كتب فرانتز فانون في كتابة الأوّل "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" يقول : "أنا
أنتمي إلى عَصْرِي انتماءً غير قابل للاختزال". وذلك العصر كان، بالطبع،
عصر النضالات المعادية للاستعمار الكولونيالي. قاتلَ فانون، وهو المولود في
مستعمرة المارتينيك الفرنسية عام 1925، حيث كان أحد طلابّ إيميه سيزار، في
صفوف قوّات التحالف خلال الحرب العالمية ثمّ تابع دراسة الطبّ في ليون
ليتخرّج طبيباً عامّاً ومتخصّصاً بالأمراض النفسية والعقلية. كتابه اللافت
الذي حمل عنوان "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" نُشر عام 1952 وأحدث صدىً واسعاً
وتأثيراً ملحوظاً في الدوائر الفكرية والثقافية السائدة في فرنسا تلك
الأيام. كان الكتاب صرخة من القلب مفعمة بشحنة عاطفية قوية ــ كانت تلك
"التجربة التي عاشها زنجيّ قُذف به إلى عالم أبيض"(1). في عام 1953 عُيّن
فانون في مستشفى الأمراض العقلية في "بليدة" الجزائرية، قبل عام واحد من
اندلاع حرب الاستقلال. سرعان ما استشاط غضباً إزاء قصص التعذيب الذي كان
المرضى الجزائريون يسردونها على مسامعه. وما لبث أن بادر، وهو المتعاطف مع
القضية الجزائرية أساساً، إلى الاستقالة من منصبه ليذهب إلى تونس ويتفرّغ
للعمل لدى حكومة الجمهورية الجزائرية المؤقتة (الجي بي آر ايه). أكثر من
الكتابة لنشرة "المجاهد"، المجلّة الرسمية الناطقة باسم الثورة.
في 1960، أوفدته الحكومة المؤقّتة سفيراً لها في غانا التي كانت المركز
الفعليّ لحركة الوحدة الأفريقية. أرادت الحكومة المؤقّتة أن يتولّى مهمّة
تعزيز الروابط لا مع غانا وحسب، بل مع سائر الحركات الوطنية ــ القومية
المختلفة في أفريقيا، تلك الحركات التي كانت لا تزال تناضل من أجل الحصول
على استقلالها، والتي كان قادتها يترددون على "أكرا" دَوْرياً. هناك، في
أكرا، التقيتُ فانون للمرة الأولى في 1960، وعقدنا جلسات نقاش طويلة حول
الوضع السياسي العالمي. كان فانون شديد الحماسة والتفاؤل إزاء الموجة
الكوكبية الكاسحة لحركات التحرّر الوطنية ــ القومية، ومنزعجاً، في الوقت
نفسه، من الدلائل التي كان يراها منذ ذلك الحين مشيرة إلى عيوب قيادات عدد
كبير من هذه الحركات ــ هموم وهواجس كان سيعكف على بحثها مطوّلاً في كتابه
الأخير. بُعَيْد ذلك أصيب بمرض سرطان الدم. ذهب إلى الاتحاد السوفيتي
أوّلاً وإلى الولايات المتحدة بعد ذلك طلباً للاستشفاء دون جدوى. تمكّنت من
زيارته في المستشفى بواشنطن، حيث تحدّث عن حركة القوّة السوداء الوليدة في
الولايات المتحدة، تلك الحركة التي كان مبهوراً بها. تفجّر غضباً لدى
الكلام عن سياسات الولايات المتحدة وخططها في العالم. وممّا قاله: "إنّ
الأمريكيين ليسوا منخرطين في أيّ حوار؛ مازالوا دائبين على تلاوة مواعظهم
المونولوجية الأحادية". في السنة الأخيرة من حياته، كرّس فانون حياته
بمبدئية وحماسة لافتتين على تأليف الكتاب الذي نُشر بعد رحيله عن العالم
تحت عنوان "معذّبو الأرض"(2). عاش فانون مدّة مكَّنَتْه من قراءة التوطئة
الشهيرة التي كتبها جان بول سارتر، تلك التوطئة التي عَدَّها بالغة الروعة.
