سنة 1960 انتخب الشعب السنغالي ديمقراطياً ليوبولد سنغور، الكاثوليكي
المؤمن، أول رئيس لجمهورية السنغال في بلد، أكثريته مسلمة ونسبة الكاثوليك
فيه آنذاك لم تكن تتجاوز الثلاثة بالمئة. مارس المواطن السنغالي يومها حقه
في اختيار أحد المواطنين، بغض النظر عن انتمائه لهذا الدين أو لتلك
القبيلة، رئيسا دون أية حدود أو شروط لأن دستور السنغال لم يتضمن أن دين
الدولة أو دين رئيس الدولة الإسلام. وهكذا كان مسلمو السنغال مدركين، منذ
بداية عهدهم بالاستقلال ، أنه طلب منهم اختيار رئيس للدولة لا إمام لجامع.
ولكن بعد خمسين سنة من ذلك الحدث لم تتح الظروف لأن يرتقي السوري أو
العراقي أو أي من رعايا البلدان العربية إلى درجة المواطن إذ لم يقر أي
دستور عربي مبدأ المساواة بين المواطنين، ناهيك عن المساواة بين الرجل
والمرأة.
هناك شعوب تحكمها أنظمة دكتاتورية تحرمها من حقوقها السياسية فقط. الشعوب
العربية، و شعوب بعض البلدان الإسلامية، وحدها بين جميع شعوب الأرض محرومة
من الحقوق السياسية والحريات الفردية في آن معاً.
ولكن حرمان الإنسان من الحريات الفردية شيء وتحميل الله مسؤولية ذلك شيء آخر.
لا بد أن القارئ قد أدرك أنني أقصد قوانين الأحوال الشخصية المستمدة مما
بات يطلق عليه اسم الشريعة الإسلامية التي خلعت صفة القداسة على أحكامها ،
سواء منها ما ورد ذكره في القرآن الكريم -وهو أقلها-أو ما كان من محض
الاجتهاد البشري للفقهاء على امتداد مئات السنين ،وهو أكثرها. والحال أن
تقديس الشريعة يعني ، فيما يعنيه ، انه لا يجوز المساس بأحكامها ولا
تطويرها أو تعديلها تبعاً لتبدل ظروف الزمان والمكان وطبقاً لمقتضيات
التطور الاجتماعي والإنساني . وهذا يعني، فيما يعني، أنه لا يجوز مثلاً
اعتبار تعدد الزوجات٬ في هذا العصر، مهيناً للمرأة، كما لا يجوز إلغاء الرق
لأن القرآن سمح به؛ ومن ثم لا يجوز للدولة معاقبة ضارب زوجته ولا التسري
بالإماء حتى وان يكن عصر الرق قد ولّى وأصبح جريمة بحق الانسانية يعاقب
عليها القانون الدولي . وهذا التقديس للشريعة هو ما جعل بلداناً عربية عدة
تمتنع عن تحريم الرق في دساتيرها.
منذ سنوات كتبت الدكتورة رجاء بن سلامة مقالا تحت عنوان: "الشريعة- الفقه" صخرة سيزيف التي تسحق النساء العربيات:
«في سنة 1929، أي منذ ما يزيد عن سبعين عاما كتبت الفتاة السّوريّة نظيرة
زين الدّين، ولم تتلعثم : "إنّ الشّرائع السّماويّة لا تقيّدنا تقييدا
ثابتا إلاّ في علاقاتنا مع خالقنا سبحانه وتعالى، ذلك في أصول الدّين
والإيمان. وأمّا أمور دنيانا، وقواعد حياتنا، والمعاملات والعلاقات بيننا
فهي تابعة بمقتضى تلكم الشّرائع لحكم العقل، ومتحوّلة بمقتضى المصلحة
والزّمان". (الفتاة والشّيوخ) . »
وتواصل د. بن سلامة: "..بعدها بقليل كتب التّونسيّ الطّاهر الحدّاد، خرّيج
الجامعة الزّيتونيّة، ولم يتلعثم : «لقد حكم الإسلام في آيات القرآن
بتمييز الرّجل عن المرأة في مواضع صريحة. وليس هذا بمانع أن يقبل بمبدأ
المساواة الاجتماعيّة بينهما عند توفّر أسبابها بتطوّر الزّمن ما دام يرمي
في جوهره إلى العدالة التّامّة وروح الحقّ الأعلى، وهو الدّين الذي يدين
بسنّة التّدريج في تشريع أحكامه حسب الطّوق". (امرأتنا في الشّريعة
والمجتمع) »
هل كانت نظيرة زين الدّين والطّاهر الحدّاد مخطئين في فهمهما لمقاصد
الشريعة وأقل فهماً لمبادئ الإسلام من أولئك الذين يصرون اليوم على تطبيق
أحكام الشريعة وتقديسها واعتبارها مجموعة من القوانين الأزلية الجامدة، يجب
تطبيقها حتى لو خالفت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهود الدولية بما
فيها حقوق الطفل!
