** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

 

 الصورة الشخصية لإنسان الحضارة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حياة
فريق العمـــــل *****
حياة


عدد الرسائل : 1546

الموقع : صهوة الشعر
تعاليق : اللغة العربية اكثر الاختراعات عبقرية انها اجمل لغة على الارض
تاريخ التسجيل : 23/02/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 10

الصورة الشخصية لإنسان الحضارة Empty
25092012
مُساهمةالصورة الشخصية لإنسان الحضارة

عدنان المبارك









الصورة الشخصية لإنسان الحضارة Thumbnail.php?file=emile_cioran_880019436














أميل سيوران
ترجمة: عدنان المبارك


إن
السعار الذي ينطلق به من المشهد البشري كل ما هو غير منتظم، غير متوقع،
معدوم الهيئة ، يحاذي إنعدام الحشمة. بوسعنا أن نتألم لأن بعض القبائل لا
يزال يستسيغ أكل المسنين المزعجين لكننا لا نوافق على ملاحقة المترفين ذوي
الجاذبية. عدا ذلك فأكل لحوم البشر يمثل نموذج دورة إقتصادية مغلقة ، وفي
الوقت نفسه قد تكون في يوم ما طريقة ً مغرية للسيّار المكتظ بالبشر. غير
أنه ليس غرضي أن أتعاطف هنا مع مصير أكلة لحوم البشر، رغم أنهم مطاردون بلا
شفقة، ويحيون في خوف ، ويبدون اليوم من كبار الخاسرين. لنعترف بأن وضعهم
ليس بالجيد حاليا. وفي الأخير هم بأعداد أقل فأقل ويخطفهم الموت بعد أن
فقدوا الثقة بقواهم وعجزوا عن الدفاع عن قضيتهم.
بصورة مغايرة تماما
يبدو وضع الأميين - الكتلة الضخمة المتعلقة بتقاليدها وإمتيازاتها التي
تنزل على رأسها الصواعق بسعار غير مبرر أبدا. فأي سوء هناك إذا لم يعرف
أحدهم القراءة و الكتابة؟ أقول بكل صراحة إني لا ألحظ أي سوء في هذا. بل
أقول أكثر: أنا واثق من أنه في اليوم الذي يختفي فيه آخر أميّ سيكون
بمقدورنا توقع تأبين آخر إنسان.
إن الإهتمام الذي يبديه الإنسان المتمدن
بالشعوب المسماة بالمتخلفة هو أمر مريب تماما. فهو بعد أن عجز عن تحمل
نفسه لأمد أطول يجهد في التخفيف عنها بإثقال تلك الشعوب بمزيد من الأمراض
التي تسحقه ويرغمها على تذوق أحوال بؤسه داعيا إياها الى مصير عجز هو عن
مواجهته. إنه يتذكر في كل لحظة سعادتها - أي في أنها لم ( تتطور ) - و يشعر
إزاءها بالحسد الذي يكنه المفقود والفاشل والمنحرف عن السكة. وبأي حق
يبقونه على الهامش ، خارج عملية إنزال المرتبة التي عليه وحده أن يعاني
بسببها منذ زمن طويل ، ولن يتفاداها أبدا ؟ الحضارة - عمله وجنونه تظهر له
كعقاب ينزله هو نفسه بنفسه وبعدها ينشد أن ينزله ولوحده ، بالذين أفلتوا
منه لغاية الآن. " إبدأوا بمشاركتي هذه الهزيمة، كونوا متضامنين مع جحيمي "
- هذا هو معنى حرصه عليهم ، ومثل هذا الأساس لفضوله و حماسه. وحين أصبح لا
يطيق أحوال ضعفه، والى درجة أكبر ( تنوّره ) واصل جهوده كي يفرضها على
بشرهم ، ولحسن الحظ ، أحرار. لقد سلك قبلها بهذه الصورة ، في العصر الذي لم
يكن (منوَّرا ) أبدا ولا ضجرا من نفسه لكنه أعطى إستراحة لطمعه وشهوة
المغامرة ودناءته. وفي ذروة نجاحهم أكيد أن الإسبان شعروا بأنهم مقيَّدون
بمتطلبات إيمانهم وتعليمات الكنيسة ، الصارمة على السواء. وهم حققوا
الإنتقام من كل هذا في فصول ذاك الغزو.
إذن يمكنك أن تعمل من أجل خلاص
إنسان آخر ؟ إذا كان الجواب نعم فعلى الأقل لن يكون من أجل ضمان الخلاص له
بل لإرغامه على المعاناة مثلك، على الإستسلام وكما أنت للتجارب التي من
المفروض أن يقبلها، ومثلك أيضا، بصبرنافد. وقد تؤدي أنت طقس السهر religous
watch والصلاة والإنسياق للهموم ؟ - إذن ليفعل الآخر الشيء نفسه، و
ليفطسْ، ليئن ، ويتلوى مثلك وسط هذه التنكيلات نفسها. التعصب صفة النفوس
المقفرة، وإيمانها يقود الى عذاب مقصود أقل أو أكبر ومن أجل أن يشمل الجميع
ويصبح معمَما. ولأن سعادة الآخر لم تكن أبدا دافعا ولا مبدآ لنشاط الإنسان
، فنحن نعلنها لإراحة الضمير وحمل قناع النبل لاغير، إنها مسألة الحافز
الذي يدفعنا ويستنفرنا الى أن نقوم بفعل وأيّ كان ، وهو مخجل على الدوام ،
ولا نريد الإعتراف به. لا احد ينقذ احدا، ولأن الإنقاذ ممكن للنفس فقط مما
يكون أكثر سهولة، وكلما أفلحنا بإكساء الشقاء، وبشكل أحسن، برداء
المعتقدات، يكون أكثر كرما مسعانا في إعطاء الاخرين حصتهم. وحميّة الهداية
