"علاقة رجال الدين بالأخلاق مثل علاقة المشعوذين بالطبّ"
ماكسيميليان روبسبيير
اَمضيت طفولة آمنة مطمئنة، فلقد نشأت في قرية بلا كتاتيب قرآنية، بلا
مستوصفات لتلقيح الأطفال، بلا مساجد لذكر الله ولا مآذن يعلوها صوت الآذان،
إن هي إلا أصوات العصافير وهدير الرافد النهري الذي يحاصر بيتنا من جهات
ثلاث. حتى الشحّاذ القادم من الجهة الرابعة كان أخرس، يأخذ النعمة ولا يقول
شيئا، ولا هو يشير إلى السماء ولو من باب الإيماء بالدعاء، فقد كان طاعن
السنّ مُعوجّ الظهر محدّقا في الأرض، ربما لعلّة في البدن، وربما طمعا في
رزق منسيّ بين التراب.
كلّ شيء كان مبرمجا لكي لا يبلغ مسامعي كلام فيه ذكر للذات الإلهية أو
أخبار عن عوالم الغيب وعن أهل النعيم وأهوال الجحيم. ومحصّلة القول أنّي،
على امتداد ذلك الخلاء المفتوح على سماء خاوية إلا من زرقتها النهارية
ولياليها القمرية، لم أصادف عقيدة تعنيني بالفرض أو الوراثة أو الفطرة أو
بمحض الصدفة.
تأخّرت قبل أن أدرك أنّ هناك قرآنا وصلواتٍ وأخبارًا عن الرسل والملائكة
والشيطان المغضوب عليه. تأخّرت وتأخّرت كثيراً إلى الحدّ الذي ما عاد
بالإمكان أن أصدّق أيّ شيء.
غير أنّ علاقتي بالدين وإن تأخّرت كثيراً عن المعتاد، فإنها لم تنشأ على
الوعد والوعيد، والخوف والإيمان. ولذلك، وفقط لذلك، لم تعترضني يوما مشاعر
الخيبة والكراهية ضدّ عقائد عمرها مئات السنين، كما حدث ويحدث للكثيرين.
وبوسعي أن أجازف بالقول بأنّ علاقتي بالدين كانت دائما علاقة سويّة خالية
من عصاب الولاء والبراء.
اَمضيت جلّ سنوات الطفولة تحت رعاية والد كان ما يزال طالبا جامعيا في
ريعان شبابه وأوج عنفوانه، فقد تزوّج مبكّراً على عادة أهله، لكنه على غير
عادتهم كان شغوفاً بالعلم والمعرفة، وكانوا هم -وما زالوا- أكثر شغفا
بالحياة.
لم يضمن لي تعليم المحظوظين في البعثة الفرنسية بالرباط، وكان ذاك طموحا
لا يواريه، لكنه استطاع أن يضمن لي في المقابل ما حرم منه المحظوظون :
مكتبة فاخرة بالبيت، وبيت مفتوح على رائحة الزعتر وامتداد الوادي أتدحرج
فيه كما أشتهي، ويتركني على سجيّتي، حتى إذا وقعت أرضاً أمهلني ليراني أنهض
تلقاء نفسي من جديد.
كان يريد أن ينشئني لميقات يوم معلوم على فريضة التفكير الحرّ، ولذلك
كثيراً ما نهاني عن الخوض في أسئلة "الغيب" حين ألتقط بعضها من أيّ كلام
عابر من بعض الضيوف والمتطفلين، فقد كان حريصا على أن لا أملأ جوف خيالي
بغير قصص الأطفال والجري خلف الفراشات المتراقصة على أوتار الأزهار.
اَذكر أنّي لما كبرت قليلا وأصبحت أفاجئه بأسئلة الخلق والأصل، بدأ يتلفّظ
لي بكلمة "الله" من غير إضافات أخرى. فقط، وكما كان يقول، هناك إله صنع
العالم مثلما يصنع الحلوانيّ الحلوى. وكما نشعر بالامتنان نحو الحلواني
ونودّ لو نشكره حتّى من غير أن نلقاه أو نعرفه، كلما أعجبتنا الحلوى، فكذلك
بوسعنا أن نقول لله شكراً امتناناً لصنيعه حتى من غير أن نلقاه أو نعرفه.
ويبقى أنّ لكلّ واحد الحقّ في أن يقول شكراً بطريقته.
- ما هو أفضل طريق لنقول لله شكراً؟ سألني ذات يوم.
- لكن.. هل هو في السماء؟
- إن كان يحتاج بالضرورة إلى مكان، فيمكننا أن نعتبره في كلّ مكان.
- لا بأس. أظنّ أنّ أفضل طريق لكي أشكر الله، أن… أه فهمت، أن أترك
الأعشاش في أغصانها، ولا أضرب أختي، ولا أغضب أمّي، وأن أنهي قراءة كلّ
القصص الموجودة، وربما أكتب في الأخير رسالة جيّدة أشكر فيها الله وأجعلها
في شكل مركب ورقي أضعه في مجرى الوادي وأتركه يمضي. وهكذا أكون قد فعلت كلّ
ما عليّ من الشكر الواجب.
هذا هو "الدين الطبيعي" الذي نشأت عليه بقوّة الأشياء وبحكمة الوالد.
ولسنوات طويلة كنت أعتقد بأنّ هذا هو الإسلام. أمّا أمّي فقد كانت فيما
يبدو منضبطة لقرار الوالد أكثر ما كانت مقتنعة بحكمته، أو ربّما كانت تكتفي
بنشوة العيش في الخلاء مع زوج يناسب بعض استيهاماتها.
