عندما جاءت سيّدة لتطرق باب
منزل أندريه وزوجته دورين، وجدت على الباب عبارة تقول: أخبروا رجال الدّرك.
لم تتردّد في العمل بالوصيّة وهي لا تشك بأنّ مكروهاً حدث في الدّاخل،
وبعد لحظة، تمكّن رجال الدّرك من اقتحام المنزل.
هناك كان الفيلسوف الفرنسي أندريه كورز رفقة زوجته دورين، جثّتين
هامدتين ترقدان على الفراش بجوار بعضهما البعض. لم يكن في الحجرة ما يدلّ
على أيّ عنف قد يكونا تعرّضا له، لم تكن هناك غير رسالة عشق أخيرة، تركها
الزّوج لزوجته، هي آخر ما كتب وآخر ما قرأت، قبل أن ينطفئا معاً. في تلك
الرسالة يعترف الزوج بأنّه كتبها والدّموع تنهمر من مقلتيه، ليعبّر عن
مشاعر عشق عمر طويل، فيما بقي من وقيتات قليلة، لزوجة كان رفيقها الثاني
مرض فتّاك، ألزمها ألماً لم تعد تقوى على تحمّله حتى وهي بين أحضان رجل
يعشقها حدّ الثمالة.
كانت هي في سنّ الثالثة والثمانين، وكان هو في الرّابعة والثمانين،
وكان بينهما عشق تخطّى بكبرياء إلهيّ، حدود الخيال الممكن والجنون المباح،
وكلّ ما تحتمله الطبيعة العرضية للحياة، وفي ذلك اليوم، 22 شتنبر 2007، كان
لديهما ما يكفي من الحبّ والخيال لتحطيم الحدود الوهمية بين الوجود
والعدم، فجعلا الحلم والفراش يحلّقان بهما في متعة أخيرة، إلى حيث سيرقدان
معاً في سلام أبديّ.
قبل عام على انتحارهما، كان أندريه كورز قد ألّف كتابه الأخير وقد
خصّصه لوحيدته، كان العنوان طفولياً وأبديّاً؛ قصة حبّ. وكان مبتغاه فيما
يبدو، أن يشحن جسد الزوجة السقيم بكل مشاعر الحبّ التي قد تعينها على
مواجهة المرض الذي يكاد يفتك بها في أية لحظة، كانت رائحة الموت قد بدأت
تنتشر في أرجاء ذلك البيت الصغير والجميل، ولم يكن في رفقة الزوجين غير
لهيب الحبّ الأسطوريّ والذي لم تزده سنوات الشيخوخة إلاّ اشتعالاً. في كلّ
ليلة جديدة وتحت جنح الظلام، كانت تجري أطوار معارك صامتة بين لهيب العشق
وصقيع الموت البارد.
مع تتالي الليالي ومرور الأيام، ظلّ الموت والألم يزحفان ببطء على
جسد امرأة أنهكتها سنوات المرض الطويلة، وبدا وكأن النهاية تدنو وتقترب،
إلى أن وصل اليوم الذي لم يعد فيه الجسد قادراً على تحمّل أوجاعه. ولأنّ
الزوج وضع هذا اليوم رهن إدراكه، فلقد سجّل في ذلك الكتاب اعترافاً قوياً
بما قد يقدمان على فعله: "نحبّ أن لا يستمرّ أيّ أحد منّا بعد وفاة الآخر،
وقد قلنا بأنّه لو كانت هناك فرصة لحياة ثانية لتمنّينا أن نعيشها مع بعض".
عندما اقتحم رجال الدّرك المنزل، كان الزوجان يغطّان في نومهما
الأبديّ، أحدهما بجانب الآخر، لم يكن في انتحارهما أيّ أثر لليأس أو دليل
عليه، إن هو إلاّ الكبرياء الجميل في مواجهة الحقيقة الأزلية: نحن هنا من
أجل أن نغادر، وأحياناً خير لنا أن نغادر طوعاً وقبل الأوان قليلاً، على أن
نغادر كرهاً وبعد فوات الأوان، حين نكون قد خسرنا الحرية الأخيرة والكرامة
الأخيرة والذكرى الجميلة الأخيرة.