وهل سيغضب الله أشد الغضب إذا حكّم الإنسان عقله وشرع بما فيه مصلحة المواطن حسب مقتضيات الظروف ومصلحة الفرد والمجتمع؟.
الخليفة عمر بن الخطاب نفسه أزال القداسة عن الآيات القرآنية التي لها
علاقة بأمور الدنيا ومصلحة الجماعة والغي أحكاما٬ً بعد بضع سنوات من وفاة
الرسول وفي نفس الظروف الاجتماعية ٬ رغم وجود نصوص صريحة في القرآن٬ ولم
يعترض أحد من الصحابة حينذاك على ذلك ولم يتهموا عمر بمخالفته أمراً
إلهياً.
هل كان إيمان خديجة وعمر وعلي وبقية الصحابة ناقصاً٬ لأنهم دخلوا في دين
الإسلام على أساس مبادئه الروحية كما بشر بها الرسول في مكة؟ ألا يكمل
إيمان المسلم اليوم إلا بتطبيق العقوبات الجسدية الهمجية وسحق المرأة؟ إن
الحميّة الدينية التي يتسلح بها أولئك الذين يدّعون أن الخوف من غضب الله
والغيرة على الدين هما وراء حرصهم على تطبيق الشريعة اليوم لهي حميّة
مشبوهة٬ ما دامت تحصر نفسها بوضع المرأة ومصلحة الرجل في قضايا الأحوال
الشخصية. إنهم لا يتجرؤون على المطالبة بتطبيق الأحكام الشرعية ونظام
الجزية على أهل الذمة أو على الدعوة الى قطع الأيدي ورجم المرأة الزانية
وجلد متعاطي الخمر وقتل المرتد وغير ذلك كثير. ولكنهم يصرون كل الاصرار
بالمقابل على تحجيب المرأة ، بله على تنقيبها، وكأن كل الاسلام قابل
للاختزال الى قطعة سوداء أو بيضاء من النسيج .ألا كم هي مشبوهة هذه
الانتقائية! وكم هي واضحة كالشمس هذه النية المبيّتة والمخطّط لها على
استغلال الله والنصوص الدينية من أجل الحفاظ على مكاسب ذكورية في قضايا
الزواج والطلاق والإرث وحضانة الأطفال!وهذا بدون أن ننسى أن مداوري هذه
الخطة هم أنفسهم وراء الدعوة الى تطبيق عقوبات مخفضة على مرتكبي جرائم
الشرف التي لا علاقة لها بالدين.
لا أنكر على أي إنسان حقه في أن يكون رجعياً أو فاشياً أو معادياً للمرأة
أو حريصاً على أمواله ومصالحه الشخصية وسيادته الذكورية. ولكن أنكر عليه ،
وبكل قوة ،أن يتهم الله بمثل هذه الصفات وأن يتكلم باسمه.