وبطبيعة الحال، كان عنوان الكتاب باللغة الفرنسية لي دامنه دولاتير (les
damnés de la terre) مأخوذاً من الأبيات الافتتاحية للنشيد الأممي، نشيد
الحركة العمالية العالمية. قضى فانون نَحْبَه مبكّراً جدّاً عام 1961.
كتابُه الأخير هذا، "معذّبو الأرض"، لا كتاب "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء"
هو الذي أضفى الشهرة على فانون في العالم بما فيه الولايات المتحدة بالطبع.
كاد الكتاب أن يصبح نوعاً من أنواع الإنجيل أو الكتاب المقدّس بالنسبة إلى
جميع أولئك المنخرطين في زحمة الحركات الكثيرة المختلفة التي بلغت أوجها
في ثورة الـ 1968 العالمية. بعد انطفاء ألسنة لهيب الـ 68 الأوّلية، تراجع
كتاب معذّبو الأرض إلى زاوية أكثر هدوءً. أواخر الثمانينات من القرن الماضي
قامت حركات الهوية وما بعد الاستعمار المختلفة باكتشاف كتابه الأوّل الذي
تمّ إغراقه بفيض من الإطراءات التي أخفقت، بأكثريتها، في التوصّل إلى إدراك
ما قصده فانون. وكما قيل صراحة في مقدّمة بشرة سوداء، أقنعة بيضاء، فإنّ
الكاتب كان يعتقد بأنّ التغلّب على اغتراب الإنسان الأسود يتطلّب أكثر ممّا
يستطيع التحليل النفسي الفرويدي أن يقدّمه. كان فرويد قد جادل مؤيّداً
فكرة الحاجة إلى تجاوز التفسير الفيلووراثي إلى نظيره الأونتووراثي؛ أمّا
فانون فكان يرى أنّ المطلوب إن هو إلا تفسير سوسيووراثي. وعلى الرغم من أنّ
كتاب بشرة سوداء، أقنعة بيضاء كان سيعيش حياة أخرى بوصفه نصاً مركزياً في
أدبيات ما بعد الحداثة، بعد انقضاء ثلاثين سنة على نشره، فإن الكتاب لم يكن
بأي حال من الأحوال دعوة إلى اعتماد سياسة هوية. إنّ العكس هو الصحيح، كما
يتّضح من الأسطر التالية الواردة في الصفحات الختامية من كتاب فانون:
كارثة الإنسان الأسود تكمن في واقع أنه تعرّض للاستعباد.
كارثة الإنسان الأبيض ولا إنسانيته تكمنان في واقع أنّه أقدم في مكان ما على قتل الإنسان.
إلى يومنا هذا يظلان مكتفيين بتنظيم عملية إلغاء إنسانية الإنسان هذه
عقلانياً. غير أنني، بوصفي زنجياً، لست متمتعاً، بمقدار ما تتاح لي فرصة
الوجود المطلق، بحقّ الانغلاق وصولاً إلى سجن نفسي في عالم قائم على
التعويضات الارتجاعية.
أنا، الإنسان الأسود، لا أريد إلا ما يلي:
أن تكفّ الأداة، مرّة وإلى الأبد، عن امتلاك الإنسان. أن يتوقّف استعباد
الإنسان للإنسان أبدياً. أن أغدو قادراً على اكتشاف الإنسان واحتضانه
بمحبّة حيثما كان.
ليس الزنجي متفوقاً في أي شيء على الإنسان الأبيض(3).
بصرف النظر عما كانه فانون، فإنّه لم يكن من أنصار ما بعد الحداثة. من
شأنه أن يصنّف في خانة جامعة بين جناحي الفرويدية الماركسية والماركسية
الفرويدية كما في خانة الالتزام الكلّي والمطلق بحركات التحرّر الثورية.
غير أنّ انتماءه إلى عصر لا يحول دون تمكينه من إغناء عصرنا بأشياء كثيرة.
