التي دشنت شرارة هذه المواجهات التي اتخذت أبعادا
خطيرة فيما بعد.

ثالثاً: إن هذه المناظرة هي
إثارة مسبقة لمواجهة مستقبلية بين موقف سلفي سياسي ينحو منحى الوحدة
الإسلامية، وبين مشروع مسيحي قومي علماني. فمن المعروف، تاريخياً، أن
المسيحيين هم الذين تحمسوا للعلمانية، معتقدين أنه لا وجود لهم في دولة غير
علمانية، «ولذلك كان من الطبيعي -بحكم وجودهم كأقلية- (يروم المسيحيين
العرب) أن يؤكدوا وجوب الأخذ بالعلمانية عقيدة في السلوك حتى يتمكنوا في
تقديرهم، من الحصول على الضمان الكافي لحقوقهم كأقلية من جانب أول، وحتى لا
يكون في مقاومة العنصر التركي مقاومة للخلافة الإسلامية من جهة أخرى»(9) .
فالنسب المسيحي للمنطقة هو نسب قومي وليس ديني، ولذلك تحمس المسيحيون
للعلمانية (سلامة موسى، غالي شكري …إلخ)، وكانوا أكثر تحمساً للقومية التي
دعموها (نديم البيطار، ميشيل عفلق …إلخ).

رابعاً: إن هذه المناظرة تمثل
حالة إستثنائية، ما دام أن المواجهة لم تبلغ مرتبة المس بالأعراض والطعن
الشخصي أو التشنيع بالأشخاص، وغيرها من المستويات المنحطة في السجال
والجدال، «وأحسن شيء في الجدال: المحافظة من كل واحد من المتجادلين على أدب
الجدل، فإن الأدب في كل شيء حليته»(10) . وهذا ما يذكرنا ببعض المناظرات
المشهورة في المرحلة الكلاسيكية، «والتذكير بما كان يتصف به هذا الفكر من
التفوق العقلاني واتساع العقل ومدى حرية البحث والإبداع في الإشكاليات
المتصلة بالقضايا الدينية الحساسة، ودرجة التسامح والإقبال على المناظرة،
واحترام شروط المناظرة بين الأئمة المجتهدين ورفض الخلط بين العرض العلمي
للقضايا ومواقف العوام، والتقيد بما يفرضه البرهان الساطع والحجج الدامغة
على العقل، ومتابعة البحث والاحتجاج على المستوى العلمي المحض دون الانحطاط
إلى مستوى الشتم والافتراء وتحميل المناظر ما لم يفكر فيه ولم يدعيه ولم
ينطق به قط، بل الاعتماد على ما قال به ودافع عنه وردده في كتبه. يمكننا أن
نضع أمام كل فضيلة من هذه الفضائل عند المفكرين القدماء ما يقابلها من
نقائص ورذائل ومثالب شاعت مع الأسف في الكثير مما ينشر ويذاع ويقال اليوم
فيما يمكن وصفه بالخطاب الإسلاموي»(11) .

أ ـ الخلاف السلفي ـ العلماني من خلال مناظرة الشيخ محمد عبده وفرح أنطون.

لقد حمل فرح أنطون لواء الدفاع
عن العلمانية حتى الثمالة، فراح يحرق الأرم على الإصلاح الديني الذي يبشر
به الإمام محمد عبده بمعية أستاذه وتلميذه، وبما أن التسامح أو التساهل قد
استأثر بحيز هام في هذه المناظرة الشهيرة، فإن فرح أنطون سارع إلى اقتناص
دلالة هذه الكلمة التي مفادها الفلسفي «أن الإنسان لا يجب أن يدين أخاه
الإنسان، لأن الدين علاقة خصوصية بين الخالق والمخلوق. وإذا كان الله يشرق
شمسه في هذه الأرض على الصالحين وعلى الأشرار، فيجب على الإنسان أن يتشبه
به، ولا يضيق على غيره لكون اعتقاده مخالفاً لمعتقده. فليس إذا على الإنسان
أن يهتم بدين أخيه الإنسان أياً كان، لأن هذا لا يعنيه. والإنسان من حيث
هو إنسان فقط، أي بقطع النظر عن دينه ومذهبه صاحب حق في كل خيرات الأمة
ومصالحها ووظائفها الكبرى والصغرى، حتى رئاسة الأمة نفسها، وهذا الحق لا
يكون له من يوم يدين بهذا الدين أو بذاك، بل من يوم يولد»(12). ولا غبار
على أن فرح أنطون يهدف من وراء هذا التحديد الفلسفي للتساهل إلى القول بأنه
لا يستوي ولا يستقيم مع السلطة الدينية. بل والأكثر من ذلك، فهو يذهب
مذهباً قصياً، ويدفع بالتساهل إلى منتهاه، وحدوده القصوى عندما يعلن بأن
«حق الإنسان في أن يعتقد ما يشاء وما يريد، يخرج منه حق آخر، وهو (أن لا
يعتقد بشيء) إذا أراد، وهنا نصل إلى جحود الأديان، فهل تطيق الأديان أن
تصبر على أحد أن يجحدها. نحن نعلم أن كل الأديان لا تطيق ذلك على وجه
الإطلاق، وإذا أطاقته اليوم فما ذلك إلا لأنها أصبحت تقدم الشرع المدني على
الشرع الديني. فالمسلمون يسمون جاحدي الأديان (زنادقة) وهم يوجبون قتلهم
حتى أن ابن رشد نفسه أوجبه تخلصاً من الملام، والمسيحيون يسمون هؤلاء
الجاحدين (كفرة) وهم يوجبون استئصالهم من بين الناس كما يستأصل الزؤان من
الحنطة»(13). وبذلك تبلغ حماسة فرح أنطون للعلمانية تخوم جحود الأديان الذي
طالما حرص العلمانيون على التبرؤ منه بعد أن تحولت المواجهة بينهم وبين
الإسلاميين المتشددين المعاصرين، إلى مواجهة بين (الكفر) و(الإيمان).
فبالرغم من أن العلمانيين يحرصون على القول، بمناسبة أو بدون مناسبة، بأن
العلمانية ليست كفراً أو إلحاداً، أي ليست ضد الدين أو مناقضة ومناهضة له،
وإنما هي حفاظ على قدسيته وتعاليه، فإن ذلك الحرص لم يزحزح صورة العلمانية
الراسخة في المخيال الاجتماعي للمجتمعات الإسلامية، وظلّت تعني ليس فقط
حرية الاعتقاد، بل أيضاً (عدم الاعتقاد) وجحود الأديان كما استخلص واستخرج
فرح أنطون الذي يوجه إدانة صريحة للإعدام مهما كانت أسبابه، ولا يرى
التساهل إلا في العلمانية، أو فك الارتباط بين السلطة الدينية والسلطة
المدنية. «ذلك أن الحياة التي منحها الله للبشر لا يجوز لإنسان أن يسلبهم
إياها بأية حجة كانت وبأي سبب كان»(14). ففي الإسلام متسع للجميع! «فكما
وسع الإسلام (دهرية الأمس الغابر)، فأثبت مقولاتها في القرآن، وحاججها
بالبرهان.. فإنه لن يضيق اليوم (بالدهرية المعاصرة)، وهو قادر على تسفيه
أحلام أصحابها، وإيرادهم موارد الدهريين القدماء»(15).