الى دين proselytism وبمعزل عن مظاهرها وحتى الكاذبة منها والأشد إغراء،
تنبع في الجوهر من نبل هو موضع الريبة، وفي عواقبه هو أسوا من إعتداء
مفتوح. لا أحد يملك الرغبة في تحمل إنضباط سبق أن إستسلم له، ولا إستعبادا
تقبله صاغرا. ومن جذل قسّ الإرسالية والحواري يظهر الإنتقام. فإذا أخذ
أحدهم في هداية الآخرين الى دينه لا يعني هذا تحريرهم بل تقييدهم.
ومنذ
اللحظة التي يسقط فيها الإنسان في شرك وثوق ما، يثيرالغيرة فيه عدم ثبات
عقائد الآخرين، ومقاومتهم للدوغماءات والشعارات، و عجزهم المبارك عن
الإستسلام لعبوديتها. وفي قرارة نفسه يخجل مثل هذا الإنسان من إنتمائه الى
ملة أو حزب، من كونه يملك الحقيقة وأصبح عبدا لها، سوف لن يملك أي إتهام
لأعدائه المعلن عنهم - للذين يملكون حقيقة أخرى، بل لك أنت اللا مبالي الذي
يكون ذنبه جريمة َ عدم السعي الى إمتلاك اي واحدة من الحقائق. ويمكنك تجنب
العبودية التي وقعت فيها، بالبحث عن ملجأ في النزوة أو عدم الوثوق؟ - لقد
إستخدم هو جميع الوسائط كي يضع العراقيل أمامك، كي يحني جذعك من أجل قبولك
لعبودية شبيهة بعبوديته. إن هذه الظاهرة شائعة الى درجة أنها تتجاوز نطاق
الحقائق الأكيدة وتدخل آخر هو منطقة الرأي العام. والمرآة المشهورة هنا،
وغير اللطيفة أيضا، هي الأدب. وأيُّ من الكتاب الذين يحظون بصيت ما، لا
يعاني ، في الأخير، لهذا السبب ، ويواجه متاعب حقيقة أنه معروف ومفهوم
ولديه جمهور وحتى لو لم يكن كبيرا ؟ وحين يحسد أصدقاءه الذين يتمتعون بسحر
المجهولية ، يفعل كل شيء كي يبعدهم عن ذلك السحر ويعكرعليهم كبريائهم
الوديع كي يعرفوا هم أيضا مرارة وأحوال قلق النجاح. ولكي يحقق هذا لا يلجمه
أي شيء. ومنذها تصبح حياتهم كابوسا. سينكّل بهم ويضغط عليهم ويرغمهم على
الإنتاج والوقوف أمام الجمهور. وسيكافح مطامحهم في شهرة مخفية، غير مشروعة
وهي قمة أماني النفوس الرقيقة التي لا تعرف كيف هو النشاط الكبير. أكتبوا
وأنشروا - يحرضهم بسعار ومن دون خجل. والتعساء هم مطيعون له غير عالمين بما
سينتظرهم، هو وحده يعلم . إنه يتابعهم ، و يتابع تمحيصاتهم الطويلة
ويمتدحها بصورة مبالغ فيها وبصخب، و بحماس مخبول ، كي يدفعهم في هاوية
الراهن ، ويعثر لهم على معجبين وتلامذة أو يخترعهم، ويبعث إليهم بحشد من
القراء - قتلة غير مرئيين وذوي حضور شامل. وبعد إرتكاب هذه الجريمة تسري
الطمأنينة في نفسه وينسحب الى زاوية حيث يمتع بصره بمنظر محميّه فريسة
العذاب والذل اللذين عانا منهما. ويلخص وضعه بصورة رائعة قول كاتب روسي لا
أتذكر إسمه: الفكرة نفسها عن أن الكاتب مقروء قد تدفع الى الجنون.
ومثل
المؤلف الذي أصابه مسُّ الشهرة وعدواها يفعل كل شيء كي ُيلحق بها أيضا من
لم يخضعوا لسلطانها، وهكذا يكون الإنسان المتحضر أيضا، ضحية الوعي المحموم
والذي يجهد كي ينقل تشنجاتها الى شعوب تملك المقاومة لأحوال بلبلته. أليس
بمقدوره قبول فكرة أن توّزعه النفسي الذي يعذبه و يحفر فيه لا تكترث له تلك
الشعوب ؟ إلا أنه لا ينبذ أيّ حيلة ممكنة كي يكسر تلك المقاومة ويجعل تلك
الشعوب شبيهة به ودفعها في الدرب نفسه - الجلجلة التي يصعدها. إذن سيغويها
بحضارته التي تنقاد في النهاية الى أسحارها الى درجة أنها لا تقدر على
التفرقة بين ما هو طيب فيها وما هو سيء. وتبدأ بمحاكاة الجوانب السيئة حسب -
كل ما يجعل من الحضارة وباء منظما بصورة منهجية. وإذا كانت هذه الشعوب
لغايتها طيبة النفس ومسالمة، هي تريد الآن أن تكون قوية ومخيفة - وهي كبيرة
غبطة محسنها الذي يعرف بأنها ستكون مثله ، في الجوهر، قوية ومخيفة. إذن
سيهتم بها ويبدي لها ( المساعدة ). وما يدعو الى الإرتياح رؤية هذه الشعوب
وهي تقع في المشاكل نفسها وتمضي بخطوات مترنحة صوب القدر نفسه! صيرورتها
كائنات ٍ معقدة تهاجمها الهواجس وأحوال الهوس غير الصحية - وفي هذا يكمن كل
طموحه. إن حماسها الفتي الى الأدوات و الترف، الى أكاذيب التكنيك، يمنحه
الهدوء ويشيع الرضا في نفسه: ها هنا بضعة محكومين أكثر، بضعة رفاق مشاركين
في المصير التعس وغير متوقعين وبمكنتهم تقديم المساعدة له هذه المرة في حمل
ولو جزء من الأثقال التي تسحقه أو على الأقل أن ياخذوا على عاتقهم القدر
نفسه من الأثقال التي يرزح تحتها. وهذا بالضبط يسمى بـ( الترقية
advancement ) لهذه الشعوب - إنها كلمة كتمويه camouflage لإ نحرافه وجروحه
أيضا.