فالجملة الختامية الأخيرة لكتاب بشرة سوداء، أقنعة بيضاء هي التالية :
"دعائي الأخير: أناشدك يا جسدي أن تجعلني على الدوام إنساناً يطرح
الأسئلة!" هذه هي الروح الاستفهامية المتسائلة التي أعتمدها في تقديمي
لتأمّلاتي حول جدوى فكر فانون بالنسبة إلى القرن الحادي والعشرين.
لدى قراءتي لكتبه، أجدني مندهشاً أوّلاً، بالمدى الذي تبلغه في إطلاق
البيانات القوية جداً عما يبدو فانون واثقاً به كلياً ولاسيما حين يتخذ
موقفاً نقدياً من آخرين؛ وثانياً، بالطريقة التي تكون بها هذه البيانات
متبوعة عادة، بعد عدد غير قليل من الصفحات أحياناً، مبادرة فانون إلى
التعبير عن شكوكه حول أفضل سبل المتابعة، سبل تحقيق ما ينبغي تحقيقه. مندهش
أنا كذلك، كما سبق لسارتر أن فعل، بمدى عدم كون هذه الكتب، على الإطلاق،
موجهة إلى أقوياء العالم وجبابرته، بل، بالأحرى، إلى "معذّبي الأرض"، تلك
المقولة المتقاطعة إلى حدّ التشابك الوثيق مع مقولة "الملوّنين". غاضب
فانون دائماً على الأقوياء الذين هم قساة من ناحية ولطفاء من ناحية ثانية
في الوقت نفسه. بيد أننا نجده حتى أشد غضباً من أولئك الملونين الذين
يساهمون بتصرفاتهم ومواقفهم في إدامة هذا العالم القائم على اللامساواة
والإذلال، والذين كثيراً ما يفعلون ذلك لمجرد الحصول على الفتات لأنفسهم.
فيما يلي سأقوم بتنظيم تأمّلاتي حول ما أعتقد أنّها ثلاث مشكلات بالنسبة
إلى فانون : مشكلة استخدام العنف، مشكلة تأكيد الهوية، ومشكلة الصراع
الطبقي.
إن ما أضفى على "معذّبو الأرض" كلّ هذا الزَّخَم وأثار كلّ هذا القدر
الكبير من الاهتمام ــ إعجاباً وشجباً على حد سواء ــ كان متمثلاً بالجملة
الافتتاحية لفصل "في العنف" الأوّل التالية:
سواء أقلنا تحريراً وطنياً، نهضة قومية، انبعاثاً شعبياً، أم اتحاداً بين
الشعوب؛ وكيفما كانت العناوين المستعملة والمصطلحات الجديدة، فإن محو
الاستعمار إن هو إلا حدث عنف دائماً(4).
هل هذه ملاحظة تحليلية أم هي توصية سياسية؟ قد تكون الإجابة: إنها سيقت
للإيحاء بالمعنيين كليهما. لعل فانون نفسه ليس متأكداً من مسألة أي من
المعنيين هو صاحب الأولوية؛ وقد لا يكون الأمر ذا شأن. ففكرة الاستحالة
المطلقة لحصول أي تغيير اجتماعي أساسي وعميق دون استخدام العنف لم تكن فكرة
جديدة. سائر المدارس التحريرية الراديكالية في القرن التاسع عشر كانت قد
آمنت بأن أصحاب الامتيازات لا يتنازلون قط عن السلطة الفعلية؛ على الدوام
لا يتمّ انتزاع السلطة من أصحاب الامتيازات هؤلاء إلا قسراً وعُنْوة. وقد
ساعد هذا الإيمان على تحديد الاختلاف المفترض بين طريقي "الثورة"
و"الإصلاح" المفضيين إلى التغيير الاجتماعي. بيد أن جدوى التمييز بين
"الثورة" و"الإصلاح" بدأت تتضاءل في فترة ما بعد عام 1945 ــ وقد حصل هذا
التضاؤل بين صفوف مناضلي أكثر الحركات تشدّداً وسُخْطاً وبُعْداً عن
المساومة بالذات. ذلك هو السبب الكامن وراء صيرورة مسألة توظيف العنف، لا
بوصفها مسألة تحليل اجتماعي بل على أنها مسألة توصية سياسية، مطروحة
للمناقشة والمساءلة.