عندما انتقلنا للعيش بالمدينة والتحقت بالمدرسة بدأت أكتشف، وعبر المقررات
الدراسية والشروحات المستفيضة لبعض الأساتذة، بأنّ سماء المسلمين لا
يحتلّها الحلواني، لكنها تمتلئ بأهوال السراط وصيحات المعذبين والجلود
المسلوخة والمبدلة جلوداً.
وعلى حين غرّة انقلب "الإله الجلاد والمسلّح" على "الإله الحلوانيّ
والأعزل"، وطرده من مملكته الآمنة المطمئنة، فعرفت معنى الجحيم، وبدأت
تطاردني كوابيس الرعب الأخرويّ كلّما أغمضت عينيّ للنوم، وكثيرا ما كنت
استيقظ مذعوراً خوفا من إله يراقب كلّ شيء، ويحاسب على كلّ شيء، ولا يتردّد
في تعذيب المسالمين والمدنيين والنساء والشيوخ والمرضى والمغلوبين على
أمرهم، وربما حتى الأطفال مثلي عندما يخلعون سراويلهم.
تسبّبت للوالد في الكثير من الخصومات مع بعض المدرّسين وأساتذة التربية
الإسلامية، ولم يكن يبتغي غير التفاهم معهم حول استبعاد حكايات الجحيم
والعذاب الأخرويّ من المناهج ما وسعهم ذلك. وهو المطلب الذي كان وما يزال
تعجيزيا في شروط موازين قوى تحاول أن تسترضي الجميع شرقا وغربا، شمالا
وجنوبا، وفي اتجاه كل الرياح وبلا اتجاه أيضا.
وقتها قرّر الوالد التحوّل إلى دراسة علوم التربية، ثمّ إلى تدريسها على
أمل أن يصبح من أهل الرأي والمشورة في صياغة البرامج التعليمية للصغار،
مستوعباً قولة عليّ بن أبي طالب : لا رأي لمن لا يُطاع.
أما أنا فقد وجدت نفسي في مرحلة لاحقة أمام مفترق طرق غير معبّدة :
إما أن أمحو من ذهني كلّ شيء وأرتاح من أسئلة الأنا العاقلة لكني لن أرتاح
من أسئلة العيش مع الآخرين، وإمّا أن أساهم قدر المتاح في تغيير الصورة
التي يحملها الناس عن الإله، طالما أنّ تصوّر الشعوب لسلوك آلهتهم ينعكس
على سلوكهم وعلاقاتهم.
لقد أدركت في آخر المطاف، بأنّ معركة تغيير سلوك الآخرين هي بالأولى أو
بالأحرى معركة تغيير صورة الإله عندهم، كما أنّ معركة الإصلاح الديني هي
بالمقدمة وبالبدء معركة تنشئة اجتماعية تقوم على بناء صورة الإله عند
الطفل، بما يخدم نوازع النفس والسلوك العاقل معاً.
ولعلّ الجدير بالتذكير كيف شيّد الأصوليون المسيحيون في أمريكا أفضل
الجامعات (جورج تاون، هارفارد، برينستون) وشيّدوا أكبر المستشفيات، وذلك في
مراحل كان الاعتقاد الديني السائد في أمريكا يعتبر الله أبا حنونا حاضنا
لأبنائه ومستبشرا بمستقبلهم، لكن الآن حيث يسود الاعتقاد بأنّ الله يشعر
بالملل ويوشك أن يسدل الستار الأخير عن ملحمة البشرية، لم يعد ما يشيّده
الأصوليون الأمريكيون من أمجاد غير الكنائس والصناعات الحربية وتمويل إعادة
هيكل سليمان.
اِن الكثير من أفعالنا الدموية ومشاهدنا القيامية في العلاقات الاجتماعية
والدولية، والتي تهدّد السلام والأمن، ناجمة في الغالب عن الصورة التي
أصبحنا نحملها عن إله يغضب على من يشاء ويبارك لمن يشاء ويحرّض من يشاء على
من يشاء.
وإن لم يكن من المؤكّد أنّ الله سيختفي خلال الأجل المنظور من القاموس
السياسي والصناعي والعسكري والاستراتيجي، كما حسب الكثيرون، فما العمل؟ هل
نصرّ على إهماله والرهان على نسيانه في الأخير، ما قد يكون مجرّد انتظار
بلا أثر؟ أوليس الأجدى وكحدّ أدنى أن نكتفي بتعديل وظائفه؟
لكن ألا يكون هذا الأدنى هو الأقصى الذي طالما أغفلناه في غمرة التقاطب الحاد بين القطبين : الإيمان والإلحاد؟
اِن الإله الذي أصبح في الآونة الأخيرة يبارك كثيرا لأمريكا، تبعا للخطاب
الأمريكي الرسمي، ويرفض تقسيم القدس، والذي أوصى جورج والكر بوش بغزو
العراق، هو أيضا إله الصناعات الحربية وخطى ألفية الفناء وحرب الجميع على
الجميع.
إنّ الإله الذي يهتزّ عرشه لمجرّد قبلة صادقة، ويتحسّس من بعض الكلام الذي
أكتبه الآن، والذي حرّض أسامة بن لادن على غزوة مانهاتن، ولا ندري ماذا
سيفعل غداً، هو أيضا إله العصابات الانتحارية ونساء البرقع وتفجير محطات
القطارات والمزارت والمستشفيات.
كلّ هذا يجب أن ينتهي.
كيف؟
في حواره الشهير مع الصحيفة الألمانية دير شبيغل، والذي نشر عقب وفاته،
أطلق الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر صيحته المدوية : لن ينقذنا إلا إله
جديد.
أظنّ أنّ الكثيرين لم يفهموا بعد قصده!