"خلافة النبوّة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه –أو الملك- من يشاء". عادة ما يؤخذ هذا الحديث النبويّ، أو المنسوب إلى النبيّ، من طرف غالبية
فقهاء السلف ومعظم الفقهاء السلفيين، كدليل على مشروعية وجواز الحكم
المُلكي الجبري، أو بلغة العصر، الملكية المطلقة. ليس مقام القول هنا أن
نناقش حجّية هذا الحديث المتوارث عن أهل الحديث، ومع ذلك فدعنا نفترض
ابتداء ما يرجّحه التأريخ من أنّ الحديث الوارد في أكثر من مصدر، وضع في
ظروف تاريخية لاحقة، قبل أن يُقحم في المدونة الحديثيّة ضمن سياق الحاجة
إلى تبرير تجربة الملكيّة المطلقة والتي احتاج إليها العرب حين دخولهم إلى
العهد الإمبراطوري، لكنها ظلت كالعنصر الغريب عن مضامين النصّ القرآنيّ.
أغلب الظن أنّ ذلك الحديث لم يكن موجودا قبل بلوغ الأمويين إلى هرم
الخلافة، وإلا لكان قد احتج به معاوية بن أبي سفيان، وهو الذي خاض عقب
انقضاء خلافة الثلاثين عاما من "خلافة النبوّة" صراعا دمويا انتهى به في
الأخير إلى أن يصبح مؤسس المرحلة الملكية في تاريخ الإسلام. لا نجد أي نص
تاريخي يرصد لنا بأن معاوية قد وجد في النص الديني ما يحتج به على تأسيس
نظام حكم ملكي وراثي، عدا الاحتجاج بالعصبية.
ورغم تضخم مدونة الحديث إلى حدّ التخمة تسويغا للمشروعية "الإلهية" لتجربة
الملكية المطلقة، إلا أن الفقه الإسلامي لم يفلح في تأسيس نظرية سياسية
"فقهية" متكاملة وداعمة للملكية، اللهمّ في حدود تجويز محتشم، لا ينفي ولا
يؤكد وإنما يبرر ما هو حاصل في واقع الحال. يقول ابن تيمية بأن "خلافة
النبوة مستحبة وليست واجبة وأن اختيار الملك جائز في شريعتنا"(1).
لذلك لم ينجح الفكر السياسي الإسلامي في التأسيس النظري للملكية المطلقة
إلا بعد أن استند إلى عقل سياسي سيتجاوز العقل الفقهي بل والديني عموما.
وهنا تتجلى قيمة المجهود النظري الكبير الذي قام به الفيلسوف الإشبيلي
التونسي عبد الرحمان بن خلدون.
خلال عصر ابن خلدون، كانت أغلب مناطق الأندلس قد خرجت عن سيطرة العرب،
وكانت المنطقة المغاربية منقسمة إلى ثلاث دول، والعراق تحت حكم المغول(2)،
ما يعني أن الفكر السياسي الإسلامي كان في حاجة إلى إعادة بناء الدولة
القوية على قواعد أكثر تماسكا من قواعد الإيمان الديني، والتي أثبتت عدم
كفايتها.
تكمن أصالة ابن خلدون في قدرته على تجاوز الأسس الدينية المتقادمة التي ما
فتئت تستند إليها الملكية المطلقة في ديار المسلمين، ولذلك لم يأخذ بما
ورد في التراث الديني أو الفقهي، وبدل ذلك فإنه لم يتردّد في الطعن في صحة
كل الأحاديث المنسوبة للرسول والتي حاولت تبرير الملكية المطلقة بمستندات
دينية ضعيفة، ولذلك حاول إعادة تأسيس الدولة على قاعدة المشروعية
التاريخية.
يمكننا أن نعرض منهجية ابن خلدون وفق الوضوح التالي :
يلاحظ ابن خلدون بادئ ذي بدء أن "كل أمر يُحمل عليه الجمهور فلا بدّ فيه
من عصبيّة"(3)، ثم يؤكّد ما يلي : بما أن "الرياسة إنما تكون بالغلب"(4)،
وأن "الغلب يكون بالعصبية"(5)، فيصبح "التغلّب الملكيّ غاية للعصبية"(6)،
بمعنى أن "الغاية التي تجري عليها العصبية هي الملك"(7).
لقد نقل ابن خلدون الخطاب السياسي الإسلامي من مجال المشروعية الدينية إلى
مجال المشروعية التاريخية. فمع ابن خلدون لم تعد الدولة الملكية القوية
ضمن أحكام النص الديني، وإنما أصبحت مسألة مفوضة لنظر التاريخ، بصرف النظر
عن أن ابن خلدون يقر بنفسه بأن الدين الإسلامي "قد ذمّ المُلك وأهله"(8).