إذا ما بدت حركات "ثورية"، بعد استلامها للسلطة منجزة ما هو أقلّ بكثير
مما كانت قد وعدت به، فقد كان صحيحاً بالقدر نفسه أنّ حركات "إصلاحية"،
مقابلة لم تحقّق نجاحات أفضل بكثير. ذلك هو مكمن الغموض والضبابية بشأن
اعتماد سياسة العنف. إن الوطنيين ــ القوميين الجزائريين كانوا قد تعايشوا
مع هذه الدورة في تجربتهم البيوغرافية الخاصة. فرئيس حكومة الجمهورية
الجزائرية المؤقتة (الجي بي آر ايه) منذ تأسيسها في عام 1958 إلى سنة 1961،
كان قد أمضى السنوات الثلاثين الأولى من حياته السياسية إصلاحياً، ليصل
آخر المطاف إلى التسليم بأنه لم يصل هو وحركته إلى أي مكان. ما جعله يستنتج
أن الانتفاضة المسلحة القائمة على العنف كانت هي الخطة التكتيكية الوحيدة
ذات المعنى إذا لم تكن الجزائر راغبة في أن تبقى مستعمرة، و"مستعبَدة" إلى
الأبد.
في كتاب "معذّبو الأرض" يقوم فانون، على ما يبدو، بطرح ثلاث نقاط بشأن
توظيف القوة تكتيكاً سياسياً. يكمن المصدر الأصلي للعنف أو القوة في هذا
العالم الثنوي (المانوي) الاستعماري، قبل كل شيء، في أعمال العنف المتواصلة
التي يمارسها المستعمِر (بكسر الميم).
ذلك الذي لم يكفّوا قط عن الزعم بأن اللغة الوحيدة التي يفهمها هي لغة
القوة يقرّر أن يتحدث باسم القوة. وفي الواقع فإن المستوطن قام، كما على
الدوام، بإرشاده إلى الطريق التي يتعين عليه اعتمادها إذا أراد أن يصبح
حراً. فالحجة التي يختارها المستعمَر (بفتح الميم) قدمها المستوطِن (بكسر
الطاء)، وبنوع من أنواع مفارقة قلب الطاولات فإن المستعمَر (بفتح الميم) هو
الذي بات الآن يؤكد أن الاستعماري لا يفهم بغير القوة(5).
تتمثل الثانية بقيام هذا العنف بقلب السايكولوجيا الاجتماعية من ناحية
والثقافة السياسية من ناحية ثانية لأولئك المستعمَرين (بفتح الميم) رأساً
على عقب.
ولكن ما يحصل هو أن هذا العنف بالنسبة إلى الشعب المستعمَر (بفتح الميم)،
لأنه يشكل شغله الوحيد، ينجح في غرس صفات إيجابية وخلاقة في شخصيات أفراده.
فممارسة العنف ترص صفوفهم ككل، لأن كل فرد يشكل حلقة في السلسلة الكبرى،
قطعة في جهاز العنف الهائل الذي تعاظم وتصاعد رداً على عنف المستوطِن (بكسر
الطاء) في البداية. لا تلبث الجماعات أن تتعرف على بعضها وصولاً إلى
صيرورة الأمة المستقبلية غير قابلة للتقسيم. يقوم الكفاح المسلح باستنفار
الشعب؛ أي أنه يؤدي إلى دفعه في طريق واحدة، في اتجاه واحد(6).