لكن هل يتعلّق الأمر فعلاً، بالحرّية الأخيرة للإنسان، وبحقّه في
الاختيار الأخير، أم أنّ الأمر لا يعدو كونه خرقاً لحقّ الإنسان في الحياة؟
تنافح المنظومة الدّولية لحقوق الإنسان عن الحقّ في الحياة، ولم
تتردّد في جعله حقاً "مقدّساً"، وهكذا اكتست الحياة رداء القداسة الدينية،
وساهم العلم والتقنية في إشاعة "التفاؤل" حول الانتصار الوشيك والنهائيّ
للحياة على الموت، وهو "التفاؤل" الذي قاد إلى نتائج جليلة؛ فمعدّل عمر
الإنسان ارتفع، واختفت الكثير من الأمراض التي كانت تفتك بالأطفال، وتطوّرت
طرق العلاج والوقاية، وأصبح العيش الطويل بعد سنّ التقاعد معطى شائعاً،
وبفضل الجراحة التجميلية زالت أعراض الشيخوخة عن الكثير من الوجوه
الشائخة..
لقد استطاع العلم المعاصر أن يضيف لمعدّل عمر الإنسان ما يناهز
عشرين سنة، وهو إنجاز كبير وواعد، غير أنّ مثل هذا التقدّم على مساحة
الموت، قد أوجد في المقابل وهماً مستلهماً من الرّؤية الدينية نفسها،
ويتعلّق بإمكانية الانتصار التدريجيّ، بل وحتّى الفجائيّ والنهائيّ، على
الموت، إنّه الوعد الذي عاشت على إيقاعه العديد من الشخصيات البارزة للقرن
العشرين، بل كثير من الناس في عدد من الدّول الأكثر تصنيعاً، لجؤوا إلى
شركات تجارية خاصة تقوم بحفظ جثت من يدفعون ثمناً لذلك، وهم يتطلّعون إلى
إمكانية أن يعيدهم العلم يوماً ما إلى الحياة.
وبصرف النظر عن مشروعية مثل هذا التطلّع الذي رافق البشرية منذ زمن
الفراعنة، فإنّ تمكّن العلم من تمديد عمر الإنسان، وما استتبع ذلك من تمطيط
للمرحلة الأخيرة من حياة الإنسان، بل وحتى لمرحلة الاحتضار التي قد تستغرق
بقرار طبّيّ عدّة أسابيع بل أشهرا طويلة، والاستعمال المفرط للأجهزة
الاصطناعية بآلامها وتكاليفها وعبثيتها أحياناً، لقاء تمديد مرحلة النهاية
وتأجيل الرّمق الأخير ولآخر الثواني المعتصرة، ولمجرّد أنّ الحياة "مقدّسة"
بصرف النظر عن التفاصيل، كلّ هذا قد بات يهدّد كرامة الفرد واستقلاليته،
وهذا في الوقت الذي تلحّ فيه الحضارة المعاصرة نفسها، على استقلالية الفرد
وكرامته، وعلى إلغاء كافّة أشكال الاتكال والتواكل وثقافة الريع، ما دفع
الإنسان المعاصر لأن يتوقف قليلاً ويلتفت إلى سؤال طالما أدار له ظهره:
ألا يستتبع الحديث عن الحقّ في الحياة، حديثا عن الحقّ في الموت أيضاً؟
ألسنا بالجواب الإيجابيّ، نحترم قوانين الطبيعة ونحترم أيضاً حرية الإنسان وكرامته وكبريائه ونبله وشهامته؟
من الشهامة أن نقاتل القدر بلا أوهام، لكن من الشهامة أيضاً، أن نحترم القدر في الأخير، عندما يكون عليه أن يقول كلمته الأخيرة.