غير أنّ الله لا يذمّ الملك لذاته، وإنما يذمّه من أجل تصريفه إلى "أغراض
الحقّ". والواقع أن الملكية المطلقة بحسب ابن خلدون، ضرورة طبيعية للناس
وحتمية تاريخية بمقتضى مستقرّ العادة. وهنا يستعرض رؤية مشابهة لتلك التي
سيقول بها هوبز، إذ يقول –والقول هنا لابن خلدون وليس لهوبز- : "من أخلاق
البشر فيهم الظلم والعدوان بعض على بعض (…) فأمّا المدن والأمصار فعدوان
بعضهم على بعض تدفعه الحكام والدولة بما قبضوا على أيدي مَن تَحتهم من
الكافة أن يمتدّ بعضهم على بعض، أو يعدو عليهم، فإنهم مكبوحون بحَكَمة
القهر والسلطان عن التظالم"(9).
لذلك يلحّ ابن خلدون على "أنّ الملك غاية طبيعية للعصبية، ليس وقوعه عنها باختيار، وإنما هو بضرورة الوجود وترتيبه"(10).
على أنه لا يكتفي بجعل الملكية المطلقة ضرورة تاريخية، وإنما يذهب بمنطق
التحليل التاريخي إلى غاية جعل الدعوة الإسلامية نفسها تبدو وكأنها ليست
أكثر من المرحلة التاريخية والتي كانت غايتها منذ البداية بناء الدولة
العربية القوية والقادرة على تأمين حدودها ومجابهة مطامح الدّول الأخرى.
لكن ما جدوى أن يكون الدين ممهدا تاريخيا لمرحلة الدولة؟ السبب أن العرب
"لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين
على الجملة"(11).
هكذا لا يحظى الملك الجبري بالمشروعية وحسب، وإنما تكون الشريعة نفسها ضمن
الخلفية التاريخية التي ستقود لاحقا إلى بناء الدولة، بما يجعل الدولة
الملكية المطلقة عند ابن خلدون تبدو وكأنها ثمرة النص الديني بقدر ما هي
مرحلة متجاوزة له ولاغية لأحكامه السياسية، هذا إن كانت له فعلا أحكام
سياسية. فغاية الدعوة والنبوة بحسب ابن خلدون، الوصول إلى بناء الدولة
الملكية عند العرب، أسوة بما هو الأمر لدى شعوب ومجتمعات أخرى.
وإذا كان أول تاج من تيجان الملك في الإسلام قد آل عقب أهوال الفتنة
الكبرى إلى معاوية بن أبي سفيان (الأموي)، بدل علي بن أبي طالب (الهاشمي)،
بما ينازع مظهر "المشروعية الدينية" ويُعاكس موازين القوى العددية، فمردّ
ذلك أن المشروعية القائمة على الكثرة والورع لا تقيم الدولة ولا تمثل أي
أساس للملك أو سند له حتى في تلك الأزمنة. وتأكيدا على الطابع "العلماني"
للتاريخ السياسي العربي، كتب ابن خلدون يقول : "لما هلك عثمان واختلف الناس
على علي، كانت عساكر عليّ أكثر عددا لمكان الخلافة والفضل، إلا أنها من
سائر القبائل من ربيعة ويمن وغيرهم. وجموع معاوية إنّما هي جند الشام من
قريش شوكة مضر وبأسهم، نزلوا بثغور الشام منذ الفتح، فكانت عصبيته أشدّ
وأمضى شوكة"(12).
لقد آلت مشروعية الحكم إلى بني أمية، ليس لأسباب دينية وليس لاعتبارات ذات
علاقة بشكل من أشكال التفويض الإلهي، ومع ذلك فإن مشروعية حكمهم أصبحت
قائمة ولا شك، لكن لاعتبارات لم تعد تتعلق بالنص المتجاوز، وإنما لاعتبارات
تتعلق بالعقل والمصلحة والتاريخ.
لقد نجح ابن خلدون في أن يؤسس قواعد جديدة لمشروعية الحكم الجبري الذي
ابتدأ مع الأمويين، تحت مسمى قديم هو الملك الجبري ومسمّى حديث هو الملكية
المطلقة، على مشروعية وجوب الخروج من النصّ إلى حيث الله "أجرى الأمور على
مستقر العادة"(13).
خلاصة القول :
رغم أن العقل الفقهي في الإسلام لم يأل جهدا في تبرير الحاجة لدولة قوية
انطلاقا من الترسانة التي يوفرها النص الديني من مختلف مستوياته، إلا أنّه
أخفق وما يزال يسجل إخفاقا قاطعا، سواء في تركيا الآن، حيث التجربة
"الإسلامية" داخل الدولة تظل خارجة عن النص، أو في مصر أو الجزائر أو
الأردن أو غزة، حيث التجربة "الإسلامية" داخل النصّ تظلّ خارجة عن الدولة.
ذلك لأنّ العقل الدينيّ حين يصرّ على بناء الدولة انطلاقا من النصّ، فعلاوة
على أن هذا القول مجرد قول إنشائي، إلا أنه يتناسى بأن قوة النص الديني
الإسلامي تكمن بالذات في قابليته للتجاوز من طرف أية تجربة سياسية ناضجة
راشدة ومنحازة لمصالح الأمّة بدل أحكام النصّ المقدّس، تجربة منحازة
لـ"أمّة القرآن" بدل "قرآن الأمّة