الشريعة الإلهية٬ القوانين الإلهية ٬ الإسلام دين ودولة أو الحاكمية لله ،
هيكلها عبارات حديثة لم يأت بها أحد قبل بداية القرن العشرين وهي ليست سوى
أرضية لإيديولوجيا سياسية ونموذج لمجتمع أراد أصحابه إعطاءه شرعية دينية
مستغلين حالة الجهل والأمية التي كان وما زال غارقا فيها العالم الإسلامي.
هؤلاء يضربون بعرض الحائط كل ما حققته البشرية من مكاسب في مجال حقوق
الإنسان٬ و يعترفون بصراحة أن أحكام الشريعة مناقضة لتلك الحقوق. إنهم وراء
جميع تحفظات الدول الإسلامية على قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالمرأة
والطفل وكل ما له علاقة بحقوق الإنسان٬ رغم معرفتهم أن الشريعة ليست ركناً
من أركان الإسلام وأن أي قانون يطبقه البشر ولو كان له أصل في النصوص
الدينية ( معظم القوانين الشرعية لا أساس لها في تلك النصوص) هو قانون وضعي
بالضرورة وإلا أصبح من يطبقه شريكا لله. والإشراك بالله يرفضه الإسلام
جملة وتفصيلاً.
أليس من حق المسلمين أن يرفضوا هذه الهلوسة الإيديولوجية " المصلحجية " كأساس لقوانين ظالمة تحد من حرياتهم وتنتقص من إنسانيتهم؟.
إن أول ما يميز القرآن كنص ديني هو مساواته ٬ من الناحية الإنسانية ، بين
المرأة والرجل: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا
وقبائل لتعارفوا ". ومن الطبيعي مع ذلك أن يكون هناك تفاوت بين المبدأ وبين
التطبيق المرتبط بالظروف الاقتصادية والاجتماعية٬ وهذا ما حصل ويحصل في
جميع المجتمعات. ولو كان المسلمون أمناء على مبادئ القرآن الأساسية لكانوا
أول٬ لا آخر٬ من ألغى الرق وساوى بين المرأة والرجل.
إنني لا أحمّل الإسلام الأصولي والسياسي وحده مسؤولية المأزق الذي نحن
فيه. أصبّ لومي وغضبي على التقدميين والديمقراطيين٬ سواء الذين حكموا أو
عارضوا٬ ممن نسوا أو تناسوا أن موقفهم من حقوق الإنسان والمساواة بين
المواطنين ، وبشكل خاص بين الرجل والمرأة ، كان ينبغي أن يكون هو مقياس
تقدميتهم وتعلقهم بالديمقراطية. إنهم من هذا المنظار أقل تقدمية٬ حتى لا
أقول أكثر رجعية٬ من أتاتورك وبورقيبة ومحمد السادس!
الخلط بين الجريمة والخطيئة بغية التحكم بالحياة الجنسية للبشر هو السمة
الأكثر تمييزاً لدول القرون الوسطى الغارقة في الجهل والاستبداد واستغلال
الدين لمنافع شخصية ٬ بينما الدول الحديثة وضعت حدا لهذا الالتباس حين حصرت
مهمة الدولة بمعاقبة مرتكبي الجرائم على الأرض بينما تركت للعلي القدير
مهمة محاسبة عبيده على خطاياهم في السماء.
والسيد المسيح كان واضحا جدا في التمييز بين الجريمة والخطيئة حين عفا عن الزانية التي ارتكبت خطيئة ولم يعف عن مرتكبي الجرائم.
إن التحدي الكبير الذي يواجه العرب اليوم هو القدرة على تأسيس دول على
أساس المواطنة٬ وأساس المواطنة الذي لا أساس غيره هو أن تكون القوانين
مدنية ومن تشريع البشر طبقاً لحاجاتهم ومصالحهم الوضعية. وباختصار، لا مكان
لقوانين إلهية في دولة المواطنة. وتقديس الشريعة هو تقديس لمن يضع قوانين
باسمها. وتقديس هؤلاء المشرعين الذين يدّعون أنهم يشرّعون باسم الله
وبالنيابة عنه إنما هو في التحليل الأول والأخير إشراك في الله.