إلا أن النقطة الثالثة تبدو متناقضة مع النبرة المتفائلة للنقطة الثانية،
مع الطريق التي تبدو حتمية المفضية إلى التحرر القومي ــ الوطني والإنسان،
تلك الطريق التي تم استحضارها في الفصل الافتتاحي. إن الفصلين الثاني
والثالث من الكتاب، وقد كُتبا خلال الحرب الجارية على قدم وساق من أجل
التحرر الوطني ــ القومي في الجزائر، يثيران استثنائيا الإبهار والإدهاش
بسبب الضوء الذي يسلّطانه على "موضوع العنف". فالفصل الثاني "العفوية :
نقاط قوتها ومواقع ضعفها"، يشكّل نقداً عاماًّ لحركات التحرر الوطنية ــ
القومية. يقول فانون إنّ "عيبها المتجذر" هو تركيزها على "العناصر الأكثر
وعياً على الصعيد السياسي : على الطبقات الكادحة في المدن، على العمال
المهرة والموظفين" ــ بمعنى على نسبة ضئيلة من الكتلة السكانية، نسبة تكاد
لا تمثّل أكثر من واحد بالمئة:
إن الأكثرية الساحقة من الأحزاب القومية تبدي ارتياباً عميقاً إزاء أهالي
المناطق الريفية… فالعناصر المتغربنة تعبِّر، في تعاملها مع الفلاحين، عن
مشاعر تذكر بالمشاعر الموجودة لدى عمال المدن في البلدان الصناعية(7).
وهذا العيب المتجذر هو الذي يؤدي إلى إخفاق هذه الأحزاب في أن تصبح حركات
ثورية، يتعذر استنادها إلى بروليتاريا متغربنة لأن عليها، بالأحرى، أن
تستند إلى الفلاحين المقتلعين من جذورهم، أولئك المتزاحمين والمحتشدين في
أحزمة البؤس المطوِّقة للمراكز الحضرية.
لن تهتدي الثورة وحركة العصيان إلى ضالَّتها المنشودة، إلى رأس حربتها إلا
في قلب هذه الكتلة الإنسانية، إلا عند أهلَ مدن الصفيح هذه، إلا في أعماق
البروليتاريا الرثة. فتلك البروليتاريا الرثة، ذلك الجيش الجرار المؤلَّف
من الجياع، من المبتورين عن عشائرهم وقبائلهم، تؤلف إحدى أكثر قوى أيّ شعب
مستعمَر (بفتح الميم) عفوية وجذرية في ثوريتها(8).
ثم ينتقل فانون من قصيدة إطراء البروليتاريا الرثّة التي تجرّدت من عباءة
القبيلة هذه إلى تحليل طبيعة الحركات القومية بعد استلامها للسلطة. إنه
عنيف، متشدّد، ولا يعرف معنى الغفران؛ وهو يدين هذه الحركات بإحدى أكثر جمل
هذه الكتاب شهرة: "يبقى الحزب الواحد الشكل الحديث لدكتاتورية البرجوازية،
بلا قناع، بلا أصبغة، دون مواربة، وعلى نحو باعث للتشاؤم". وهو يعلن أنّ
البرجوازية الوطنية في البلدان المتخلفة "لا ينبغي التصدي لها لأنها تهدّد
بإبطاء التطوّر المتناغم الشامل للأمّة؛ تجب معارضتها معارضة قوية، ببساطة،
لأنها عديمة الجدوى حرفياً". وبعد ذلك يتقدم نحو نوع من أنواع شجب النزعة
القومية ــ الوطنية وإدانتها، بكل وضوح وصراحة قائلاً:
ليست القومية ــ الوطنية عقيدة سياسية، كما ليست وثيقة برنامجية. إذا كنتم
تريدون حقاً تجنيب بلدكم النكوص، أو أقله، حشد العثرات وخضّات اللاّيقين،
فلا بدّ من المبادرة بسرعة إلى اتخاذ خطوة حاسمة على طريق الانتقال من
الوعي القومي ــ الوطني إلى الوعي السياسي والاجتماعي …. فأيّ برجوازي لا
يقدّم سوى القومية ــ الوطنية زاداً للجماهير يخفق في أداء رسالته ويقع في
سلسلة طويلة من المطبّات والعثرات(9).
هذه هي المحطة التي ينعطف فانون منها باتجاه تناول مسألة الهوية، أطروحتي
الثانية. إنه يدشِّن النقاش بإعلان حقيقة أنّ الحضارات القديمة المتباهية
ليست، بالطبع، قادرة اليوم على إطعام أحد. غير أن من شأن مثل هذا التباهي
أن يشرعن هدف الابتعاد عن الثقافة الغربية. فإضفاء الصفة العنصرية على
الثقافة كان في البداية من مهمات المستعمِرين (بكسر الميم)، من مهمات
"أولئك الأوروبيين الذين لم يكفوا يوماً عن العمل على فرض ثقافة البيض لملء
الفراغ الحاصل جراء غياب أي ثقافات أخرى". يجادل فانون قائلاً إنّ الزنوجة
"كانت النقيض العاطفي، إن لم يكن المنطقي، لتلك الصفعة المهينة التي وجهها
الإنسان الأبيض إلى الإنسانية". إلا أنه يتابع كلامه ليقول: "هذا الإلزام
التاريخي الذي فَرَضَ على أرباب الثقافة الأفريقية واجب إضفاء الصفة
العنصرية على دعاواهم … سوف يميل إلى إقحامهم في طريق مسدودة، في مأزق لا
مخرج منه". يتخذ فانون موقفاً شديد الانتقاد لأي محاولة رامية إلى تأكيد
الهوية الثقافية المستقلة عن، لا المستقرة في صلب النضال السياسي لحركة
التحرر الوطنية ــ القومية. ففي الفصل الرابع الذي يحمل عنوان "حول الثقافة
الوطنية ــ القومية" يكتب ما يلي:
إن الإيمان بإمكانية خلق ثقافة زنجية يعني نسيان حقيقة أن الزنوج موشكون
على الاختفاء… لن يكون هناك أي شيء يحمل اسم ثقافة زنجية لعدم وجود ولو
سياسي واحد يشعر أنه يحمل رسالة العمل على إيجاد جمهوريات زنجية. تبقى
المشكلة متمثلة بمشكلة معرفة المكانة التي ينوي هؤلاء تخصيصها لأهلهم،
معرفة نوعية العلاقات الاجتماعية التي يعتزمون إقامتها، ومعرفة التصور الذي
يحملونه بشأن مستقبل البشرية. هذه هي المسألة؛ كل ما عداها تخريف وتضليل،
بلا أي معنى(10).
اندفاعته الأخيرة متناقضة تماماً مع سياسة الهوية:
إذا كان الإنسان معروفاً بأفعاله، فإننا سنقول، إذن، إن الأمر الأشد
إلحاحاً اليوم بالنسبة إلى المثقف هو بناء أمته، دولته. وإذا كان هذا
البناء سليماً، أي إذا كان قائماً على ترجمة الإرادة الصريحة والواضحة
للشعب وعلى التعبير عن الشعوب الأفريقية المفعمة شوقاً، فإن بناء الأمة ــ
الدولة يكون، عندئذ، معطوفاً، بالضرورة، على اكتشاف جملة من القيم الكونية
الجامعة وتشجيعها. إن حركة التحرير القومية ــ الوطنية التي تتولى قيادة
الأمة وتمكينها من الاضطلاع بدورها على مسرح التاريخ، بعيدة كل البعد عن أن
تنأى بنفسها عن الأمم الأخرى. في صلب الوعي القومي ــ الوطني ثمة وعي أممي
دائب على الحياة والنمو. ومنابع الثقافة كلها، من ألفها إلى يائها، لا
تتفجر، آخر المطاف، إلا عبر تلاقح هذين الوعيين(11).