إن
بقايا الإنسانية لا يمكن العثور عليها إلا لدى الشعوب التي سبقها التأريخ
والتي هي ليست على عجلة أبدا كي تختصر البون. وأمثال هؤلاء البشر الذين
يمضون ببطء في الساحة الخلفية للشعوب، ولا يملكون ذرة حساسية إزاء إغراءات
هذه العملية كلها [ التمدين ]، يحرصون على مزاياهم المتأخرة ويجدون أن
تأخرهم هذا من الفروض. بالتأكيد هم ( متخلفون ) - ولو كان بمقدورهم لبقوا
هكذا - ولإستمروا في هذا الركود. لكن غير مسموح لهم بذلك. المؤامرة ، التي
يحوكها ضدهم هؤلاء (المترقون) منسوجة بمهارة كبيرة الى درجة لا تسمح لهم
بالإنتباه اليها. وطالما أن عملية إنزال مرتبتهم قد بدأت يصيبهم السعار
بسبب أنهم عجزوا عن مقاومتها، وأنهم يسعون بأنفسهم، ومن دون تلك الكوابح
التي يعرف بها محدثو النعمة، الى الإسراع بها [ العملية ]، وإعتبارها
عمليتهم الخاصة ودفع رعبها الى الأمام وفقا لقانون أن السوء الجديد يدحر
الخير القديم. سيكون مطمحهم ( اللحاق ) ولو من أجل أن يظهروا للآخرين بأنهم
أيضا يعرفون الإنحطاط decadence، وبمستطاعهم حتى التفوق هنا على الآخرين.
أعلينا أن نستغرب هنا أو نشكو؟ أليس واضحا في كل مكان كيف أن المظاهر تعلو
على الجوهر، والإرتجاف على الهدوء؟ ألا يمكن القول بأننا شهود على علو ما
هو غير مدمَّر؟ كل خطوة الى الأمام ، كل شكل للدينامية يملك في جوفه شيئا
شيطانيا، و( التقدم ) هو المناسِب المعاصر للسقوط [الخطيئة الأولى]، الصيغة
العلمانية للعنة [ الحكم بالهلاك الأبدي ] damnation . والذين يؤمنون به
ويطوّرونه - إذن في النهاية نحن جميعا - ومن نحن إذا لم نكن المدانون
الماضون الى الأمام والمخصصون لقذارة هذه المكائن ، لهذه المدن التي من
الممكن تخليصنا منها في حالة واحدة لا غير: حدوث كارثة ما ، شاملة... ولكن
هذا سيكون لمخترعينا الفرصة التاريخية الوحيدة للبرهنة على نفعهم.
إذا
كان ( التقدم ) سوءا كبيرا الى هذه الدرجة لم لا نفعل شيئا كي نتحرر منه
بأسرع ما يمكن ، ولكن هل نحن نريد الخير؟ ألسنا بالأحرى محكومين بأننا لا
نريده حقا ؟ في تقلبنا نطمح بـ(الحسن ) ونسعى إليه، وهي مساع مُضيِّعة ،
ومن كل الجوانب هي ضد سعادتنا. وبغير عقاب نعجز عن أن نقوم بـ( الإتقان
الذاتي ) والمضي الى الأمام في الوقت نفسه. ونحن نعلم جيدا أن الحركة هي
هرطقة ولذلك تغوينا ونلقي النفس في أوارها، ولكوننا فاسدين نفضل هذه الحركة
على أورثوذكسية الراحة. نحن قد خلقنا للوجود النباتي، للترعرع في اللا
حركة وليس للضياع بسبب الركض في الحياة والحرص على الصحة، وهذان هما
المسؤولان عن تكاثر هذه الكائنات الهزيلة والمعقَّمة aseptic، عن مرتع
الأشباح حيث لا شيء غير الهيجانات لكن لا حياة هناك. إن قدرا معينا من
القذارة لا غنى عنه للجسم (الفييزيولوجيا والقذارة مصطلحان قابلان
للتبادل)، ولذا فأن آفاق النظافة على صعيد الكرة الأرضية كلها تثير خشية
مبررة. ونحن المُقمَلّون ذوو الطبع الهادئ من المفروض أن أن نختار رفقة
الحيوانات ونجلس القرفصاء بجنبها لألف سنة ونستنشق روائح الحظائر وليس
المختبرات، أن نموت بسبب الأمراض وليس الأدوية ، أن ندور حول فراغنا ونسقط
فيه بليونة. إن اللا حضور الذي ينبغي أن يكون بالنسبة واجبا وهاجسا قد
أبدلناه باللباس، وكل لباس يدفننا ويحفر فينا ويتغذى على توازننا وأمد
حياتنا. وكلما أحكم مستقبلنا الشدّ أكثر نسرع أكثر صوب خرابنا. الحضارة
بالنسبة لنا مخدّر قد سُممنا به الى درجة أن تعلقنا به يملك كل صفات الطبع،
إنها مزيج من الشده والقرف. وبالهيئة التي نعرفها بها ليس هناك من شك
بأنها ستقضي علينا، أما التخلي عنها والتخلص منها فهذا أمر نعجز عن القيام
به ، في الحاضر خاصة. وقد يهرع احدهم لتقديم العون ويقدر على تحريرنا ؟ مثل
هؤلاء البشر، وعلى سبيل المثال أنتيستينيس، أبيقور، هريسيبوس Chrysippos
الذين إعتبروا العادات الأنتيكية معقدة أكثر من اللزوم- لكن ما ذا سيقولون