وتتمثل عناصر الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية كما صاغها فرح أنطون في ما يلي:

أولا: إطلاق
الفكر الإنساني من كل قيد خدمة لمستقبل الإنسانية، ومفاده أن «غرض الأديان
تعليم الناس عبادة الله، وحثهم على الفضائل، وإصلاح شؤونهم بالطرق المذكورة
في كتبها. ولكن ما هو غرض الحكومات في الأرض؟ غرض الحكومات حفظ الأمن بين
الناس، أي حفظ حرية كل شخص ضمن دائرة الدستور»(16).

ثانياً:
المساواة بين أبناء الأمة مساواة مطلقة بقطع النظر عن مذاهبهم ومعتقداتهم.
«ولا سبيل إلى ذلك إلا بهدم الأسوار والحواجز الموضوعة بينهم، أو أن تحكم
بينهم سلطة ليست تابعة لمذهب من مذاهبهم بل توضع فوقهم جميعاً. وهذا لا
يمنع أن يكون رجال هذه السلطة مسلمين أو مسيحيين أو وثنيين، وإنما المقصود
أن لا يكونوا منصوبين في منصة العدل التي هي منصة الله للدفاع عن دين دون
دين، وتأييد مبادئ دين دون دين، لأن الحق (البشري) الذي أقيموا للدفاع عنه
غير منوط بالأديان، بل هو فوق الأديان. ولا تصرف لأحد فيه إلا الله
وحده»(17).

ثالثاً: ليس
من شؤون السلطة الدينية التدخل في الأمور الدنيوية. ذلك «لأن الأديان شرعت
لتدبير الآخرة لا لتدبير الدنيا… ومن ذا الذي يعتقد اليوم أن الأحوال التي
كانت في زمن نشأة الأديان تنطبق على أحوال هذا العصر ومقتضياته التي تتغير
من قرنٍ إلى قرن ليصح القول بأن الحاضر يمكن تدبيره بالماضي»(18)

رابعاً: مساوئ الجمع بين السلطتين، أو ضعف الأمة واستمرار الضعف فيها. ويندرج تحت عباءة ذلك أمور أربعة:

ــ اضطهاد الذكاء والعقل.
«فالدين إذن (أي رجال الدين) يقاوم الذكاء في الأمة متى مال الذكاء إلى
الاستقلال بنفسه ولو قليلاً. والأمة محتاجة إلى ذكاء جميع أبنائها.
ومصلحتها في شحذ هذا الذكاء لا في خنقه، وإلا صارت آلة في أيدي أصحاب
الأغراض والعاجزين. فالجمع بين الدين والسلطة المدنية يخفف ينابيع الذكاء
والحياة في الأمة، ويسلم حكومتها إلى العجز والجهل»(19).

ــ مجاراة العامة.
لأن السلطة الدينية «لا قوة لها إلا بهم، لأن العامة سواد الأمة وأساسها.
وكل حكومة لا تخلو من أعداء، سواء كانت ملكية أو جمهورية. فالحكومة
المقرونة بالدين تعلم أن كل غلطة تبدر منها في الدين يتخذها أعداؤها ذريعة
لإثارة الشعب عليها. ولذلك لا يكون للحكومة الدينية هم إلا المبالغة في
استرضاء الشعب بالأمور التي يحبها، [...] وذلك أن غرضها يكون حفظ كيانها لا
تقدم الشعب»(20)

ــ الشقاق الديني،
ولا يزول إلا بميزان العدل والمساواة المطلقة. «ذلك لأنه يكون في باطنها
-يقصد الأمة- فئتان فئة قوية متمتعة بكل حقوقها، وفئة ضعيفة مهضومة الحقوق.
وبما أن الإنسان يعرف بغريزته أن «الحق الإنساني» لا يجوز أن ينقض ولا أن
يسلب، فهو يضطر بسائق غريزته وحرصه على البقاء إلى الاستغاثة بكل قوي يرضى
أن يغيثه. ومعلوم أن الدول في الأرض كالنسور تحوم حول الفرائس، فكلما سنحت
لإحداها فرصة للمداخلة في شؤون دولة أخرى أقدمت على ذلك وأي إقدام طلباً
لمصلحتها قبل كل شيء ثم إجابة للمستغيث بها. وأحياناً يكون المستغيث
مخدوعاً فتتخذه الدولة المتدخلة ذريعة إلى قضاء أغراضها، وهناك الطامة
الكبرى لا على فريق فقط، بل على الجميع إلا القوي المتدخل بحجة (الغيرة)
ولا يكون غرضه الحقيقي إلا (الإغارة) ليصيب منفعته»(21).

ــ تعرض المبادئ الدينية المقدسة لأوحال السياسة وذلها وكذبها ومفاسدها.
«فالرياء هو أساس السياسة في هذا الزمان، الرياء من القوي ومن الضعيف. ومن
المعلوم أن الرياء يجر وراءه كثيراً من النقائص والرذائل، فكيف تستطيع
الحكومات الدينية أن تدخل في هذا المضمار وتخرج منه سالمة ظافرة المبدأ.
وكيف ينال هذا الظفر إذا لم تحارب الحكومة الدينية الحكومات المدنية
بسلاحهن، أي بالرياء والكذب والمصانعة. ولكن هل تجوز الأديان أن يرائي
رؤساؤها ويدخلوا في حمأة السياسة وأوحالها، وإذا جوزت ذلك ألا تتلطخ
الأديان نفسها بوحل السياسة. ألا تصير قاعدتها تلك القاعدة المشهورة
«الغاية تبرر الوسيلةّ»(22).

خامساً:
استحالة الوحدة الدينية نتيجة التنوع والاختلاف. «فإن الأرض ليست كلها أمة
واحدة، بل هي أمم مختلفة المصالح متضاربة المذاهب [...] ولكل واحدة من هذه
الأمم مصالح تناقض مصالح رفيقتها، وبعضها أعداء لبعض [...] (ويضيف) العقل
البشري مطبوع على الاختلاف والتباين. تأملوا هل تجدون أمتين بل عائلتين بل
رجلين بل أخوين بل أختين بأفكار واحدة، فالكون مطبوع على التنوع [...] وهذا
ما يسميه الفلاسفة (التنوع في الوحدة). فالتنوع إذن لابد منه في الأشياء
والأشخاص والأفكار والمعتقدات [...] وهذه المذاهب كلها (إسلامية ومسيحية)
إنما تشعبت لاختلاف أفهام الناس واختلاف مصالحهم ومنافعهم وعاداتهم
وأخلاقهم، ورغبة كل فريق منهم في أن يعيش مستقلاً في بلده، وقطع كل يد
أجنبية عن المداخلة في شؤونه»(23).

وهكذا أوفى فرح أنطون عناصر
الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية قاطبة حقها من الشرح والتفسير في
حيّز هام من هذه المناظرة. وفي كلمة جامعة ومانعة توجز وتكثف، يقرر فرح
أنطون القاعدة التالية: «لا مدنية حقيقية ولا تساهل ولا عدل ولا مساواة ولا
أمن ولا ألفة ولا حرية ولا علم ولا فلسفة ولا تقدم في الداخل، إلا بفصل
السلطة المدنية عن السلطة الدينية، ولا سلامة للدول ولا عز ولا تقدم في
الخارج، إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية»(24). بيد أن السلفيين
سيرفضون ويربأون بالأطروحة العلمانية التي يرون فيها افتراءاً وتلفيقاً
وخلطاً بين الإسلام وغيره من الأديان الأخرى. فالنصرانية التي أمامنا هي
صناعة رجال الدين الذين خانوا رسالة المسيح. ومعنى ذلك أنه كيفما كان
الحديث عن النصرانية الآن، فإنه ليس بالحديث العلمي. فالتاريخ الكنسي هو
تاريخ الاضطهاد للعلماء. (محاكم التفتيش، إحراق العلماء، صكوك الغفران…
إلخ). ومن هنا عدم معقولية ما ينشده فرح أنطون، فقراءة هذا الأخير، والتي
تتقاطع مع قراءة كل الرواد المسيحيين الآخرين، «تقدم تاريخ الإسلام على أنه
كتاريخ بقية الأديان، تاريخ القهر والطغيان (رغم مثله الروحانية والعقلية)
والعداء للعلم والحرية والعدالة. فقد عرف كهنوتية فاسدة لا تختلف عن
مقابلها الكنسي خاصمت العلماء والفلاسفة»(25). فقد دافع فرح أنطوان عن
العلمانية، داعياً إلى التساهل والتغريب والنقل الآلي لقيم التنوير الغربية
بحماسة قوية، تكتفي بالتبشير بقيم الأنوار دون التفكير فيها. «وبناء على
ما سبق، نحن نعتبر أن النصوص الأنوارية العربية، نصوص عصر النهضة، تتضمن
كثيراً من الحماسة الإيديولوجية، وقليلاً من النظر النقدي المؤصل للفكر
الفلسفي. إن انشغال أصحاب النصوص بمتطلبات الدعوة الإيديولوجية، المعتمدة
على قاعدة الأنوار، ساهم في تقليص متطلبات النظر الفلسفي في أعمالهم.
ونستطيع أن نؤطر الدفاع الحاصل على المفاهيم الأنوارية في الفكر العربي
النهضوي ضمن سياق الملابسات السياسية التي تؤطر أطروحات الجناح المسيحي
داخل دائرة المثقفين الليبراليين، وفي إطار مسألة الخصوصية التاريخية
للأقليات في المشرق العربي، إلا أن هذه الملابسات لا تفسر كل أبعاد وتجليات
المنحى التغريبي البارز في الدعوة الأنوارية المذكورة. إن الفعل العقلي
الذي يهمنا إبرازه في هذا الموقف هو فعل الاستعادة الآلية، الاستعادة التي
تقبل أن يكون التأصيل فعلاً نظرياً منتهياً في سياق صيرورة المنظومة
الفلسفية الغربية، دون أي إدراك للبعد التاريخي الخاص المؤطر لهذه
المنظومة، والمحدد لملامحها، فقد كان الدعاة المتنورون، أمثال فرح أنطون
وسلامة موسى، ينظرون إلى الأنوار كعقيدة. إنها في نظرهما بديل للعقائد
والحقائق المطلقة السائدة. إن الأنوار في فكرهما عقيدة جديدة قادرة على
زحزحة وإزاحة كل الظلمات، بفعل الدعوة لا بفعل التفكير، ومن هنا طغيان
الشعارية والتكرار في نصوص هذين المفكرين، ومن يفكر في الأنوار على
منوالهما. إن سجالهما مع ممثلي الدعوة السلفية، لم يساعدهما على تأصيل
النظر الأنواري، قدر ما دفعهما إلى استعادة أطروحاته بدون أي حس تاريخي
نقدي يمكن من إعادة صياغة الأسئلة والأجوبة التاريخية والسياسية المؤطرة
للحظة الأنوار في نشأتها الأولى، ولحظة الأنوار في صورتها العربية كلحظة
تقتضي إعادة إنتاج البناء بالنظر»(26).

فإذا كان ما يقوله فرح أنطوان
سديداً وصحيحاً، فصحته في نظر السلفيين تظلّ حكراً على المسيحية، ولا تمتد
لتشمل أو تسري على الإسلام الذي لا تستقيم أصوله مع مزاعم فرح أنطوان جملةً
وتفصيلاً. وبناء عليه تجند الشيخ محمد عبده للتمييز بين الديانة الإسلامية
والديانة المسيحية، فأوجز الأصول التي قامت عليها هذه الأخيرة في ما يلي:

أولا: الإقرار
بالعجائب والخوارق. «أول أصل قام عليه الدين المسيحي، وأقوى عماد له هو
خوارق العادات. تقرأ الأناجيل فلا تجد للمسيح دليلاً على صدقه إلا ما كان
يصنع من الخوارق وعددها في الأناجيل يطول شرحه، ثم إنه جعل ذلك دليلاً على
صحة الدين لمن يأتي بعده… ثم إن صاحب الاعتقاد بهذا الأصل لا يحتاج إلى
البحث في الأسباب والمسببات، لأن اعتقاده في الشيء أن يكون وإرادته لأن
يكون كافيان في حصوله. فهو في غنى عن العلم، والعلم عدو لما يعتقد، فما
أصعب احتماله إذا جاء يزاحمه»(27).

ثانياً: سلطة
الرؤساء الكنسيين. «فإذا قال الرئيس الكهنوتي لشخص إنه ليس بمسيحي صار
كذلك، وإذا قال إنه مسيحي فاز بها. فليس المعتقد حراً في اعتقاده يتصرف في
معارفه كما يرشده عقله، بل عينا قلبه مشدودتان بشفتي رئيسه، فإذا اهتزت
نفسه إلى بحث أوقفها القابض على تلك السلطة. وهذا الأصل إن نازع فيه بعض
النصارى اليوم فقد جرت عليه النصرانية خمسة عشر قرناً طوالاً»(28).

ثالثاً: ترك
الدنيا. «تجد هذا الأصل في الأناجيل وفي أعمال الرسل، وكلما قرأت في الكتب
الأولى عثرت به. وتجد الأوامر الصادرة بالانقطاع إلى الملكوت والهروب من
عالم الملك صريحة في الإصحاح السدس والعاشر والتاسع عشر من إنجيل متى [...]
وحث على الرهبانية وترك الزواج وفي ذلك قطع النسل البشري [...] ثم إن
ملكوت السماوات قد نيط أمره بالإيمان المجرد عن النظر في الأكوان، فماذا
يكون حظ صاحب الاعتقاد بهذا الأصل من النظر في أي علم، والعلم لا دخل له في
شؤون الآخرة والدنيا قد حرمت عليه؟ لا ريب أن همه يكون في الصلاة وصرف
القلب بكليته إلى العبادة دون سواها، وليس الفكر في الخليقة من العبادة
عنده، فإن عبادة الإنجيل ليست سوى الإيمان والصلاة»(29).

رابعاً:
الإيمان بغير المعقول. فـ «الإيمان منحة لا دخل للعقل فيها، وإن من الدين
ما هو فوق العقل، بمعنى ما يناقض أحكام العقل وهو مع ذلك يجب الإيمان به
[...] فليس الإيمان وهو الوسيلة الفردة إلى النجاة في حاجة إلى نظر العقل،
والكون وما فيه لا يهم المؤمن أن يجيل فيه نظره»(30).

خامساً:
الاعتقاد بأن الكتب المقدسة تحتوي على كل شيء في المعاش والمعاد. بمعنى
أنها «تحتوي على كل ما يحتاج البشر إلى علمه، سواء كان متعلقاً بالاعتقادات
الدينية والآداب النفسية والأعمال البدنية مما يؤدي إلى نيل السعادة في
الملكوت الأعلى، أو كان من المعارف البشرية التي يتاتى للعقل الإنساني أن
يتمتع بها [...] فجميع ما جاء في الكتب السماوية من وصف السماء والأرض وما
فيها وتاريخ الأمم مما يجب تسليمه مهما ضارب العقل أو خالف شاهد الحس، فعلى
الناس أن يؤمنوا به أولاً ثم يجتهدوا ثانياً في حمل أنفسهم على فهمه، أي
على تسليمه أيضاً كما ترى. وقال بعض فضلائهم: إنه يمكن أن يؤخذ فن المعادن
بأكمله من الكتاب المقدس»(31).

سادساً:
التفريق بين المسيحيين وغيرهم حتى الأقربين. «وقد صرح في عدة مواضع من
الإنجيل أن الإخلال بشيء من محبة المسيح أو بالانقياد إلى جميع ما أوصى به
موجب للهلاك»(32).

وقد أبرز محمد عبده النتائج
الوبيلة والآثار السلبية التي تترتب عن هذه الأصول الستة، وقابل بينها وبين
أصول الإسلام التي تتمثل في ما يلي:

ــ النظر العقلي لتحصيل الإيمان.
«فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي، والنظر عنده هو وسيلة
الإيمان الصحيح. فقد أقامك منه على سبيل الحجة وقاضاك إلى العقل، ومن قاضاك
إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه؟
بلغ هذا الأصل بالمسلمين أن قال قائلون من أهل السنة: إن الذي يستقصي جهده
في الوصول إلى الحق، ثم لم يصل إليه ومات طالباً غير واقف عند الظن، فهو
ناج. فأي سعة لا ينظر إليها الحرج أكمل من هذه السعة؟»(33)

ــ تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض.
«اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه على أنه إذا تعارض
العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان: طريق التسليم
بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه وتفويض الأمر إلى الله في علمه،
والطريق الثانية: تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه
مع ما أثبته العقل. وبهذا الأصل الذي قام عليه الكتاب وصحيح السنة وعمل
النبي مهدت بين يدي العقل كل سبيل، وأزيلت من سبيله جميع العقبات، واتسع له
المجال إلى غير حد. فماذا عساه يبلغ نظر الفيلسوف حتى يذهب إلى ما هو أبعد
من هذا؟ وأي فضاء يسع أهل النظر وطلاب العلوم إن لم يسعهم هذا الفضاء؟ إن
لم يكن في هذا متسع لهم فلا وسعتهم أرض بجبالها ووهادها، ولا سماء بأجرامها
وأعادها»(34).

ــ البعد عن التكفير،
بحيث اشتهر المسلمون وعرف من قواعد أحكام دينهم، أنه «إذا صدر قول من قائل
يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان
ولا يجوز حمله على الكفر. فهل رأيت تسامحاً مع أقوال الفلاسفة والحكماء
أوسع من هذا؟ وهل يليق بالحكيم أن يكون من الحمق بحيث يقول قولاً لا يحتمل
الإيمان من وجه واحد من مائة وجه؟»(35).

ــ الاعتبار بسنن الله في
الخلق. «وهو أن لا يعول بعد الأنبياء في الدعوة إلى الحق على غير دليل، وأن
لا ينظر إلى العجائب والغرائب وخوارق العادات. أصل آخر وضع لتقويم ملكات
الأنفس القائمة على طريق الإسلام وإصلاح أعمالها في معاشها ومعادها. ذلك هو
أصل العبرة بسنة الله فيمن مضى ومن حضر من البشر، وفي آثار سيرهم فيهم.
فلما جاء الكتاب مقرراً لهذا الأصل (قد خلت من قبلكم سنن، فسيروا في الأرض
فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا، ولن تجد
لسنتنا تحويلاً، أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من
قبلهم؟)… إلخ. في هذا يصرح الكتاب أن لله في الأمم والأكوان سنناً لا
تتبدل، والسنن الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشؤون وعلى حسبها تكون
الآثار، وهي التي تسمى شرائع أو نواميس، ويعبر عنها قوم بالقوانين. ما لنا
ولاختلاف العبارات؟ الذي ينادي به الكتاب أن نظام الجمعية البشرية وما يحدث
فيها هو نظام واحد لا يتغير ولا يتبدل، وعلى من يطلب السعادة في هذا
الاجتماع أن ينظر في أصول هذا النظام حتى يرد إليها أعماله ويبني عليها
سيرته وما يأخذ به نفسه. فإن غفل عن ذلك غافل فلا ينتظر إلا الشقاء، وإن
ارتفع إلى الصالحين نسبه، أو اتصل بالمقربين سببه. فمهما بحث الناظر وفكر،
وكشف وقرر، أتى لنا بأحكام تلك السنن، فهو يجري مع طبيعة الدين، وطبيعة
الدين لا تتجافى عنه ولا تنفر منه، فلم لا يعظم تسامحها معه؟»(36).

ــ قلب السلطة الدينية.
«هدم الإسلام بناء تلك السلطة ومحا أثرها حتى لم يبق لها عند الجمهور من
أهله اسم ولا رسم. لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطاناً على عقيدة
أحد ولا سيطرة على إيمانه،على أن الرسول كان مُبَلِّغاً ومُذكِّراً، لا
مهيمناً ولا مسيطراً، (فذكر إنما أنت مُذَكِّر، لست عليهم مسيطر) ولم يجعل
لأحد من أهله أن يحلّ ولا أن يربط لا في الأرض ولا في السماء [...] وليس
لمسلم مهما علا كعبه في الإسلام على آخر مهما انحطت منزلته فيه إلا حق
النصيحة والإرشاد [...] فالمسلمون يتناصحون ثم هم يقيمون أمة تدعو إلى
الخيرـ وهم المراقبون عليها يردونها إلى السبيل السوي إذا انحرفت عنه. وتلك
الأمة ليس لها عليهم إلا الدعوة والتذكير والإنذار والتحذير، ولا يجوز لها
ولا لأحد من الناس أن يتبع عورة أحد، ولا يسوغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسس
على عقيدة أحد، وليس يجب على مسلم أن يأخذ عقيدة أو يتلقى أصول ما يعمل به
عن أحد إلا عن كتاب الله وسنة رسوله. لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب
الله وعن رسوله، بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف [...] فليس في الإسلام ما
يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه»(37).

ــ حماية الدعوة لمنع الفتنة.
«ليس القتل في طبيعة الإسلام، بل في طبيعته العفو والمسامحة (خذ العفو
وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)، ولكن القتال فيه لرد اعتداء المعتدين على
الحق وأهله إلى أن يأمن شرهم، ويضمن السلامة من غوائلهم، ولم يكن ذلك
للإكراه في الدين، ولا للانتقام من مخالفيه [...] وغاية ما يقال: إن
العناية الإلٓهية منحت الإسلام في الزمن القصير من القوة على مدافعة أعدائه
ما لم تمنحه لغيره في الزمن الطويل. فتيسر له في شبيبته ما لم يتيسر لغيره
إلا في كهولته أو شيخوخته»(38).

ــ مودة المخالفين في العقيدة.
«أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج الكتابية، نصرانية كانت أو يهودية، وجعل من
حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم أن تتمتع بالبقاء على عقيدتها،
والقيام بفروض عبادتها، والذهاب إلى كنيستها أو بيعتها، وهي منه بمنزلة
البعض من الكل، وألزم له من الظل وصاحبته في العز والذل والترحال والحل
بهجة قلبه، وريحانة نفسه، وأميرة بيته، وأم بناته وبنيه، تتصرف فيهم كما
تتصرف فيه. لم يفرق الدين في حقوق الزوجية بين الزوجة المسلمة والزوجة
الكتابية [...] ولا يخفى على صحيح النظر أن تقرير التسامح على هذا الوجه في
نشأة الدين مما يعود القلوب على الشعور بان الدين معاملة بين العبد وربه،
والعقيدة طور من أطوار القلوب يجب أن يكون أمرها بيد علام الغيوب، فهو الذي
يحاسب عليها وأما المخلوق فلا تطول يده إليها»(39).

ــ الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة.
«الحياة في الإسلام مقدمة على الدين، أوامر الحنيفية السمحة إن كانت تختطف
العبد إلى ربه، وتملا قلبه من رهبه، وتفعم أمله من رغبه، فهي مع ذلك لا
تأخذه عن كسبه، ولا تحرمه من التمتع به، ولا توجب عليه تقشف الزهادة، ولا
تجشمه في ترك اللذات ما فوق العادة. صاحب هذا الدين لم يقل «بع ما تملك
واتبعني»، ولكن قال لمن استشاره فيما يتصدق به من ماله «الثلث، والثلث
كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من ان تدعهم عالة يتكففون الناس [...]
وهكذا تجد القاعدة قد عمت (صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان)»(40)

ولم يغمط محمد عبده حق إبراز
نتائج هذه الأصول، وثمارها الحلوة التي جناها المسلمون أيام عزهم ومجدهم،
فالإسلام هو دين التسامح والعقل، ومن ينازع في ذلك فهو مباهت أو مكابر
يتجنى على ماهية الإسلام. وهل نحتاج هنا إلى التدليل والتذكير برحابة صدر
الإسلام الذي وسع أبو العلاء المعري وابن الراوندي وأبو حيان التوحيدي،
وغيرهم من الذين كانوا متهمين في دينهم وما أكثرهم ومع ذلك فقد ماتوا على
أفرشتهم. لذلك يخاطب محمد عبده صاحب مجلة الجامعة قائلاً:
«ماذا أعد للجامعة من الفلاسفة والحكماء من الملل المختلفة الذين وسعهم
صدر الإسلام، ولم يضن عليهم بالراية والإحترام. هل تريد أن أتمم لها الكلام
بذكر كثير من فلاسفة الإسلام المسلمين الذين نالوا أسمى الدرجات وأعلى
المقامات عند الخلفاء والملوك. هل أنا في حاجة إلى ذكر فيلسوف الإسلام أبي
يوسف يعقوب الكندي وهو بصري الأصل. أين الأمير إسحاق الذي كان أميراً
للمهدي والرشيد على الكوفة وهو من ذرية الأشعث بن قيس أحد أصحاب رسول الله
وكان عالما بالطب والفلسفة والهيئة والحساب والموسيقى واشتغل بالترجمة كما
اشتغل غيره بها فترجم كثيراً من كتب الفلسفة وأوضح الغامض منها وكانت له
المكانة العليا عند المأمون وولده أحمد. هل أنا في حاجة إلى ذكر بني موسى
بن شاكر محمد وأحمد والحسن الذين اشتغلوا في مساحة الكرة الأرضية ومعرفة
محيطها وقطرها وما كان لهم من المنزلة عند الأمراء والخلفاء؟ أم أذكر
الفارابي وما كان له من المكانة عند سيف الدولة بن حمدان. لا ريب أن أبا
العلاء المعري يصلح أن يكون رجلاً ممن تعنى الجامعة بنشر تراجمهم وقد قال
ما لم يقل بمثله فولتير وروسو وقد مات مع ذلك على فراشه وقبره اليوم مزار
يرحل إليه في بلده. أظن أنه يسهل بعد سرد ما عددناه أن يعرف قراء الجامعة
أن الإسلام كان يوسع صدره للغريب كما يوسعه للقريب بميزان واحد وهو ميزان
احترام العلماء للعلم»(41). أما في الأندلس، فقد كان التسامح سيد المنطقة،
فنشر التسامح أجنحته البيضاء على المسلمين وغير المسلمين. «وقد بلغ هذا
الاحتكاك بين المسلمين وغير المسلمين ذروته في الأندلس الإسلامية التي قدمت
للإنسانية درساً بليغاً في التعايش والحوار والتسامح. إن الأندلس كانت
خليطاً من الأجناس والأعراق والديانات والمذاهب. إلى جانب العرب الذين
وفدوا إليها من الجزيرة العربية ومن الشام والعراق ومصر. كان هناك الأمازيغ
والصقالبة والسود والنصارى المعاهدون (الأعاجم) والمولدون واليهود. كما
عرف المجتمع الأندلسي لغات متعددة»(42).

وبناء عليه، فإن وضع الإسلام
الداعي إلى العقل والعلم على قدم المساواة مع بقية الأديان المناهضة للعقل
والعلم، كما فعل فرح أنطون، وكما هو ديدن كل المستشرقين والعلمانيين
المعاصرين، فرية ما فيها مرية، ومجرد دعاوى مرسلة وتفلجات دون دليل ولا
برهان. ذلك بأن «الإسلام يتميز ويمتاز على كل أنساق الاعتقاد الديني
الأخرى، عندما يعترف (بالآخر)، حتى ذلك (الآخر) الذي لا يعترف بالإسلام
[...] فاليهودية والنصرانية، بنظر الإسلام ديانتان سماويتان، طرأ التحريف
على بعض المواضع من كتبهما الإلٓهية، وأنبياؤهما ورسلهما لهم في الاعتقاد
الإسلامي مرتبة دونها مرتبتهم لدى بعض أتباع هاتين الديانتين!.. وذلك جزء
من الاعتقاد الإسلامي، بدونه لا يكتمل الإيمان [...] بينما ذلك (الآخر) لا
يعترف بالإسلام كدين، ولا بكتابه كوحي إلٓهي، ولا بمحمد، كنبي ورسول [...]
فبمنطق الليبرالية، وبمعيار التعددية والاعتراف (بالآخر)، يتميز الإسلام
ويمتاز على غيره من أصحاب هاتين الديانتين. وميزة أخرى يتميز بها الإسلام
ويمتاز [...] وهي أنه الدين الوحيد الذي لم يقف، في الفضائل، عند حد
الاعتراف (بالآخر)، بل لقد جعل حماية هذا (الآخر)، والدفاع عن حقه في
الاختلاف، الذي هو بنظر الإسلام (كفر)، جعل حماية حق الآخرين في (الكفر)
بالإسلام عقيدةً وذمةً وعهداً وميثاقاً، لا يكتمل بدون رعايتها والجهاد في
سبيل الحفاظ عليها إيمان المؤمنين بالإسلام!.. إلى هذه الذروة ارتقى
الإسلام، دون غيره من الديانات، عندما لم يقف، فقط، عند جعل
(الاختلاف-الكفر) حقا من حقوق أهله، بل جعل حماية الكافرين به، ورعاية
ممارستهم للكفر، جزءاً من عقائد الإسلام التي لا يكتمل بدون إقامتها
ورعايتها إيمان المؤمنين بالإسلام!.. فحماية الكفر بالإسلام، في دولة
الإسلام وفي داره، هي دين يتعبد به المسلمون، وليست مجرد تسامح، أو اختيار
إنساني، أو حق من حقوق الإنسان. وإذا لم يكن هناك كبير فضل في أن تعطى
الحرية لمن لا يخالفك في الاعتقاد، فإن الفضل كل الفضل في أن تجعل حمايتك
لحرية الجاحد لاعتقادك جزءا من هذا الاعتقاد!»(43).

إن فرح أنطون يعزو التساهل أو
التصالح إلى وجود الفلسفة وحدها، لأن هذه الأخيرة تفعل فعلها القوي في
النفوس كما حدث أيام الخليفة الحكم. «فهذا الانصراف إلى العلم والأدب أدى
إلى نتيجة من أبدع النتائج التي يجب أن تترنم بذكرها الأقلام. فإن العناصر
الثلاثة، اليهود والمسلمين والمسيحيين، تصالحوا في الأندلس تحت كنف العلم
والفلسفة والسلطة الأندلسية، تصالحاً أزال كل ما كان بينهم من أسباب
الشحناء [...] ولا عجب فإن من خواص الفلسفة أن تري الإنسان ضعفه وعجزه
وظلمة الأبدية التي حوله. ومتى رأى الإنسان هذا الضعف والعجز والظلم أصبح
أكثر تساهلاً وتسامحاً في رأيه ومعتقده، لأنه يترك الاعتقاد بأن الحقيقة
محصورة في يده وحده»(44). فإذا كان فرح أنطون يدعي بأن التصالح لا يتعلق
بتطبيق الإسلام، ويربأ تفسير استنارة الخلفاء تفسيراً دينياً، فإن محمد
عبده يرى أن الدين أفعل وأجدى وأبلغ أثراً في النفوس، فالدين له جذور قوية
في حياة الأفراد والمجتمع، ويلعب دورا هاما في حياة الإنسان، «فعامل الدين
هو أقوى في أخلاق العامة، بل والخاصة. وسلطانه على نفوسهم أعلى من سلطان
العقل الذي هو خاصة نوعهم»(45).

صحيح أن محمد عبده لا يعترف
بالتأويل الفلسفي كتأويل رسمي للإسلام، لكن صحيح أيضاً أنه لم يكن مخاصماً
له، كما هو لائح في (رسالة التوحيد). بل والأكثر من ذلك، فهو يعتبره
مشروعاً وأحياناً مقبولاً، وفي هذا الصدد يتبنى المفارقة القديمة بين
الخاصة والعامة قائلاً: «أظن أنك لا تخالفنا في أن الجمهور الأعظم من
الناس، بل الكل إلا قليلاً، لا يفهمون فلسفة أفلاطون، ولا يقيسون أفكارهم
وآراءهم بمنطق أرسطو»(46). فإذا كان التأويل الفلسفي مقبولاً، فهو مقبول في
حدود الخاصة. أما العامة فهم لا يفهمون الفلسفة، فالعقيدة يجب أن تفهم
لهم. ومن هنا، فلا عجب أن يشكك البعض في أشعرية محمد عبده، لأنه أقرب إلى
الموقف الرشدي الذي يميز بين الخاصة والعامة. فمحمد عبده فسر القرآن
بالعقل، ويعتبر «أكبر نصير للعقل بين قادة الفكر الديني المحدثين في مصر
[...] لأنه انتصر للعقل وكفل له حرية الانطلاق في تطهير الدين مما أفسده من
منكرات وبدع، وتنسيق مبادئ العقيدة الإسلامية في ضوء الفكر العصري الحديث،
وتحرير العقل من قيود التقليد، فسبق بهذا زمانه»(47). وكأني بالحركة
الإصلاحية التي تزعمها محمد عبده الذي يهتدي بهدي العقل «نوعاً من الحركة
الاعتزالية الجديدة»(48).

إن محمد عبده لا يرى في الإسلام
غير التسامح، ولذلك صعق وانزعج كثيراً من ادعاء فرح أنطون بأن الديانة
المسيحية أفضل في التسامح مع العلم والمدنية من الإسلام، من خلال تركيزه
على نكبة ابن رشد. ذلك أن فرح أنطوان لم يدخر جهداً في التهويل من محنة ابن
رشد، والمسارعة إلى بعض الروايات التي لم يتجشم عناء فحصها وتمحصيها
ونقدها، فخصص حصة الأسد للحديث عن هذه المحنة مقارنة مع مقام ابن رشد في
بلاط الموحدين الذين عززوه وكرموه قبل وبعد هذه المحنة! ومن هنا عدم
استساغة محمد عبده لترجمة فرح أنطون لابن رشد. «لأن صاحبها يقصد تأويلها
بما يفيد أن محنة ابن رشد رغم قصرها واختلاف أسبابها محنة صادرة عن أهل
الملة. فالأمير إنما انصاع مؤقتاً لرأى الفقهاء والذين يكنون عداءاً
للفلسفة وأهلها. فلولا حماية بعض الأمراء في الإسلام لما قامت للحكمة
قائمة. وبالمقابل رحب الغرب المسيحي بابن رشد وانقطعت فلسفته في الإسلام.
في الإسلام نبذ ابن رشد (ومعه الحكمة) حياً وميتاً. وفي المسيحية انتشر
مذهبه وتعصب له الناس وساهم في تقدمهم العقلي وتحملوا من أجله المحاكمات
والاتهامات. إن الشيخ الإمام فهم من ذلك كما يقول تلميذه رشيد رضا أن هذا
(الكاتب المسيحي) يستغل هذه الترجمة بالادعاء بأن «المسيحية كانت أكثر
تسامحاً مع العلم من الإسلام [...] أي أنه كان يريد أن يمرر خطاباً
استشراقياً شائعاً في تلك الفترة يقصد تمجيد المسيحية (بفضل تقدم أهلها)
والنيل من الإسلام (لانحطاط أممه وشعوب) تمهيداً لحركة التنصير والاستيطان
الاستعماري»(49).

لقد حاول محمد عبده جهد الإمكان
تبرئة الإسلام من سيئات تاريخه، وحرص على أن لا يحمله مسؤولية ما ارتكب
باسمه. فالبون شاسع بين تاريخ الإسلام وتاريخ المسيحية. وكل ما حدث من
مساوئ منذ زمن الخلفاء الراشدين كان سببه هو السياسة التي يتعوذ منها
الإمام في هذا النص الذي يقول فيه: «فإن شئت أن تقول: إن السياسة تضطهد
الفكر أو الدين أو العلم فأنا معك من الشاهدين، أعوذ بالله من السياسة، ومن
لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة، ومن كل
خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة، ومن كل شخص
يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس
ومسوس»(50).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

السجال حول العلمانية في الفكر العربي المعاصر محمد أيت حمّو :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

السجال حول العلمانية في الفكر العربي المعاصر محمد أيت حمّو

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
»  هل محمد في القران الكريم هو نفسه محمد ابن عبدالله في السيره والاحاديث ال طلال م صمد الحوار المتمدن-العدد: المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
» العقلانية والتنوير في الفكر العربي المعاصر
» الاضطراب المفهومي في الفكر العربي المعاصر
» الاضطراب المفهومي في الفكر العربي المعاصر
» أزمـة الفكر العربي المعاصر: في مفهوم الأزمة (1)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
انتقل الى: