في أواخر العام 2008 صدر في بيروت العدد الأوّل من المجلة الفصلية
المتخصصة بالإيروتيكا وآداب الجسد وهي : مجلّة جسد، الأمر الذي أحالني إلى
منشورة يسارية قديمة كانت تصدرها منشورات النقطة في باريس ثمانينات القرن
الفائت بعنوان : النقطة، وهي أيضاً منشورة تعنى بالإيروتيكا والجسد
وتاريخه. وأعتقد بداهة أنّ هناك دوريات عربية أخرى مشابهة صدرت وستصدر.
اللافت للنظر هو الفرق الواضح في أساليب العرض وفي الصيغ اللغوية المتباينة
بين المجلّة الجديدة "جسد" والمنشورة الأقدم "النقطة"، وهي بالدرجة الأولى
طغيان التجربة الشخصية على "جسد" حيث تفاصيل الخبرات الجنسية الفردية
لأشخاص بعينهم في خضمّ اعترافات أو شهادات أو مقابلات عن تجاربهم أو
تجاربهنّ، وطغيان الصورة والمشهدية الملوّنة والعناوين المثيرة في طباعة
فاخرة بالدرجة الثانية. من أمثال تلك العناوين: (في مديح العادة السرية،
وسأعلّم النساء المضاجعة قالت ليندا. (العدد1))، (عندما رأت أناييس قضيب
مانويل (العدد 6))، (للمرأة قضيبها أيضاً (العدد 2))، (وسَلَطة البرتقال
فوق العانة، (العدد 5)). فيما كانت منشورة النقطة خالية تقريباً من الصور،
بورق رخيص متقشّف، ومقتصرة تقريباً على رسومات اليد. وربّما كانت تحاول
الغوص في ماهية الإيروتيكا وكنهها العميق باعتبارها ثقافة مناهضة للشمولية
وللسلطات الدينية والاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية إن شئنا. وما
أذكره جيّداً عن تلك المنشورة هي رسمة كبيرة متخيّلة لله في أحد الأعداد،
وقد صوّر كرجل عارٍ بدين مخصيّ وقبيح يجلس على عرشه القزم فوق الغيم ويضحك
ببلاهة.
بعيداً عن أحكام القيمة فيما يخصّ التجربتين إلا أنّهما تشتركان في أمر
وحيد وهو المحاولة، كلّ بطريقتها، لتكسير صنم حجريّ مقيم يدعى التابو. بيد
أنّ الفروقات العميقة بين التجربتين تدفعنا للتساؤل إن كانت منوطة بتغيّر
الزمن وشكل تقديم المعرفة، أم أنّ الأمر أبعد من ذلك ويختصّ بتغير نظرة
الإنسان إلى كلّ شيء، ابتداء بمعنى وجوده وجسده وأسراره وطقوسه، وليس
انتهاء بتأثير التكنولوجيات المهرولة وعلوم العصر لجهة تشييء هذا الجسد
وتغييبه، ومن ثمّ هصره ضمن عجلة استهلاك كبيرة باتت تنظر إليه كسلعة ترويج
أو كصيغة للظهور والمباهاة. ولا أعرف إن كان النظر إلى الخصوصية الحميمية
كشيء يمكن استخدامه في عرض متباهٍ على خشبة مسرح باسم الحرية والتحرّر هو
شكل جديد من أشكال كسر الثوابت!!.
ربّما كان الأمر برمّته آتياً من أساس فكرة جوهرية في معنى الوجود
الإنساني تلتقي عليها المجلّتان والكثير من الآداب الأخرى، وهي: الإيروتيكا
أو الإيروسية، ولكن باعتبارها نوعاً من الفانتازيا الفنّية وليس بالنظر
إليها عبر زاوية ضيقة وحصرية كوظيفة فيزيولوجية يتساوى فيها الإنسان مع
بقية الكائنات. ولنقل إنّ الخيال، بكلّ تمظهراته الملوّنة وباعتباره سلاحنا
شبه الوحيد في وجه الجمود، هو الذي يحوّل ميكانيك الجنس إلى إيروتيكا.
فإذا انعزلت الإيروتيكية عن الخيال وعن باقي عناصر الحياة والعالم وحصرت في
عدّة حركات آلية ستصبح فعلاً روتينياً مفرغاً من معناه! وربما كان
الإمبراطور تيبيريوس Tiberius (42ق. م- 37م)، وهو الإمبراطور الروماني
الثاني الذي خلف الإمبراطور أغسطس في العام 14م، هو أوّل من كثّف هذه
الفكرة بتفرّدها حينما عمل على جمع لوحات الفنان البورنوغرافي اليوناني
بارازيوس في قصره وفي غرفة نومه بالتحديد، التي كانت متحفاً للصور
والتماثيل والفنون والكتب ومسرحاً للممارسات المفتوحة على اللامألوف.
باعتبار أنّ بارازيوس هو الذي اخترع البورنوغرافيا حوالي العام 410ق.م في
أثينا، حيث البورنوغرافيا تعني حرفياً باللاتينية : رسم المومسات، فقد أحبّ
المومس تيودوتيه ورسمها عارية. وعلى الرغم من أنّ سقراط وصف بارازيوس
بأنّه شَبقٌ إلا أنّ البورنوغرافيا Pornography تحوّلت مع الزمن إلى أدب أو
فنّ الفجور، وهي تعني الإباحية أو كلّ ما يتعلق بالأشياء الداعرة. أمّا
الإيروتيك أو الإيروسية فهي اليوم بالتعريف الموسوعيّ الشهوانية الجنسية أو
إثارة الشهوة الجنسية، فيما يمكننا أن نلاحظ أنها آتية من الإله إيروس
eros وهو أحد الآلهة الإغريقية المبكّرة التي حكمت الكون والذي جعل النظام
والترابط في أجزاء السديم الكوني الأوّل، وهو القوّة الجامعة والجاذبة التي
تحمل الموجودات على التآلف لإنتاج الحياة. كما أنّه إله الحبّ الإغريقي في
نسخة لاحقة، والذي أضحى باسم كيوبيد عند الرومان، أمّا عند أفلاطون وفي
مأدبته الشهيرة فقد كان هبة الآلهة للإنسان والتشويق إلى الخير والخلود.
في المحاولات التالية للبشرية لتحويل الإيروتيكا والبورنوغرافيا من فنّ
بصريّ إلى فنّ كتابيّ كان يتمّ السير أبعد باتجاه التجريد الفنّي، حيث
الكتابة الإيروتيكية أشبه برغبة في تدوين مغامرة جنسية أو ترويضها، وهو
جوهر المتعة وسبب من كونها مستحيلة على الأرجح. فالكتابة عن الإيروسية أو
البورنوغرافية هي كتابة ناقصة على الدوام، وربما يتأتى جمالها من هذه
النقطة بالذات! إنّها أشبه بلوحة عظيمة ناقصة يكملها كلّ متأمّل بخبرته
الشخصية. ولا أعتقد أنّ أحداً من المهتمّين لم يطّلع على تاريخ الأيروتيكا
وتدويناتها عبر التاريخ ابتداء بالكاماسوترا وطريق الحبّ التاوي، وليس
انتهاء بالإيروتيكا العربية بتدوينات شيوخها. وكلّ من هذه التدوينات أضافت
للأساس الإيروتيكي تخييلها الخاصّ.
الفكرة شبيهة بالذي قاله الكاتب البيروفي مارغو بارغاس يوسا في حوار أجري
معه حول الإيروتيكا في روايته الشهيرة بجزأيها : امتداح الخالة، ودفاتر
دون ريغو بيرتو، فقد رأى أنّ الإيروتيكية تعني نزع صفة الحيوانية عن الفعل
الجنسيّ، وتحويله عملاً فنياً يجتمع فيه الخيال والحساسية والفانتازيا
والثقافة. حيث تغدو الإيروتيكا، بنظر يوسا، منتجاً حضارياً. أما الشخصية
الأساسية المدوِّنة، وهي دون ريغو بيرتو، فيعتبر الزواج عالماً شديد الغنى
يمكن أن يستوعب كلّ الفانتازمات وأن يتجنّب الروتين شرط أن يكون الخيال
موجوداً. وهنا يحاول يوسا عبر شخصيته أن يحوّل أمراً روتينياً في مؤسّسة
روتينية إلى فنّ غنيّ ومولّد وذلك بالخيال وحده.
وحيث تتحوّر الإيروتيكا من كونها فعلاً جسدياً إلى عمل فنّي ومن ثمّ إلى
جسد لغويّ تتأتّى أهمّية التراكيب والألفاظ والتعبيرات المختلفة، وبالتالي
الكلمات التي يطلق عليها السائد اليوم : الكلمات الفاحشة. وهي أمر شديد
اللصوق بالخصوصية والحميمية، ذلك أنّ كلمات الفحش تختلف من ثقافة إلى أخرى
ومن لغة إلى أخرى، بل وبشكل أكثر دقّة من منطقة إلى أخرى في البلد نفسه.
فتتحوّل كلمة الفحش حين تلفظ بلكنة غريبة أجنبية إلى كلمة مضحكة تفقد كلّ
وظيفتها التعبيرية. وربما هذا ما جعل ميلان كونديرا يقول، في قاموسه ذي
الثلاثة والستين تعريفاً، إنّه من الصعب أن تكون فاحشاً مع امرأة أجنبية،
ذلك أنّ الفحش هو الجذر الذي يربطنا بالوطن!.
هل تكون طقوس الإيروتيكا بأنواعها اللغوية والفنية والجسدية والمعرفية
خصوصية تربطنا بالوطن؟ وإذا كانت الإثارة هي أساس الشبق ولغزه الدفين فلم
لخّصت النمساوية ألفريدة يلينيك رؤيتها عن الإيروتيكا، ضمن كتابها
الشهير: شبق، في تحويل العنصر المنظور إليه إلى فاعل ناظر بدوره؟ خصوصاً
وأنّها ترى أنّ الأدب البورنوغرافي اخترعته وكتبته المخيّلات الذكورية، وهي
للمرأة توق مستحيل، وبرأيها حتّى أناييس نن لم تبرع في كتابة
البورنوغرافيا على الرغم من كلّ ما كتبته، خصوصاً في كتابها الشهير أيضاً:
دلتا فينوس، والسبب برأي يلينيك أنه لا يمكن طرح احتمالات إيجابية عن الحبّ
في إطار الدونية التي لم تزل المرأة عالقة فيها، ولاشيء يثبت هذه الدونية
أكثر من العدد الهائل من الكتب التي تعلّم المرأة كلّ شيء عن الرجل :
"الرجال لا يشترون كتباً مماثلة، فالسيّد لا يحتاج إلى تعلّم أيّ شيء عن
ذاته، وتلك مهمّة تؤول إلى خدمه". بالنظر إلى رأي يلينيك فلم يعد للخيال
دور هنا، الأمر هنا مجرّد مرآة لأفعال أساسها ثقافيّ وسيكولوجيّ ومجتمعيّ
وذاتيّ، وما يفعله الخيال كأساس في تحويل الإيروتيكا من فعل حيوانيّ مشترك
إلى فانتازيا فنية تعيده التنظيرات والإيديولوجيات والعقائد إلى مجرّد فعل
يوميّ.
بسبب كلّ ما سبق أن قلته يلحّ علي سؤال أساسيّ : إذا زجّت الإيروتيكا
والبورنوغرافيا، باعتبارهما أساس علوم اكتشاف الجسد وأمدائه، في محدّدات
الإيديولوجيات الإنسانية، وراح كنههما يرشح مع الزمن لجهة الأفكار الجنسوية
والطبقية والدينية والاجتماعية والسياسية، وهي محدّدات فكرية ومعرفية
أساسية لدى الإنسان، وراحت تخضع كذلك لسياق الإعلام والإعلان والاستهلاك
والتشابه، فإلى أيّ حدّ ستبقى محتفظة بسحرها الأسطوريّ المفترض؟.