حسين علي الحمداني
لكل ثورة تأثيراتها وأبعادها ، ويخطئ من يظن بأن ثورات الربيع
العربي اقتصرت على الجانب السياسي أو الاقتصادي فقط ،بل سلطت الضوء على
أشكال ثقافية وفكرية جديدة انبثقت على هامش الثقافة السائدة، ثقافة السلطة
والخطابات القائمة التي تشكلت في الحقل الدلالي والإيديولوجي لـ'مجتمع
النخبة ، هذا المجتمع الذي صنعته الأنظمة وأدامته على مدى عقود واصبح جزأ
من أركان السلطة وصيرورتها.
ولعل أهم إنجاز بارز حتى هذه اللحظة يتمثل
ببروز نخب ثقافية جديدة تستمد فعاليتها من كونها خارج إطار السلطة مما يمهد
لتشكيل مشهد ثقافي جماعي بأدوات عصرية حديثة قائمة على الابتعاد على ما
مألوف سابقاً من النماذج الثقافية التي تعايشنا معها عقوداً طويلة إلا وهي
النموذج الفردي، والقائد الأوحد على مستوى الدولة والهيمنة المطلقة في
الحلقات الأخرى لشخص واحد وما يترتب على ذلك من تكريس لمفاهيم فردية تؤدي
في نهاية المطاف لبناء دكتاتورية استبدادية بحكم التراكمات التاريخية .
وهذه
النقطة بالذات كانت محور أكثر من حديث وحوار في السنوات الماضية حول من
يصنع الدكتاتورية ؟ ومن يمنحها المشروعية السياسية وقبلها الثقافية ، وهذا
ما شكل نقطة ربما سعت إليها الكثير من الأنظمة الاستبدادية في صناعة مثقف
سلطوي ومن خلاله صناعة ثقافة استبدادية قائمة على التمجيد والتقديس للفرد
على حساب المجتمع وهويته الثقافية .
وبالتالي فإن الثورات العربية منحت
الشباب العربي حرية الرفض لما هو سلبي حتى وإن كان في إطار السلطة ولعل
تحدي السلطة بحد ذاته يمثل ثقافة جديدة في المجتمعات العربية التي أتهمها
البعض في زمن معين بأنها تصنع الدكتاتوريات وتكرس وجودها من خلال انصياعها
لها وعدم مقاومتها، هذا الرفض لم يكن لمجرد الرفض والتقاطع مع السلطة بقدر
إنه يمثل حالة جديدة في المشهد الثقافي العربي الحالي القائم على بناء
ثقافة تستمد هويتها من هوية المجتمع وترتكز في نقل هذه الثقافة وتعزيز
دورها وترسيخ قيمها على مجموعة آليات كانت غائبة في حقب النظم المستبدة ،
ولعل واحدة من هذه الآليات التي باتت تعرف بالتواصل الاجتماعي عبر استخدام
الفيسبوك وغيره ، تلك الوسائط التي تنتهك أنظمة الرقابة التقليدية التي
اعتادت الأنظمة المستبدة استخدامها في الحد من النشر والتوزيع والتداول
وحصر كل ذلك بأجهزتها ومؤسساتها.
لهذا وجدنا خلال مخاضات الثورات
العربية سواء التي نجحت منها أو التي مازالت تخطو خطوات النجاح بأن المثقف
العربي أينما كان توزع على ثلاث مجموعات أو معايير أو خنادق ، أولها مثقف
السلطة الذي ما زال يمارس دور الببغاء ويعيد ترديد ما يصدر عن الإعلام
الرسمي ويكرس دوره في هذه المرحلة لحماية النظام الذي هو جزء منه، ويحاول
جهد الإمكان أن ينتهز الفرصة للتقرب أكثر من المستبد ، حالماً بمكاسب جديدة
، وعلينا هنا أن نؤشر حالة لازمتنا كثيراً في عراق ما قبل 2003 والتي
تمثلت بتحول كبير في مفهوم الثقافة ودور المثقف ، إذ تحول المثقف من نقل
المعرفة وتأصيل الهوية الثقافية إلى مهمة ثانية تمثلت بالسعي للسلطة
والانخراط في دهاليزها ولعل هذه الحالة لازالت موجودة لدى البعض من الذين
ما زالوا يتخذون من الثقافة سلماً لنزواتهم وطموحاتهم السلطوية بطريقة أو
بأخرى وبالتالي فإن هؤلاء صنعوا هزيمتهم بأنفسهم ، وهزيمتهم ارتبطت بنهاية
سلطة ساهموا في إدامتها سنوات طويلة .
المجموعة الثانية تمثلت
باللاموقف الذي اتخذه البعض من المثقفين وهي حالة تمثل سلبية كبيرة ، وهذه
السلبية نابعة من مجموعة الامتيازات التي توفرت لهؤلاء ، وبالتالي فهم لا
يريدون التفريط بها من خلال اتخاذهم موقفاً معينا ، وفي نفس الوقت هم
يطمحون لأن يكونوا جزءاً من التغيير القادم بحكم ( اللاموقف ) الذي اتخذوه
في الفترات الحرجة والذي على أساسه سيتم تقييم الحالة ، وربما هذا تجلى
بشكل واضح في القائمة السوداء التي أعدها شباب( 25 يناير) في مصر بحق عدد
كبير من مثقفي وفناني مصر من الذين كانوا ببغاوات للسلطة حتى في أوج
الثورة.
المجموعة الثالثة وهي الأكثر فعالية في المشهد الثقافي الآن
وهي المجموعة المثقفة التي وجدت فعلاً بأن مطالب الشعب بالتغيير وارتفاع
سقف هذه المطالب إنما يمثل مجموعة أمنيات تراكمت لسنوات طويلة في دواخلهم
ووجدت أخيراً من يطلقها صرخة مدوية، لهذا وجدنا هذه المجموعة من المثقفين
وبلا تردد تتخذ الموقف المناسب والمطلوب من المثقف أن يتخذه ليكون في موقعه
المناسب ويساهم في بناء مجتمع جديد بعيداً عن الهيمنة الفردية والاستبداد
الذي غلف كل شيء في عالمنا العربي في العقود الماضية.