غير أن فانون يبادر، في ختام "معذّبو الأرض"، كما لو كان قد بالغ في
الذهاب بعيداً على صعيد فهم محاسن طريق مختلفة لأفريقيا ــ طريق غير
أوروبية ــ، إلى تسليط الضوء على مثال الولايات المتحدة، التي وضعت اللحاق
بركب أوروبا هدفاً لها، وحققت قدراً كبيراً من النجاح إلى درجة "أصبحت معها
بعبعاً مثقلاً بجملة عيوب أوروبا وأمراضها ولا إنسانيتها وقد باتت ذوات
أبعاد مرعبة". برأي فانون، يتعين على أفريقيا، إذن، ألا تحاول اللحاق
بالركب فتغدو أوروبا ثالثة. العكس تماماً هو المطلوب:
إن الإنسانية تنتظر منا شيئاً آخر مختلفاً عن مجرد التقليد الذي من شأنه
ألا يكون سوى صورة كاريكاتورية داعرة. إذا كنا نريد أن نحوّل أفريقيا إلى
أوروبا جديدة وأمريكا إلى أوروبا جديدة، فلنبادر، إذن، إلى تسليم مصائر
بلادنا للأوروبيين. فهم سيكونون قادرين على إجادة التصرف على نحو أفضل من
أعظمنا موهبة. أما إذا كنا راغبين في تمكين الإنسانية من التقدم ولو خطوة
واحدة، في ترقيتها إلى مستوى مختلف عن ذلك الذي مازالت أوروبا تعرضه، فإن
علينا أن نقدم على الابتكار والإبداع… فمن أجل أوروبا، من أجل أنفسنا، ومن
أجل الإنسانية، لابد لنا، أيها الرفاق، من أن نقلب صفحة جديدة، من أن نجترح
مفاهيم جديدة، ومن أن نحاول إيقاف إنسان جديد على قدميه(12).
في النسيج الذي يقوم فانون بحياكته، في الكتابين كليهما، حول مسألتي
الهوية الثقافية والهوية القومية ــ الوطنية، نرى المأزق الأساسي الذي ظل
يَقِضُّ مضاجع جميع فرسان الفكر المعادي للنظام في نصف القرن الأخير وربما
في نصف القرن القادم أيضاً. إن رفض الكونية الأوروبية الشاملة يشكل الركن
الأساسي لرفض الهيمنة الأوروبية الموحدة وخطاب قوتها في هيكلة النظام
العالمي الحديث ــ ما أطلق عليه آنيبال كوييانو اسم كولونيالية القوة. غير
أن جميع أولئك الذين ظلوا ملتزمين بالنضال من أجل بناء قائم على المساواة،
أو من أجل تحقيق ما يمكن أن يطلق عليه اسم الحلم الاشتراكي، شديدو التوجس
اليوم مما أطلق عليها فانون اسم "مطبات أو عثرات الوعي القومي ــ الوطني".
لذا فإننا مازلنا عاكفين على الحياكة، لأن ذلك هو السبيل الوحيد، على ما
يبدو، للبقاء على طريق تفضي إلى مستقبل يمكّن الإنسانية، حسب تعبير فانون،
من "التقدم ولو خطوة واحدة إلى الأمام".
أطروحتي الثالثة، أطروحة الصراع الطبقي، لم يسبق لها قط أن نوقشت مركزياً
بوصفها أطروحة مستقلة في أي من كتابات فانون. غير أنها تبقى، مع ذلك، قضية
مركزية بالنسبة إلى نظرته إلى العالم كما بالنسبة إلى جملة تحليلاته. من
الطبيعي أن تكون لغة فانون الذي نشأ في بيئة ثقافية ماركسية ــ في
المارتنيك، في فرنسا، وفي الجزائر ــ ولغة أولئك الذي عمل معهم مخصّبة
وملقحة بسلسلة مقولات ومنطلقات ومفردات ماركسية. كان فانون وأولئك الذين
كان يعمل معهم، قد تمرّدوا بقوّة على الماركسية المتكلّسة للحركات الشيوعية
في تلك الحقبة. وكتاب خطاب حول الاستعمار الكولونيالي لإيميه سيزار يبقى
التعبير الكلاسيكي عن السبب الذي دفع مثقفي عالم المستعمرات (ولم يكونوا
وحدهم بالطبع) إلى التراجع عن التزامهم بالأحزاب الشيوعية والمبادرة إلى
تأكيد طبعة منقحة لأطروحة الصراع الطبقي. تمثلت القضية الرئيسية في هذه
السجالات بسؤال : أي الطبقات هي المنخرطة في النضال؟ ولفترة طويلة من الزمن
بقي النقاش خاضعاً لهيمنة مقولات الحزب الاجتماعي الديمقراطي الألماني
والحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي. كان الخطاب الأساسي متمثلاً بكون
الطبقتين المنخرطتين في الصراع الأساسي والمهيمنتين على الساحة، في أي عالم
رأسمالي، هما البرجوازية الصناعية، المدينية من ناحية والبروليتايا
الصناعية، المدينية، مرة أخرى، من ناحية ثانية. أما سائر الجماعات
والتجمعات البشرية الأخرى فلم تكن سوى مخلفات بُنى ميتة أو محتضرة ومحكومة
بالزوال والتلاشي، مع مسارعة الجميع إلى الذوبان في إحدى البوتقتين
البرجوازية أو البروليتارية.
حين كان فانون عاكفاً على الكتابة، قليلون نسبياً أولئك الذين كانوا يرون
هذا الاستنتاج تلخيصاً مناسباً أو جديراً بالثقة للوضع الفعلي.
فالبروليتاريا الصناعية المدينية لم تكن في أي مكان تشكل أكثرية نسبةً إلى
الكتلة السكانية العالمية عموماً، كما لم تكن تبدو فئة غير مالكة لأي شيء
تخشى فقدانه سوى قيودها. ونتيجة لذلك، فإن أكثرية الحركات والشرائح المثقفة
كانت عاكفة على البحث عن صياغة مختلفة لمقولة الصراع الطبقي، صياغة أفضل
بالنسبة إلى التحليل السوسيولوجي وأكثر صلاحية لتشكيل القاعدة الصلبة
للسياسة الثورية ــ الراديكالية. كانت ثمة سلسلة طويلة من الاقتراحات حول
الأطراف الجديدة المرشحة للاضطلاع بدور الذات التاريخية المؤهلة لأن تكون
"رأس حربة" النشاط الثوري. كان فانون مؤمناً بأن هذه الذات التاريخية هي
البروليتاريا الرثة الممدَّنة التي باتت مفصولة عن جذورها القَبَلية
والعشائرية. غير أنه ما لبث أن بادر إلى الإقرار بأن لديه شكوكاً حين قام
بتقديم صورة عن "مطبات النزعة العفوية".
في الختام، ما نحصل عليه من فانون هو أكثر من الحماسة ومن نوع من أنواع
الخطة المناسبة للتحرك السياسي. إنه يقدم وصفاً عبقرياً لمآزقنا الجماعية.
فمعذبو الأرض يبقون، في غياب العنف، عاجزين عن تحقيق أيّ شيء، عن بلوغ أيّ
هدف. بيد أنّ هذا العنف لا يستطيع، مهما كان علاجياً ومهما كان فعالاً
وناجحاً، أن يحلّ أيّ معضلة. من المستحيل تحقيق أيّ تقدّم دون الخلاص من
نير هيمنة الثقافة الأوروبية الكلية. غير أنّ التأكيد الناجم عن مثل هذا
الخلاص للخصوصية يفضي إلى الخبل ويقود حتماً إلى سلسلة من "المطبات". إن
الصراع الطبقي عامل مركزي، شرط أن نعرف هوية الطبقات المنخرطة فعلاً في
الصراع. أما الطبقات الرثة، وحدها، دون هيكلية تنظيمية، فتبقى محكومة بأن
تحترق وتغدو رماداً.
نجدنا، كما سبق لفانون أن توقع، في مرحلة انتقالية طويلة ممتدة من نظامنا
العالمي الرأسمالي القائم إلى شيء آخر. إنه نضال حصيلته كلية الغموض
واللايقين. ربما لم يبادر فانون إلى قول ذلك صراحة، غير أن كتبه تشير إلى
أنه كان شاعراً بالأمر. وما إذا كنا سنخرج جماعياً من حمأة هذا الصراع لنلج
باب نظام عالمي أفضل متوقّفٌ في جانب كبير منه على مدى قابليتنا لمجابهة
باقة المآزق الثلاثية التي ناقشها فانون ـ لمجابهتها والتعامل معها بطريقة
تكون ذكية تحليلياً من ناحية، ملتزمة أخلاقياً ومعنوياً بقضية "الإجهاز على
الاغتراب" التي كافح فانون خدمة لها، من ناحية ثانية، ومتناسبة سياسياً مع
الوقائع التي نحن بصدد مواجهتها من ناحية ثالثة، دفعة واحدة.