عن عاداتنا ؟ أن أي واحد منهم منقول الى مدننا الكبيرة سيملك القوة النفسية
الكافية كي يحتفظ بهدوئه؟ القدامى هم أصح منا من كل النواحي وأكثر توازتا،
وهم قادرون على تدبير أمورهم من دون معونة الحكمة لكنهم خلقوها مما يعني
تجريدا من الأهلية أي أننا لا نسعى الى إمتلاك الحكمة كما ليس بمقدورنا
نيلها. أليس أمرا له مغزاه أن هذا الذي كان الأول [روسو] في العصور الحديثة
والمأخوذ بالعبادة الصنمية للطبيعة أدان بمثل هذا الحماس أفعال الإنسان
المتحضر، قد أصبح في الوقت نفسه نقيضا للحكيم ؟ أن تشخيص مرضنا ندين بفضله
للمجنون الموسوم بوسم أعمق وأكبر أثرا منا جميعا ، لذلك المجنون الفعلي
الذي كان الرائد والنموذج لأحوال جنوننا. وفي الأزمان الأقرب منا صرنا نجد
أن ولادة التحليل النفسي - هذا العلاج السادي الذي تكون الغاية منه بالأحرى
الزيادة في تفاقم أمراضنا وليس التخفيف عن آلامها، فهذا التحليل يختص في
فن إبدال حالات قلقنا الساذجة بأخرى معدة بصورة مصطنعة وماكرة - وهذا أمر
يميز عصرنا الى درجة أقل.
وكل حاجة تبعدنا عن أعماق الحياة وتدفعنا الى
السطح ، تمنح القيمة لشيء لا يملكها ولا يمكنه إمتلاكها. إن الحضارة بكامل
بهرجتها الأخاذة تعتبر أساسا لها ميلنا الى ما هو غير فعلي ولا حاجة اليه.
ولو قبلنا إختصار حاجاتنا والإكتفاء بما هو ضروري فقط لإنهارت هذه الحضارة
فورا. ولكي تواصل البقاء نجدها تبذل الجهد كي تخلق وتعرض علينا بإستمرار،
الجديد وتضاعفه من دون توقف، فإشاعة الموقف السلبي تماما تعود عليها بعواقب
أسوأ من عواقب حرب شاملة مدمرة. وللجوانب الشريرة للطبائع المتوارثة تضاف
أخرى جديدة وليست بالضرورة غير مريحة ، وهكذا فالحضارة تأمرنا بأن نتعذب
بطريقتين ، فهي تزيد من تنوع عذاباتنا وتقوي أحوال ضعفنا. وليكف أي أحد عن
إقناعنا بأن الحضارة قد شفتنا من الخوف... في الأساس أكيدة هي العلاقة بين
مضاعفة الحاجات ونمو المخاوف. والرغبات ، مصدر حاجاتنا ، تثير فينا قلقا
دائما ، ولو أن الأمر مختلف ، فعلى السواء يكون هذا القلق لا يحتمل كما في
حالة الطبيعة والخوف الذي نلقاه أمام خطر وقتي. نحن لا نرتجف من حين الى
آخر بل بلا إنقطاع. وأيّ شيء كسبناه حين إستبدلنا الخوف بالقلق ؟ ومن منا
يعرف كيف الحفاظ على التوازن بين الذعر الفوري والعابر وبين الآخر
الموّزَّع والدائم؟ الأمان الذي نتباهى به يستر، بلا توقف، الإضطراب الذي
يسمم علينا كل اللحظات - الحالية والقادمة ، الأولى يجعلها بغير ماض، أي
أنها لم تكن قائمة، والثانية غير مدرَكة. إن رغباتنا تمتزج بالمخاوف،
والسعيد حقا من لا يشعر لا بالأولى ولا الثانية! ولأنه حال شعورنا بإحدى
الإثنتين تولد الثانية - يبدأ نسقها البائس والمريض. حينها يقتصر سعينا ،
بالأحرى ، على القيام بتجربة العالم ، وكل إنطباع نتلقاه منه علينا إعتباره
مفروضا علينا ، ولا يخصنا ، إنطباعا نتحمله كما لو أنه لم يكن إنطباعا. (
لا شيء من الذي يحصل لي يعود إلي ، لا شيء هو ملكي ) تقول الأنا مقنعة
النفس بأنها ليست من هنا بل جاءت الى العالم عن طريق الخطأ وهي عاجزة عن
الإختيار بين اللا حساسية والخديعة.
إن الرغبة ، والمسماة بسلطة المظاهر
الخارجية ، تقتلعنا من جوهرنا وتسمّرنا في موضوعنا وتضيق علينا الأفق. إلا
أنه مع إشتعالها وتوقدها تسمح لنا برؤية أكثر وضوحا لتلك الشهوة المريضة
التي هي الإنبعاث emanation . وإذا أولدها وضعنا كمتحضرين تكون ، بالأساس،
طبيعية وغير نقية و تدخل الإضطراب على ماهيتنا نفسها وتلوثها. ويكون ضعفا
كل مايصبح فائضا لأعمق إلزامياتنا imperatives ، وكل ما يشوّهنا ويقلقنا من
دون حاجة. ومقابل ذلك يكون فضيلة ً كل ما يأمرنا بالعيش تحت تيار الحضارة ،
كل ما يدفعنا صوب الإجهاد وتخريب مسيرتها. إذا خص الأمر السعادة فأنها -
وإذا كان لهذا المصطلح معنى ما - تعتمد على خلق الطموح الى نيل ما هو
الأكثر ضآلة وغير النافع ، وعلى البقاء في دائرة ( هنا و الآن ) المنوِّمة
مغناطيسيا. والمهرب الوحيد أمامنا ليس التخلي عن ثمار أعمالنا بل عن
الإعمال نفسها، وأن نفرض على النفس نظام عدم الإنتاج وإهمال حصة الأسد من
طاقاتنا وفرصنا. في البدء حين ننشد التحقيق الذاتي لكن فوق إمكانياتنا،
نضيع نفوسنا غير مبالين بقدراتها ومحدودياتها المخفية. ومن هنا تعبنا الذي
تزيده جهودنا التي نبذلها كي نعتاد على الحضارة وعلى كل الفساد الذي تحويه
ضمنيا. وهو أمر لا يمكن نكرانه أن الطبيعة ملوثة أيضا غير أن فسادها هو
مسالة شرٍّ أبدي لا تمحيه الذاكرة ولا يمكن تفاديه، ونحن نتكيف له بشكل ما
من الناحية الرسمية ex officio في حين أن شر الحضارة قد خلق بسبب أفعالنا
أو نزواتنا، وعلى الأكثر الساحقة، التي تبدو لنا عرضية - إنها تحمل سمات
الأختيار أو القدرية التعسفية. وسواء عن حق أو من دونه فنحن نحكم بأنه لما
قدر له أن يكون، وأننا نحن من يقرر مسألة نشوئه أم عدمها. في النهاية يصبح
هو أشد كراهية لنا مما هو في الواقع, نحن غير مغتبطين من أنه علينا تحمله
وتدبير أمرنا مع بعض الصغائر التي تنضح منه بينما يكون بمقدورنا أن نقنع
بحالات بؤس كبيرة عادية، وفي الأساس يمكن تحملها، وعلى الأقل لم تبخل
طبيعتها علينا .
ولو إستطعنا التخلص من سلطة الرغبات لتخلصنا في الوقت
نفسه من المصير. حينها نكون نحن الأعلى من الكائنات والأشياء ومن ذواتنا
أيضا والرافضين لكل تآمر مع العالم، وعبر التضحية بالهوية لفتحنا الباب
للحرية ومن دون فصلها عن الإعتياد على المجهولية والتنازل abdication .
(أنا لا أحد، لقد إنتصرت على إسمي!) - ينادي من لا يريد أن يهبط الى مستوى
من يترك وراءه آثرا، ولذا يجهد في الإمتثال الى نصيحة أبيقور (عشْ في
الخفاء). ونحن نعود دائما الى أولئك الحكماء القدامى حين تخص المسألة فن
الحياة والتي فقدنا سرّها عبرألفي سنة من هيمنة ما فوق الطبيعة والحب
المتشنج للآخر. نعود إليهم، الى عقلهم الحصيف والرزين حين تنتابنا الحمى
التي علمتنا المسيحية إياها. والفضول التي يثيرونه فينا يمضي سوية مع
إختفاء جنوننا، ويعني خطوة الى الوراء بإتجاه الصحة. كذلك نعود إليهم ولأن
الهوة التي تفصلهم عن الكون هي أكبرمن الكون نفسه، ومن هنا الشكل الذي
يقترحونه، شكل الإنفصال عنه والذي بحثنا عنه عبثا لدى القديسيين.
إن
المسيحية وهي تعمل منا كائنات مسّها الجنون، قد أعدتنا، ونحن لا ندري، الى
جلب الحضارة للعالم الذي وقع نفسه ضحية لها. أليس هو من خلق فينا الفائض من
عدد الحاجات والمطالب؟ وكان على هذه المطالب والحاجات، الداخلية أولا، أن
تخضع بالتدريج الى إنزال المرتبة والتوجه الى الخارج. وشأن الحال مع التوقد
الذي خرج منه مثل هذا القدر من الصلوات المقطوعة فجأة، لم يقدر هو على
التطور ولا البقاء من دون مشاغل، ولذا كان عليه أن يخدم أربابا بالنيابة
وإعداد رموز توائم عدمهم. ولننظر فقط: ها نحن قد إنشغلنا بتزييف اللا منتهى
والمطلق المحروم من الأفق الميتافيزيقي، ورحنا مع السرعة ولأنه لم يُمنح
لنا الشده. وهذا الحديد المتقطع الإنفاس الأمين لإنعكاس حركيتنا النشطة،
وهذه الأشباح التي تتصرف به، هذه المسيرة الإستعراضية للأجهزة
الأوتوماتيكية، المسيرة الدينية للسائرين في نومهم! الى أين سائرون وعم
يبحثون؟ في كل مرة حين أميل الى أن أغفر لهم، حين أملك شكوكا، وهل هما
مبرران النفور والخوف اللذان يثيرونهما فيّ - يكفيني التفكير بالدروب
الريفية في يوم الأحد كي تبقيني صورة الديدان - الحافلات في حالة الإشمئزاز
والخوف. إن الأقدام ليست على الموضة ولذا يبدو الجوّال في عيون هؤلاء
المشلولين وراء المقود غريب الأطوار أو واحدا من المحكومين بل سيعدونه
وحشا. لا صلة اليوم مع الأرض. فكل ما هو نابت فيها أصبح غير مفهوم وغريبا.
وحين صرنا مقطوعين عن كل الجذور، والأكثر من ذلك غير قادرين على رفقة
الغبار أو الوحل، قمنا بفعل خارق وقطعنا الصلات وليس فقط مع عمق الأشياء بل
وحتى مع قشرتها. وفي المرحلة الحالية من الحضارة قد تبدو هي حلفا مع
الشيطان لو بقيت للإنسان نفسٌ للمساومة.
هل أن جميع هذه القباحات
الممكنة قد إخترعت من اجل (توفير الوقت) بالفعل؟ الإنسان المتمدن هو الأفقر
والأكثر حرمانا من الأرث بالمقارنة مع إنسان الكهوف، فهو لا يملك لنفسه
ولو لحظة واحدة وحتى أن وقت فراغه مليء بالحمى والتوتر. إنه سجين سيبيري في
إجازة ، فريسة الضجر الذي مبعثه اللا فعل أو كابوس البلاجات. ولو تعرف
الإنسان على بلدان حيث الكسل فيها من الواجبات والذي هو مبتغى الجميع يكون
من الصعب التكيف الى العالم الذي لا يعرف فيه أحد الكسل ولا يعرف كيف
التمتع به، في عالم لا يتنفس فيه أي احد. هل الكائن الذي بيع في عبودية
الساعات لا يزال إنسانا؟ وهل له الحق في تسمية نفسه حرا طالما نعرف أنه نفض
عن نفسه كل أنواع الإستعباد عدا ذاك الأهم؟ الواقع تحت رحمة ولا رحمة
الوقت الذي يغذيه ويسمنه لكن من مادته الخاصة، ويحرمه من قواه وحياته كي
يضمن التوفيق للطفيلي أو الطاغية. وهذا الداهية يتصور، رغم جنونه، أن همومه
وعذاباته تقلّ إذا إستطاع كـ(برنامج) أن يفرضها على الشعوب (غير المتطورة)
التي يرى سوءها في أنها (لا تلحق) أي أنها لم تسقط في تلك الدوامة. وكي
يدفعها فيها بصورة أكثر نجاعة يلقحها بسم الخوف ولا يتركها هادئة الى أن
تظهر فيها أعراض ما هو موضع همومه. ولكي يحقق أمانيه ببشرية متقطعة الأنفاس
ومشوشة الذهن تلاحق كل دقيقة، سيذرع القارات طولا وعرضا للبحث عن ضحايا
جديدة يصب على رؤوسها فائض حمّاه و ظلامه. وحين نبصره نرى كائنا حقيقيا
للجحيم ، أليس هذا هو المكان التي ينزل فيه عقاب العذاب الأبدي للزمن؟
عبثا
نغزو الكون ونغنمه، فطالما لا ننتصر على الزمن سنبقى عبيدا إسبارطيين [
Heílôtes ] إذن هو النصر الذي يحقق عبر التخلي resignation - الفضيلة التي
تعدّنا لها غزواتنا لكن بمثل هذه الصورة السيئة الى درجة أنه كلما كانت
الغزوات أكثر نقع في حالة إستسلام أعمق. والحضارة تعلمنا كيف نمتلك الأشياء
في حين أن من المفروض عليها أن تكشف لنا أسرار التخلص منها ، إذ ليس هناك
حرية ولا (حياة حقيقية) من دون تعلم التخلي عن مثل هذه الملكية. إذن، أنا
فرضت سلطتي على شيء وأعتبر نفسي سيّده لكني أصبح، في الأساس، عبده وكما أنا
عبد للأداة التي صنعتها وأستخدمها. ليس هناك من شيء مشترى لم يكن قيود ا
وليس هناك عامل قوة ، لايصبح مصدرا للضعف. بل حتى أن كل قابلية من
قابلياتنا تقود الى عبوديتنا. الروح التي تعلو بشكل واضح على الآخرين هي
أقل حرية منهم ولأنه مقيّد بقابلياتها ومطامحها ، إنها سجينة مواهبها وهي
ترعاها على حساب ذاتها والثمن الذي تدفعه عند إستخدامها هو لخلاصها
salvation . لا تحرير هناك لمن يضع هدفا لنفسه أن يكون مرموقا. وكل ما
نملكه أو نخلقه، وما نحمّل به جوهرنا أو ما ينبع منه ، إنما يشوّه طبيعتنا
ويخنقها. وفيما يخص هذا الجوهر - ثمة خطأ ما ، جرح ما ، ذلك الوجود الذي
أعطيناه إياه في حين كان بمقدورنا ونحن سالمين وآمنين أن نواصل البقاء في
دائرة إدعائنا ! لا أحد بمقدوره الشفاء من مرض الولادة - الجرح الأول
والرئيسيي بين جراحنا. إلا أننا نقبل الحياة ونتحمل تجاربها على أمل أنه في
يوم ما سنكون قد شفينا. الأعوام تمر ، والجرح باق.
ومع تنوع الحضارة
وتعقدها نلعن بصوت أعلى فأعلى الصلات التي تربطنا بها. ووفق قول سووفيوف
تقترب هي من نهايتها ( وبرأي الفيلسوف الروسي ستكون هي نهاية كل شيء ) في
قلب القرن ( الأكثر تفننا ). لكن هناك أمر معين : لم تكن هي أبدا مهدَّدة
بقوة ومكروهة وكما في اللحظات التي تبدو فيها ذات أكبر قدر من الحيوية. و
تشهد على ذلك الهجمات الموجهة ضدها في قلب عصر التنوير حين حصل إنتقاد
عاداتها وإغراءاتها وإنجازاتها التي كانت تتباهى بها. ( في العصور الأكثر
رقة يجعل الناس أمرا شبيها بالدين الإعجابَ بما كان موضع الإعجاب في القرون
البربرية ) - يلاحظ فولتير الذي - ولنعترف - لا يصلح للعثور على أسباب مثل
هذا الإنسحار المبرَّر. في كل الأحوال أصبح في عصر الصالونات فرضا (
العودة الى الطبيعة )، تماما كما لو أن مثال الأتاركسيا [ التحرر من كل خوف
] كان ممكنا نشوؤه في العصر الذي لم يطق ، ولأمد أطول ، الأنظمة
والتمحيصات وأخذ يفضل متع الحديقة على الخلافات في الإجتماع الشعبي
اليوناني القديمة [ agora ]. والدعوة الى الحكمة لا تأخذ بها دائما إلا
الحضارة التي أضجرتها نفسها. والأمر المثير للإهتمام أنه يصعب علينا تصور
العملية التي أدت الى حالة الإشباع للعالم الأنتيكي الذي بالمقارنة مع
عالمنا يبدو من كل النواحي شيئا مثاليا غيرمأسوف عليه. وفي الأخير عند
المقارنة مع إنحطاطنا الحالي يبدو لنا كل عصر سابق نعيما. وحين إنحرفنا عن
الطريق المؤدي الى هدفنا الحقيقي ندخل - هذا إذا لم يكن قد دخلنا - عصر
النهاية ، وفي هذا العصر النموذجي par excellence ( وصفة المعقد تكون أدق )
الذي وُجدنا فيه من كل النواحي ، وهو أمر واضح تماما ، هو في الجهة
المقابلة للأخرى التي كان من المفروض ان نقف فيها.
إن شتى أنواع الشرور
مكتوبة في وضعنا البشري ، وهي تفوق الخير ، وحتى لو توازنت الكفتان هنا
فقضايانا لن تلقى الحل. فنحن في العالم كي نعارك الحياة والموت وليس المرور
بجنبهما أي كما تهمس الحضارة به لنا ، هذا الجهازالذي قنّع القضايا التي
لاتعرف الحل ، وقام تجميلها حسب. فالحضارة لا تملك في جوفها أي مبدأ للبقاء
، وميزتها الوحيدة هي أزقة مقفلة لا تعيننا في أن نحيا ولا أن نموت بصورة
أفضل. وحتى لو إمتلكت الحضارة معرفة غير نافعة لعرفت هي كيف تطرد شتى انواع
الأوبئة أوأنها أرادت بدافع تحقيق الوفاق معنا ، منحنا جميع سيّارات
السماء لكن لكانت النتيجة في جميع الأحوال إزدياد ريبتنا وإنزعاجنا. وكلما
أرتفعت حمى تخبطها ونفخها الأوداج يزداد حسدنا للقرون ذات الإمتيازات ،
فهذه لا تملك أي فكرة عن التسهيلات والعجائب التي تغرقنا الحضارة بها من
دون إنقطاع. ( العيش على خبزالشعير والماء يمكن أن تحيا سعيدا كما الرب
المشتري Jupiter ) - كان يقولها معجبا حكيم كي يشجعنا على العيش في الخفاء.
هل العودة اللحوح الى هذا القول هي محض هوس ؟ إلا أنه لابد من التوجه
بالكلام الى أحدهم طلبا النصيحة - أحد من معاصرينا ؟ لكن هذه المخلوقات غير
كتومة ، ومحمومة تعمل رّبا من التباهي والطمع و الجهد ، ولذا صرنا دمى
غنائية لا تعرف حالة الإشباع ويكاد يقتلها الإعياء ؟! التبرير الوحيد
لإنفجارعواطفها هو أنه ينبعث من غريزة طرّية وليس من إندفاعة صادقة بل من
الذعر بسبب مشهد الأفق المغلق. هناك فلاسفة كثيرون فاحصون مستقبلنا وكلهم
خشية ، يعبرون ، في الجوهر ، حسب عن شعور البشرية التي حين ترى أن اللحظات
تفلت منها واحدة بعد أخرى ، تجهد في أن لاتفكر بهذا الشيء - ولكنها تفكر
بلا إنقطاع. و تكون مناهجهم في الأساس كما لو إنها إستنساخات وأشغالا
خطابية لهذا الهاجس. الأمر شبيه بالتأريخ ، فهو لم يثر إهتمامهم إلا حين
إنتبه الإنسان الى أنه يملك كل أسباب للشك كي يخدمه هذا التأريخ ، كي يبقى
هو فاعله. وهو صحيح إن كل شيء يحدث كما لو أن هذا التأريخ قد أفلت من قبضة
الإنسان ، وإزاء ذلك عليه أن يبدأ طريقا جديدا في الحياة - لا تأريخيا ،
قصيرا ومؤلما ، ولا تبدو كوارثها التي هو مغرم بها لغاية الآن سوى محض
هراء. إن إحتياطيه من الحياة آخذ بالتقلص مع كل خطوة الى الأمام. ونحن
كائنون بفضل التقهقهر حسب ، بفضل البون الذي يفصلنا عن الأشياء وعن نفوسنا.
ويكون معنى القيام بحركة هو الخضوع للزيف والوهم ، معناه القيام بتفرقة
غير مرخص بها ، بين الإمكان والقبر. وإزاء الحركية التي حققناها حاليا ليس
بمقدورنا السيطرة على أفعالنا ولاعلى مصيرنا. أكيد أن ما يسهر على الأفعال
عناية ما فوقية سلبية هدفها ، ومع إقترابنا من النهاية ، أن يكون أسهل
فأسهل التغلغل ، ولوقدرلها لتكشفت بسهولة لكل واحد يرغب في التوقف و نسيان
دوره كي يرى ، بإنتباه ، ولو خلال برهة ، الى الجحفل التراجيدي المتقطع
الإنفاس الذي هو فلذة منه.
وعند الفحص العميق نصل الى إستنتاج مفاده أن
قرن النهاية سوف لن يكون قرن أكبر تفنن ولا حتى قرن أكبر تعقيد بل أكبر
إسراع ، القرن الذي أطلق فيه الوجود للحركة - الحضارة التي هيمن عليها
الإندفاع الأخير صوب الأسوأ حيث يهوى الوجود في دوامة أثارها هو بنفسه. و
طالما تعجز هذه الحضارة عن عمل أي شيء يحول دون ذلك لنكف عن هذه المقاتلة
بكل قوانا ولنحاول العثور في فظاعاتها عن تسام ٍ يأمرنا بعقلنة الغضب
ومراجعة الإحتقار. حينها سيظهر أن تلك الأشباح المؤتمتة وكل هؤلاء
المخبولين ليسوا بالمنفرين جدا ، ونحن سنفهم دوافعهم غير الواعية ، وأعمق
أسباب جنونهم. إذ ألا يشعرون جميعا بأن الوقت الذي أعطي لهم ينقص مع كل يوم
، وأن الحل الأخير يكتسب شكلا ؟ أوليس الغرض : لطرد تلك الفكرة يكون
الإرتماء في دوامة السرعة ؟ ولو كانوا موقنين من مستقبل آخر لما أمتلكوا أي
سبب للهرب - ومن النفس أيضا ، و لأبطأوا غير خائفين إيقاعهم، ولمكثوا
بصورة إعتيادية في حالة توقع غير محدد. إلا أنه في حالتهم لايحسب أي حساب
لأي مستقبل ، لا لهذا ولا لآخر، فهم لا يملكون ، ببساطة ، أي واحد. هم
يشعرون حسب باليقين المنبعث من دمهم الذي أصابه جنون مظلم يصعب التعبير عنه
بالكلمات ، وهم يخشون النظر إليه بالصورة المباشرة ، ونجدهم مسرعين أكثر
فأكثر كي ينسوه ولا يريدون إمتلاك ولو ثانية واحدة ؟ أثناءها يحصل الصدام
بينهم والمحتوم القائم في الثانية بفعل تلك الوتيرة التي تصوروا أنها
تحميهم منه. إن المكائن هي عاقبة وليست سبب هذا الإسراع ، ونفاد الصبر هذا.
فليست هي من يدفع الإنسان المتحضر صوب الضياع بل بالأحرى قد إخترعها ولأنه
دخل الطريق المؤدي الى الضياع. إذن هناك سبل ووسائط معينة لديه كي يصل الى
هناك بصورة أسرع وأنجع. وها هو قد وصلها لكن هذا لا يكفيه ، فهو أراد أن
يصل الى هناك راكبا ً. بهذا المعنى لا غير يمكن القول بأنها هي في الجوهر (
توّفر الوقت ) له. وهذه المكائن يوزعها يمينا وشمالا ، ويفرض على الشعوب
المتأخرة، المتباطئة اللحاق به بل أن تتركه وراءها في العدو صوب الكارثة ،
صوب الجنون القاتل العام والممكن. ولكي يتم الإسراع في مجيئه يأخذ بكل حمية
بتسوية المشهد البشري وتنميطه ويزيل كل حالات اللا نتظام وكل المفاجآت،
فهولا يريد أن تسيطر فيه حالات الشذوذ بل بالأحرى حالة شذوذ واحدة - موّحدة
، رتيبة ، روتينية صيغت في قاعدة ، في مأمورية. ومن ينحرف عنها يسميهم
أنصارَ الظلامية أو غريبي الأطوار، وهو لن يلقي السلاح الى أن يقودهم الى
الدرب السوي - درب أخطائه. في البدء يخشى هذ االدرب الأميّون - إذن يرغمهم و
يأمرهم بتعلم القراءة والكتابة كي لايقدر أي واحد قُبض عليه وألقي بمصيدة
المعرفة ، على الإفلات من الشقاء المشترك. إن ماء العين cataract كثيف في
بصره الى درجة أنه لا تخطر بباله فكرة وجود نوع آخر من العمى. وحين لا يملك
الوقت للتمرن على السخرية من النفس ( و من المفروض أن تدفعه صوبها نظرة
خاطفة الى مصيره ) يكون محروما من أي وسيلة للصراع مع النفس ، وهنا يصبح
إزاء الآخرين عدائيا. عدواني وبائس في الوقت نفسه إلا أنه يملك ولو ذرّة من
شعورما طاغ. لقد أوقع نفسه في شبكة بالغة السوء تدفعنا الى فهم أنه أمر
محرج إدانته و مهاجمته ، ولاحاجة هنا للقول إن ليس من اللائق أن نقول سوء
عن مريض لا شفاء له وحتى لو كان إنسانا منفرا.
والآن هل نستطيع بعد كل هذا أن نطلق رأيا عن أي شيء إذا كنا نعبد الذائقة الجيدة وحدها ؟


* فصل من كتاب ( السقوط في الزمن ) . الطبعة الفرنسية :
La chute dans le temp. باريس ، غاليمار ، 1990 . الطبعة الإنكليزية : The Fall into Time. Gallimard ,1964

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

الصورة الشخصية لإنسان الحضارة :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

الصورة الشخصية لإنسان الحضارة

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
انتقل الى: