ممّا لا شكّ فيه أنّ تقديم
مقالة معمّقة عن تيّارات ما بعد الدارونيّة الجديدة postneodarwinism،
خاصّة الابستمولوجيا الارتقائيّة، أمر لا يخلو من مغامرة: فمن ناحية، اعتاد
القارئ بالعربيّة – بالأحرى: عُوِّد – على نوعية من القراءة السّهلة التي
لا تتطلّب أدنى درجات تفعيل العقل؛ ومن ناحية أخرى، كما قلنا من قبل، فقدت
الكلمة المكتوبة كثيراً من جاذبيتها التي يصعب عليها الاستمرار ذاتيّاً، مع
غزو المرئيّات وصعوبة الحصول على الكتاب بعد ارتفاع أسعاره، وتراجع الدخل
الفرديّ إلى درجات غير مسبوقة: بغضّ النظر عن النوعيّات الهابطة من الكتب
المتداولة اليوم التي لا تضيف إلى التفعيل العقليّ شيئاً.
رغم ذلك، في الحرب التي لا هوادة فيها ضدّ التعصّب والاستلاب المعرفيّ،
يبدو أنّ العلم وفلسفة العلم هما السلاح الأمضى في ساحة الوغى، رغم صعوبة
التآلف بين قاموس العلم وفلسفته من ناحية، وعقل المواطن العربيّ من ناحية
أخرى. لا يمكن للفلسفة أو المنطق محاربة اللاهوت: الطرفان ينطلقان من
مسلّمات ماورائيّة-تأمليّة قابلة للقبول أو الرفض. لكنّ العلم، بحججه التي
لا تدحض، خاصة علوم الجينات، لا يمكن غير أن يكون الداحض الفعليّ لمقولات
الميتافيزيك. والدارونيّة، التي تعيد تفسير ما فوق الطبيعيّ بالطبيعيّ، هي
الرافد الأوّل إن لم يكن الأخير للعلمانيين اللادينيين في وجه الخرافة.
في هذا البحث التعريفي، نقدّم مقاربات غير مطوّلة لأهمّ ما يتعلّق
بالابستمولوجيا الارتقائيّة؛ ومن ثمّ نقدّم بعض أسطر تعريفيّة في محاولة
لتبسيط بأكثر ما يمكن وجهة نظر فولمر الابستمولوجيّة الارتقائيّة.
1 – مدخل عام:إنّ وصفاً عاماًّ لمعنى المصطلح " إبستمولوجيا ارتقائيّة " وتاريخه
سيقدّم لاحقاً. لكن من الضروري الآن أن نفهم أنه يمكن التمييز بين أنواع
مختلفة من الابستمولوجيا الارتقائيّة، مع أنّ كلّ الأنواع تتشارك في
التالي: يحتاج الإدراك لأن يُدرس من خلال الابستمولوجيا الارتقائيّة. مع
ذلك، ثمّة اختلافات تنشأ عن التالي:
تحديد الخط الفاصل بين الإدراكي واللاإدراكي؛
ب – سمات الإدراك التي يجب أن تُدرس ضمن نظرية الارتقاء؛
ج - سمات نظرية الارتقاء التي يمكن تطبيقها على دراسة الإدراك.
النظريّة الارتقائيّة ذاتها بعيدة عن كونها مصطلحاً مرادفاً لنظريّة
الارتقاء عبر الاصطفاء الطبيعي. فالآراء المتباينة حول الارتقاء تختلف
باختلاف وحدات أو مستويات معركة الاصطفاء التي يأخذها أحدنا كنقط انطلاق.
فمنظورات مختلفة للارتقاء تنشأ حين ينظر أحدنا إلى الارتقاء من زاوية
البيئة، العضويّة، والجينات. والابستمولوجيات الارتقائيّة توازي هذه
المنظوريّة. هذا يعني، أنّه اعتماداً على وجهات النظر المتباينة هذه، يمكن
أن تُقدّم إبستمولوجيات ارتقائيّة مختلفة. إنّ مقاربة المعتقد بفكرة
التكيّف إلى الارتقاء هي أساس الابستمولوجيا الارتقائيّة التقليديّة. لكن
مقاربات غير المعتقدين بفكرة التكيّف إلى الارتقاء كانت تعتمد على مقاربة
المعتقد بفكرة التركيبيّة إلى الارتقاء. و"رؤيا عين الجين" للارتقاء أوصلت
إلى بحث عن آليّات إبستمولوجيّة ارتقائية شاملة.
2 – سياق الاستخدام:كان أوّل من استخدم مفهوم " الابستمولوجيا الارتقائيّة " دونالد ت.
كامبل ( 1974 ). لكنه رفض على الدوام أن يدعى الأب المؤسّس للابستمولوجيا
الارتقائيّة لأنه نظر إلى ذاته على أنه أعطى " شيئاً تواجد عبر مئات السنين
وربما أكثر". لو كان على الابستمولوجيا الارتقائيّة أن تمتلك شعاراً، يمكن
أن نأخذه من عنوان كتاب مايكل روس الشهير، التعامل مع الدارونيّة بجديّة.
هذا يعني أنه حين يعتنق المرء وجهة النظر الارتقائيّة للحياة، يكون بحاجة
لأن يفهم كلّ الصيرورات البيولوجيّة، ليس فقط كنتاج للارتقاء، لكن أيضاً
كشيء لا يمكن استقصاؤه كفاية إلا باستخدام النظريّة الارتقائيّة.
تفهم الابستمولوجيا الارتقائيّة الابستمولوجيا على أنها نتاج الارتقاء
البيولوجي. لذلك فالابستمولوجيا تُدرس ضمن نطاق البيولوجيا الارتقائيّة. لم
يعد الإدراك يُفهم على أنه صفة ألسنيّة ( افتراضي ) أو أنه محدد بالبشر.
بل على الأرجح أن كل العضويّات تستطيع إظهار سلوك قائم على الإدراك. من
هنا، فإن أوّل متطلّب كبير للإبستمولوجيين الارتقائيين هو التمييز بين
صيرورات الإدراك المختلفة التي تستطيع إظهارها العضويّات البيولوجيّة من كل
ممالك الحياة الكبيرة. ثانياً، إنهم يتقصّون كيّف تطوّرت هذه الملكات
الإدراكيّة من العضويّات وحيدة الخليّة وما بعد. ثالثاً، تُفهم نواتج
الإدراك ( من ناحية، الإدراك الحسّي للنور أو اللون، ومن ناحية أخرى،
العلم، الثقافة واللغة ) من ضمن مقاربة ارتقائيّة.
إنّ ما نعنيه باستخدام النظريّات والآليات البيولوجيّة لاستيعاب الإدراك
هو أن تكون إما وصفيّة أو تفسيريّة. وفي هذا السياق، يفرّق روس بين "
تناظر وظيفيّ بوصفه مساعداً على الكشف" و"تناظر تمثيليّ بوصفه مسوغاً".
يشير المصطلح الأوّل إلى استخدام الاستعارات والتشبيهات القياسيّة المأخوذة
من النظريّة الارتقائيّة لوصف تطور العلم على نحو غير محدد ومن ثمّ اكتشاف
مقاربات جديدة للبحث، على سبيل المثال لا الحصر. أما الإستراتيجية
البحثيّة الأخيرة فتتضمن تطبيق التشبيهات القياسيّة الارتقائيّة لتبرير،
ومن ثم التحقق من صحة أشياء مثل ارتقاء العلوم.
وإذا ما أردنا أن نختصر المسألة، فالرأي الذي تقوم عليه الابستمولوجيا
الارتقائيّة هو أنّ هنالك آليّة ارتقائيّة شاملة تقود أوّلاً إلى ارتقاء
الحياة عموماً، وثانياً، أنّ هذه الآليّة تعمل أيضاً ضمن ارتقاء الإدراك،
وضمن نتاجات الإدراك كاللغة والعلم والثقافة.
من هنا فإنّ بعضاً من الابستمولوجيين الارتقائيّين، مثل كامبل، يفترضون
أيضاً أنّ هذه الآليّة الارتقائيّة في مجالات عملها الخاصّة تصوّر آليّة
ارتقائيّة. وهذه الفكرة ستناقش لاحقاً.
يستخدم مفهوم "الابستملوجيا الارتقائيّة" اليوم عموماً كمرادف لنظريّة
الاصطفاء من ناحية، ومن ناحية أخرى، كجزء من برنامج الابستملوجيا
الارتقائيّة الحديثة والابستمولوجيا الارتقائيّة التقليديّة.
آ - الابستمولوجيا الارتقائيّة ونظريّة الاصطفاء:
تمتلك الابستملوجيا الارتقائيّة علاقات قويّة بنظرية الاصطفاء. والأخيرة
نظريّة تعتنق الرأي القائل إن وحدها التفاسير الاصطفائيّة كلّها – مقابل
التفاسير التعليميّة ( السلوكيّة ) – لسمات العضويّة ( بما في ذلك السمات
الإدراكيّة ) تعتبر صحيحة. تقول التفاسير السلوكيّة إنه يكفي أن تصف السلوك
المرئي، الخارجي الذي تظهره العضويّة لتقديم تفاسير وافية لذلك السلوك.
الروايات الاصطفائية، بالمقابل، تفحص أيضاً العناصر الداخليّة التي تكمن
خلف سمة بعينها ( كالجينات مثلاً ) والبزوغ الارتقائي لتلك السمة. إن أوّل
من قدّم مصطلح نظريّة الاصطفاء هو زيمّل وبالدفين في القرن التاسع عشر.
لكنا نشهد اليوم مدى واسعاً من البيولوجيين واختصاصيي الأعصاب
والإبستمولوجيين والذين هم اصطفائيّون، لكن هؤلاء العلماء لا يدركون أو
يقرّون بأي تأثير مباشر لنظرية الاصطفاء عند زيمّل وبالدفين.
في هذه المقالة ككل، يتم التأكيد على المصطلح الأكثر عموميّة، أي
الابستمولوجيا الارتقائيّة. والسبب هنا ثنائي. أولاً، ليست كل الموضوعات
التي تحرّاها الاصطفائيّون لها علاقة بدراسة الإدراك. ثانياً، ليس كل
إبستمولوجي ارتقائي يدافع عن وصف اصطفائي أوحد للإدراك. بل إن المبادئ
الارتقائيّة الأخرى، مثل التنظيم الذاتي، على سبيل المثال، متضمنة هنا
أيضاً من أجل استيعاب نواتج الإدراك. أخيراً، فالتمثيلات القياسيّة لا ترسم
فقط بين النظريّة الارتقائيّة وارتقاء العلوم والمعارف. فالثقافة، اللغة،
الاقتصاد، إلخ.، كل ذلك يمكن تفسيره ضمن الأطر الإبستمولوجية الارتقائيّة.
ب - برامج الابستمولوجيا الارتقائيّة الحديثة والابستمولوجيا الارتقائيّة التقليديّة:
عام 1986، كان برادي أوّل من قام بنوع التمييز المفيد ضمن الابستمولوجيا
الارتقائيّة. فتمّ تعيين برنامجين مختلفين، الأول هو ارتقاء الآليّات
الابستمولوجيّة EEM والثاني هو ارتقاء النظريّات الابستمولوجيّة EET.(
يركّز الأوّل على تطوّر الآليات الإدراكيّة في الحيوان والإنسان. أما
الثاني فيحاول وصف ارتقاء الأفكار، النظريّات العلميّة، المعايير
الابستمولوجيّة، والثقافة عموماً عبر استخدام نماذج واستعارات مجازيّة
مستمدة من البولوجيا الارتقائيّة ). ضمن ارتقاء الآليّات الإبستمولوجيّة،
يتمّ تحرّي ارتقاء الإدراك وآليّات المعرفة الإدراكيّة من ضمن التركيبيّة
الحديثة. والتركيبيّة الحديثة هي المثال المعياري ضمن البيولوجيا
الارتقائيّة حول حدوث الارتقاء. وهذا يعتمد على مبدأ الارتقاء عبر الاصطفاء
الطبيعي الذي كان تشارلز دارون أول من حكى به.
أكثر من ذلك، فإنّ نتاجات الارتقاء الإدراكي، كاللغة، العلم، أو
الثقافة، تفهم أيضاً كنتاجات لارتقاء بيولوجي، كما يفترض أنه يمكن أن نجد
أيضاً في ظهورها أو بنيانها مخططاً ارتقائيّاً. والمثال التالي يمكنه إيضاح
هذا: إن ارتقاء لغة أو ثقافة يعتبر جزئياً على الأقل نتيجة ارتقاء
بيولوجي. من هنا، فالآليّات الارتقائيّة ذاتها المستعملة في وصف ارتقاء
الإدراك يمكن تطبيقها أيضاً على نتاجات الإدراك، مثل اللغة أو الثقافة. لقد
قدّم برنامج الـEET على نحو مخصص من أجل النظريّات الإبستمولوجيّة أو
العلميّة. أما الطرق التي تستنتج بها القياسات التمثيليّة بين ارتقاء العلم
من ناحية والاصطفاء الطبيعي من ناحية أخرى فهي متقصّاة ضمن إطار ارتقاء
النظريات الإبستمولوجيّة.
يبدو أن إبستمولوجيين ارتقائيين متباينين ناشطون ضمن الحقول المذكورة آنفاً
وضمن حقول علميّة ما وراء-فلسفيّة، الأمر الذي يجعل من الصعب تحديد
التوكيدات المشتركة التي قدمها جميع الإبستمولوجيين الارتقائيّين. فأنصار
توجّه الـ EEM، على سبيل المثال، يمكنهم أن يعارضوا الفكرة المؤيّدة على
نطاق واسع من أن العلم يحتاج أيضاً لأن يفسّر ضمن الابستمولوجيا
الارتقائيّة، كما يقول أنصار الـEET. ما يقيّد الإبستمولوجيين الارتقائيين
هو فكرة أن النظريّة الارتقائيّة، إلى حد ما، يمكن أن تفسّر سمات للإدراك.
3 – الابستمولوجيا الارتقائيّة والابستمولوجيا الطبيعانيّة:ما الشيء المختلف في الابستمولوجيا الارتقائيّة بحيث أنه يمكن تمييزها
عن كل المحاولات الإبستمولوجيّة الأخرى؟ للإجابة على هذا السؤال، علينا
أولاً أن نموضع الابستمولوجيا الارتقائيّة، وثانيّاً نقومها، وذلك وفق
علاقتها بالأطر الفلسفيّة الأخرى. الابستمولوجيا الارتقائيّة هي جزء من
النزعة الطبيعانيّة. والنزعة الطبيعانيّة بحد ذاتها هي حركة أكبر تؤكّد على
أهميّة سوسيولوجيّة المعرفة، أنتروبولوجيّة المعرفة، والدراسة التاريخيّة
للمعرفة. الابستمولوجيا الارتقائيّة تؤكّد بدورها على أهميّة بيولوجيّة
المعرفة. وإذا ما حددنا أكثر يمكننا القول، إن دراسة الارتقاء البيولوجي هي
الشرط المسبق لكافة أشكال التحريّات ضمن الإدراك. من هنا فهي تفسّر
الارتقاء ذاته كصيرورة إدراكيّة.
أكثر من ذلك، فضمن الابستمولوجيا الارتقائيّة، لا يعود تخيّل المعرفة
والإدراك على أنهما بالضرورة مثل الافتراضيّة أو مثل اللغة أو محددان
بالبشر. فالابستمولوجيا الارتقائيّة بحد ذاتها، تعارض المقاربات الفلسفيّة
التقليديّة للإدراك ( مثل المقاربتين التجريبيّة أو العقلانيّة اللتين
تفهمان المعرفة على أنها مثل اللغة )، لا وتتجاوز إبستمولوجية كوين
الطبيعانيّة. من أجل أن نفهم هذا، نناقش الآن باختصار أولاً الابستمولوجيا
الطبيعانيّة ثم نشرح الفرق بينها وبين الابستمولوجيا الارتقائيّة.
كان كوين أوّل من أدخل مفهوم الابستمولوجيا الطبيعانيّة عام 1969، حيث
أكّد هذا الباحث على أن دراسة العلم والتفكير العلمي لابدّ أن تدور حول كيف
يمكن للمعرفة أن تتقدم، أكثر من ماهية المعرفة بحد ذاتها. لذلك أصرّ على
أنه علينا رفض فكرة فلسفة أولى. وضمن فلسفة أولى، يُفترض أن الفلسفة يمكنها
أن تقدّم مزاعم حول العلم دون استخدام العلوم. فإذا كان على المرء الإفادة
من العلوم، فسوف يفهم هذا على أنه مثل دوران حول النقطة ذاتها. لكن كوين
أكّد على أنه علينا تقصّي الابستمولوجيا من ضمن العلوم الطبيعيّة، وبشكل
أكثر تحديداً، علم النفس.
يقول كوين: " إن كل ما يحتاجه المرء من دليل للوصول إلى صورته للعالم،
في نهاية الأمر، هو تحفيز المستقبلات الحسيّة عنده. لماذا لا يرى كيف
يستمرّ هذا البنيان بالفعل؟ لم لا يكون التوقف عند علم النفس؟". ويقول
أيضاً: " في هذه المرحلة سيكون من الأكثر إفادة أن نقول إن الابستمولوجيا
ما تزال مستمرة في مسيرها، وإن في موقع جديد ومكانة واضحة. الابستمولوجيا،
أو شيء مثلها، تصنّف ببساطة كفصل من علم النفس ومن ثم العلم الطبيعيّ".
تُعرّف الابستمولوجيا باعتبارها ذلك المبدأ الذي يدرس بدقة كيف تبني
أعضاؤنا الحسيّة صورة للعالم. تتضمن دراسة المعرفة التقصّي في المسألتين
التاليتين: ( 1 ): العلاقة بين مدخل الطاقة input العصبيّة والجمل ذات
العلاقة بالملاحظة؛ ( 2 ): تقصّي العلاقة بين الجمل النظريّة وتلك ذات
العلاقة بالملاحظة. من هنا، كما يرى كوين، المعرفة، أو بشكل أكثر تحديداً،
الإدراك، ما تزال تُفهم على أنها مثل اللغة: يُفترض أن مدخل طاقتنا
العصبيّة يُحوّل إلى مخرج طاقة لفظيّة. إن موقف كوين هنا هو شبه سلوكي، لأن
دراسة كيف تتعلّق القدرات العصبيّة باللغة لم تُخمّن. وإلى حد ما فالعلاقة
بين مدخل الطاقة العصبي واللغة يفترض أنها مباشرة.
مع ذلك، فعلم الأعصاب اليوم، أظهر لنا مرّات لا حصر لها أنه على المستوى
العصبي أو الإدراكي، ليس ثمة علاقة مباشرة، وحتماً ليس ثمة علاقة ضروريّة،
بين مقولاتنا categorizations ولغتنا.
أكثر من ذلك، وبسبب علو شأن الإيثولوجيا ethology والإيكولوجيا ( دراسة
السلوك الخارجي للحيوانات في علاقتها مع الأطر الطبيعيّة )، فقد تم توسيع
الإدراك كمفهوم علمي كي يشمل السلوك غير الألسني أيضاً. هنا أيضاً تصنع
الابستمولوجيا الارتقائيّة مدخلها. كان كونراد لورنز ( مع نيكولاس تنبرغن
)، على سبيل المثال، أحد الآباء المؤسسين للإيثولوجيا. فقد أكّد لورنز على
أهميّة المقاربة الإدراكيّة للسلوك، وهو ما يتضمّن أيضاً السلوك الداخلي.
مقابل الابستمولوجيا الطبيعانيّة، لا تفحص الابستمولوجيا الارتقائيّة
فقط العلاقة بين الإنسان، المعرفة شبيهة اللغة والعالم. فكلّ نمط من
العلاقات التي يمكن لعضويّة أن تدخله ضمن بيئتها يُفهم كعلاقة معرفة، بغض
النظر عما إذا كانت هذه العضوية تملك لغة أم لا.
يشير مونز إلى أن ما يجعل الابستمولوجيا الارتقائيّة نسيج وحدها هو فهم
المعرفة كعلاقة إدراكيّة بين عضويّة وبيئتها. الاختباريون على سبيل المثال
فهموا المعرفة على أنها علاقة بين العارف وشيء قابل لأن يعرف عن طريق
الاستقراء، في حين يحدد العقلانيّون المعرفة على أنها علاقة بين العارف
وشيء معروف عبر الاستدلال. وحتى ضمن حركة سوسيولوجيّة المعرفة، لا تفهم
المعرفة من خلال علاقتها بين عضويّة وبيئتها، بل على الأرجح أنها تستوعب
هنا كعلاقة بين عارفين مختلفين. إن ما يجعل الابستمولوجيا الارتقائيّة
مختلفة عن كل المقاربات الطبيعانيّة الأخرى ضمن الفلسفة، هو أنها لا تعتبر
الابستمولوجيا مجرّد دراسة لكيفيّة وصول البشر العارف لأن يعرف ما هو قابل
لأن يعرف. الابستمولوجيا الارتقائيّة تدرس كيف أن المعرفة المتعلقة بالبيئة
يتم اكتسابها عبر الأنواع المختلفة، وأي نوع من آليّات اكتساب المعرفة
تنشأ في العضويّات البيولوجيّة عبر الوقت فتمكّن تلك العضويات من التعاطي
مع مشاكل بيئتها. هذا يعني أنه ضمن الابستمولوجيا الارتقائيّة ليس فقط
الإدراك البشري بل كل أصناف السلوك التي تظهرها العضويات في كافة مستويات
الارتقاء البيولوجي ( من السلوك الغرائزي إلى السلوك الثقافي بل حتى
الانجذاب الكيميائي – أي، التواصل بين الخلايا ) تعتبر وسائل تستخدم
لاكتساب المعرفة. الأهميّة ذاتها تحتلها هذه الآليّات التي تُفهم كمعرفة في
ذاتها ومن ذاتها.
مقابل النظريّة السلوكيّة، العناصر الداخليّة التي تحدد السلوك والإدراك
محتواة ضمن الابستمولوجيا الارتقائيّة. ولأن الارتقاء البيولوجي قاد إلى
صعود وإحراز صيرورات إدراكيّة\معرفيّة مختلفة، يفسّر هذا الارتقاء ذاته
كصيرورة معرفة.
4 - الابستمولوجيات الارتقائيّة:وحدات ومستويات المعركة الاصطفائيّة
.تؤخذ وحدات ومستويات المعركة الاصطفايّة كنقطة انطلاق للتمييز بين
نوعين مختلفين من الابستمولوجيا الارتقائيّة. الابستمولوجيات الارتقائيّة
تعتمد على النظريّة الارتقائيّة لتفسير الابستمولوجيا أو الإدراك. لكن
هنالك اختلافات في ماهيّة الارتقاء عموماً. من هنا فالبيولوجيّون
الارتقائيّون يقدّمون نظريّات ارتقائيّة مختلفة، وأحياناً تكميليّة. توصف
ثلاثة منظورات مختلفة من أجل فهم الارتقاء و الابستمولوجيات الارتقائيّة
التي تنشأ حين تستخدم هذه المنظورات:
آ – ارتقاء من جهة نظر البيئة، الذي يقود إلى مقاربة تقليديّة، تكيفيّة للإبستمولوجيا الارتقائيّة؛
ب – ارتقاء من وجهة نظر العضويّة، والذي يقود إلى مقاربات غير تكيفيّة، بنائيّة؛
ج – ارتقاء من وجهة نظر الجينات، الذي يشرع المطالبة بصيغ اصطفائيّة شاملة.
.كيف بدأت وحدات ومستويات المعركة الاصطفائيّة؟
بدقة شديدة تقول التركيبيّة الحديثة، التي هي المثال القياسي حول كيفيّة
حصول الارتقاء الحيوي، إن الفينوتايب ( العضوية القابلة لأن ترى ) هي وحدة
unit الاصطفاء. هذا الفينوتايب هو إما مختار عند مستوى من البيئة، إذا
كانت هذه العضويّة القابلة لأن ترى متكيفة مع تلك البيئة، أو أن العضوية
تموت، إذا كان تكيفها سيئاً.
مع ظهور نظريّة ما بعد الدارونيّة الجديدة من ناحية، ونظرية النظم من
ناحية أخرى، ظهرت للمرة الأولى في البيولوجيا المعركة المتعلقة بوحدات
ومستويات الاصطفاء، ومن ثم ظهرت ضمن الابستمولوجيا الارتقائيّة. في هذا
النقاش نعرف أن فحوى السؤال الأول هو ما إذا كان ثمة وحدات ومستويات
للارتقاء غير الفينوتايب والبيئة. إن أول من اخترع مفهوم " وحدات الاصطفاء "
كان البيولوجي ريتشارد ليونتن في مقالته التي تحمل الاسم ذاته عام 1970.
أمّا مفهوم " مستويات الاصطفاء " فقد كان أول من وضعه قيد الاستعمال روبرت
براندون، في مقالته التي حملت الاسم ذاته أيضاً عام 1982. مع ذلك فالنقاش
في تلك المسائل يرجع إلى المعارك العلميّة حول احتمالية اصطفاء مجموعة
والتي دارت رحاها في ستينات القرن الماضي بين وليم هاملتون وجورج سي.
وليامز، بل يمكن أن نتلمس آثارها في القرن التاسع عشر حين قدّم هربرت سبنسر
فكرة " استمرار الأنسب " وطبقها على المجاميع البشريّة والمجتمع البشري.
5 – البيئة، البرنامج التكيفي، والابستمولوجيا الارتقائيّة التقليديّة:آ - البرنامج التكيفي:
كان أوّل من أدخل في التداول مفهوم " البرنامج التكيفي " غولد وليونتن
عام 1979 – لكنه لا يحمل توقيع هذين الكاتبين بالذات. يعتبر البرنامج
التكيفي " الاصطفاء الطبيعي قويّاً وقليل الكوابح عليه إلى درجة أن النتاج
المباشر للتكيّف عبر عمليته يصبح العلة الرئيسة لكل ما هو عضوي من صيغ
ووظائف وسلوك تقريباً ".
من أجل فهم هذا، تم تنظيم التمييز بين الأونتوجيني ( تطور العضويّة من
المفهوم إلى الموت ) والفيلوجيني ( ارتقاء النوع ). وفي نظرية لامارك، ليس
ثمة التزام بالفصل بين الصيرورة الأونتوجينيّة والصيرورة الفيلوجينيّة. ضمن
هذا المثال، المعروف أيضاً بوراثة السمات المكتسبة، فالسمات المكتسبة خلال
حياة الفرد يمكن أن تمر مباشرة إلى الجيل التالي.
بظهور مبدأ الاصطفاء الطبيعي عند دارون، بدا ممكناً للمرّة الأولى في
التاريخ التمييز بين الصيرورات الأونتوجينيّة والفيلوجينيّة، بسبب التمييز
القائم بين العالمين الداخلي والخارجي للعضويّة. يرى دارون، أن الوسط
الداخلي للعضويّة يخضع لصيرورات النمو التطوريّة، ضمن أشياء أخرى، والتي هي
بحدّ ذاتها غير خاضعة للارتقاء بالاصطفاء الطبيعي. بالمقابل، فالعالم
الخارجي هو المسرح الوحيد الذي يحدث فيه الارتقاء بالاصطفاء الطبيعي. فيما
يخصّ الوسط الداخلي للعضويّة، فقد استخدم دارون ذاته نظريّة لامارك غالباً.
استخدمها كنوع من التفسير لكيفيّة نشوء تغيّر فردي جديد. ودارون ذاته لم
يفسّر قط الاصطفاء الطبيعي على أنه سبب التغيير؛ فهو في الواقع لم يدر كيف
حصل التغيير. لذلك، لجأ إلى مبدأ لامارك حول وراثة الصفات المكتسبة.
الاصطفاء الطبيعي مصطفى فقط من بين تغييرات معطاة.
تم دمج هذه الأفكار لاحقاً في التركيبية الحديثة. العضويّات تختلف. وهذا
الاختلاف، من ناحية، نتيجة لتجميعات نوعية للمادة الجينيّة التي تحملها
العضويّة، ومن ناحية أخرى، نتيجة الطفرات العشوائيّة الممكنة التي تحدث ضمن
هذه الجينات. يكتسب المرء المادة الجينيّة التي يحملها عبر الولادة، لذلك
ما من طفل يمكنه اختيار شيفرته الوراثيّة. والطفرات الجينيّة التي تحدث
أحياناً، تحدث اعتباطيّاً، فهي عمياء. هذا يعني أن الطفرات أخطاء اعتباطيّة
تحدث خلال استنساخ هذه المادة الجينيّة. المادة الجينيّة التي يحملها
المرء يمكن أن تكون محايدة، تكيفيّة أو سيئة التكيّف من أجل مسيرة " الصراع
من أجل الوجود ". لكن المسألة بعيدة عن هذا المنظور، فالعضويّة لا يمكنها
إطلاقاً أن تؤثّر بالمادة الوراثيّة التي تحملها. يمكن القول أخيراً، إن
البيئة هي التي تصطفي بشكل غير مباشر العضويّات القابلة للتكيّف من خلال
القضاء على تلك غير المناسبة. وهكذا فالتركيبيّة الحديثة تصوّر صيرورة
الاصطفاء هذه على أنها تحدث بين الفينوتايب والبيئة. ويقال إن صيرورة
الاصطفاء ذاتها لا تحدث إلا خارجيّاً: " مستوى " الاصطفاء هو البيئة
الخارجيّة، واصطفاء " وحدة الاصطفاء "، العضويّة، يحدث بشكل مستقل عن
الصيرورات الداخليّة مثل النمو التطوري. وهكذا، يتم تخيّل العضويّة والبيئة
ضمن المقاربة التكيفيّة ككيانين مختلفين يتفاعلان فقط خلال صيرورة
الاصطفاء لكنهما يتطوّران بشكل مستقل كل عن الآخر.
" التكيّف حرفيّاً هو صيرورة مواءمة غرض لمطلب موجود-مسبقاً… العضويّات
تتكيّف مع البئة لأن العالم الخارجي اكتسب صفاته بشكل مستقل عن العضويّة،
التي عليها أن تتكيف أو أن تموت " ( ليونتن ). بكلمات أخرى، تناصر نظريّة
الدارونيّة-الجديدة منظوراً ثنوياً صارماً ( غونتييه ) بين العضويّة
والبيئة: العضويّة تصطفى على نحو مفعول به، أو لا، عبر بيئة فاعلة. لا
تستطيع العضوية أن تؤثّر بفرص استمراريتها أو مواءمتها. لهذا السبب، ووفقاً
لليونتن، يمكن للمرء الدفاع عن الموقف القائل إنه بسبب التأكيد الذي يضعه
هؤلاء العلماء على التكيّف، تفسّر الدارونيّة الجديدة الارتقاء من منظور
البيئة. بالتالي فهم يصفون البئة عبر العضويّة، أكثر من كونهم يصفون
العضويّة ذاتها.
ب – الابستمولوجيا الارتقائيّة التقليديّة:
إن الموقف الأخير شكّل إحدى العقائد الأساسيّة للابستمولوجيا
الارتقائيّة التقليديّة، أي، أن المرء قادر على اكتساب المعرفة المتعلّقة
بالبيئة عبر دراسة العضويّات التي تعيش فيها، لأن العضويات تمثل العالم،
حرفيّاً العالم الخارجي.
ما الذي يعنيه هذا؟ لقد فشلت التجريبيّة المنطقيّة في أمدادنا بعلاقة
غير اعتباطيّة بين العالم واللغة البشريّة. مع ذلك، فالبحث عن علاقة غير
اعتباطيّة بين العالم الخارجي والعضويّات التي تستوطن ذلك العالم استمرّت
من داخل المقاربة التكيفيّة. في هذا الموضع يُفترض أن هنالك عالماً
خارجيّاً لا يتبدّل تتكيف معه العضويّات. والحقيقة أن العضويّات تتكيف مع
العالم الخارجي، ووحدها التي تتكيف تبقى وتتكاثر على المدى الطويل، ومن ثم
يمكن لهذه العضويات المتكيفة أن تخبرنا شيئاً عن البيئة. وعلى سبيل المثال،
يمكن للنملة أن تخبرنا شيئاً عن التربة.
يقدّم القسم التالي مدخلاً إلى الابستمولوجيات الارتقائيّة التقليدية وكيف تطوّرت عن وجهة النظر التكيفيّة للارتقاء.
6 - الارتقاء من منظور العضويّة:حين ينظر إلى الارتقاء من منظور العضويّة، ينشأ لدينا وصفاً بنائيّاً
يقود بدوره إلى مقاربة غير بنائيّة من ضمن الابستمولوجيا الارتقائيّة.
لذلك، تُفحص أولاً المقاربة البنائيّة. ثانياً، تحدد العناصر التي أسقطت من
هذه المقاربة لتطوير المقاربة غير التكيفيّة للابستمولوجيا الارتقائيّة.
آ – المقاربة البنائيّة:
في أعقاب المراجعة النقديّة لليونتن وغولد التي قاما بها للبرنامج
التكيفي، تم استجواب النظريّة الارتقائيّة من منظورات أقل تكيفيّة أيضاً.
وفي معارضتها للوصف التكيفي الصارم، تدافع المقاربة النظرية للنظم عن الوضع
البنائي التالي:
" إن الزعم القائل إن بيئة عضويّة ما مستقلّة سببيّاً عن العضويّة،
والتبدّلات في البيئة هي مستقلّة ولا علاقة لها بالتبدلات في النوع ذاته،
يجافي الصواب على نحو واضح. إنها بيولوجيا سيئة، وكلّ إيكولوجي وبيولوجي
ارتقائي يعرف أنها بيولوجيا سيئة. إن استعارة التكيّف المجازيّة، التي كانت
يوماً موجهاً هاماً لبناء نظريّة ارتقائيّة، هي الآن عائق في وجه فهم فعلي
للصيرورة الارتقائيّة بحيث نحن بحاجة لأن نستبدلها بغيرها. ومع أن
الاستعارات المجازيّة خطرة كلّها، فالصيرورة الفعليّة للارتقاء تبدو مأسورة
بأفضل ما يمكن عبر صيرورة البناء " ( ليونتن ).
عوضاً عن تصوير العضويّات كعناصر منفعلة تخضع للإصطفاء، يقدّم لنا
ليونتن مقاربة أكثر بنائيّة للارتقاء يمكن أن نميّز فيه خمس سمات مختلفة
للعلاقة عضويّة-بيئة.
1 – تحدّد العضويّات بذواتها جزئيّاً أية عناصر من البيئة الخارجيّة
تنتمي إلى بيئتها أو موضعها، وتحدد إلى حد ما هذه العناصر المختلفة
المتعلّق أحدها بالآخر. يمكن لعصير الفاكهة، على سبيل المثال، أن يكون
جزءاً من موطن الفراشة، في حين أن الشجرة ليست كذلك.
2 – ليس فقط تختار العضويّات إلى حد كبير ما هو جزء من بيئتها؛ بل إنها
تؤول حرفيّاً البيئة التي تحيط بها. هذه الصيرورة تسمّى بناء الموئل. وعلى
سبيل المثال، يبني القندس السد الخاص به.
3 – أكثر من ذلك، العضويّات تبدّل على الدوام بيئتها بطريقة فاعلة؛ كل
فعل استهلاك هو فعل إنتاج. إن العضويات المتعلقة بالتخليق الضوئي، على سبيل
المثال، غيّرت الأرض بشكل درامي من كوكب منخفض مستوى الأكسجين إلى كوكب
غني بالأكسجين.
4 – تتعلّم العضويّات عبر الزمن أن تتوقع الشروط الخارجيّة التي تقدّمها
البيئة. وعلى سبيل المثال، بحسب ظروف بيئويّة بعينها، تستطيع حبليّات
معينة أن تنتقل من صيغة جنسية إلى صيغة جنسيّة أخرى. عضويّات أخرى تدّخر
الطعام للشتاء.
5 – أخيراً، وبحسب ليونتن، تعدّل العضويّات إشارات تأتي من محيطاتها عبر
بنائها البيولوجي. هذا يعني أنها تعدّل الإشارات الخارجيّة إلى إشارات
داخليّة التي يمكن لأجسادها التفاعل معها. على سبيل المثال، حين ترتفع درجة
الحرارة، لا تبدأ الجزيئات التي تشكّل العضويّة بالارتعاش. بل تقود إشارة
داخليّة في الدماغ إلى إطلاق هرمونات بعينها لتبريد الجسم فلا يعود أدفأ من
المعتاد.
من هنا، من ضمن المقاربة النظريّة للمنظومات، العلاقة بين العضويّة
وبيئتها تفهم من منظور دياليكتيكي. لا يحدد قدر العضويّة بيئتها الخارجيّة
فقط، بل يمكن للعضويّة، إلى حد ما، أن تحدد بيئتها عبر التفسير وإعادة
التفسير بطريقة فاعلة. من هنا، يوسّع المفهوم " بيئة " ليتضمّن البيئة
الداخليّة حيث الصيرورات الداخليّة المتزنة، المنظمة ذاتيّاً، مسئولة عن
بقاء العضويّة. ولها السبب، يقال إن المقاربة البنائيّة تفسّر الارتقاء من
منظور عضوي.
ب – المقاربة غير التكيفيّة ضمن الابستمولوجيا الارتقائيّة
كان فرانتس فيكتيتس ( 1989 ) أول من أدخل مفهوم المقاربة غير التكيفيّة
ضمن الابستمولوجيا الارتقائيّة. المقاربات غير التكيفيّة ضمن الابستمولوجيا
الارتقائيّة تناصر الرأي القائل إنه من الممكن، إلى حد ما، تقديم نظريّة
التوافق correspondence theory. تقول نظريّة التوافق إن هنالك توافقاً 1 لـ
1 بين البيئة والعضويّات التي تعيش فيها، أو بين النظريّات والعالم. على
سبيل المثال، يمكن للنملة إخبارنا شيئاً عن التربة. من أجل جعل هذا عملياً،
يحتاج الاصطفاء الطبيعي لأن يختزل إلى آليّة تكيّف، أو أن يتم التأكيد
عليه بالحد الأدنى. وعبر آليّة التكيف وحدها يمكن الحصول على توافق كهذا.
في أثر لودفيغ فون بيرتالانفي، وهو أحد مؤسسي نظريّة النظم، تم التأكيد على
أهميّة دراسة العضويّة ككل، بجانب دراسة العلاقة ( التكيفيّة ) بين
العضويّة والبيئة. وضمن نظريّة النظم، يتم تخيّل العضويّات على أنها منفتحة
جزئيّاً، منغلقة جزئيّاً. بمعنى أن العضويات على نحو مستمر تأخذ المادة
والطاقة من بيئتها، وتعطي المادة والطاقة إلى بيئتها، في حين تحافظ هي
ذاتها على " حالة ثابتة ". بعد ذلك، قدّم بريغوجينه ( 1996 ) مفهوم "
البنيانات المتبددة ". الدوامة المائيّة، على سبيل المثال، تحافظ على شكلها
في حين أن الماء التي هي متشكّلة منه، يتبدّل باستمرار. لكن ما أن ينتهي
تدفق الماء، حتى لا تعود الدوامة المائيّة موجودة. العضويّات شيء أكثر من
هذه البنيانات المتبددة. إنها نظم تتمتع بالاتزان بين عناصرها المكونة
homeostatic، لأنها ليست فقط تستطيع أن تتعدّل ذاتياً وتتنظم ذاتياً، بل
تستطيع أيضاً المحافظة على ذواتها في سياق بعينه. وهذا يفسّر سبب قولنا إن
العضويّات هي نظم منفتحة جزئيّاً ومنغلقة جزئيّاً؛ فهي تتلقى المادة
والطاقة من بيئتها وتعطي بيئتها المادة والطاقة. وهي أيضاً تميّز ذواتها عن
تلك البيئة وهي قادرة على بناء بيئتها أيضاً.
كما يوحي المفهوم، تركّز نظرية النظم التطويريّة ( DST )، التي نشأت عن
نظريّة النظم، على الصيرورات التطويرية. إنها تفهم العضويّات على أنها
منظومات محفّزة ذاتيّاً، منظومات قادرة على أن تكون منظمة ذاتيّاً ومحافظة
على ذاتها بذاتها، ليس فقط لأنها تتكيف مع البيئة التي تعيش فيها، بل أيضاً
لأنها قادرة على الحفاظ بذاتها على ذاتها، بل أحياناً رغماً عن البيئة،
بسبب الآليات الداخليّة التي تطورها من أجل البقاء. من هنا، تُفهم هذه
الآليات الداخليّة المتعلقة بالتنظيم الذاتي والضبط الذاتي كعناصر سببية
نحن بحاجة لها كي تكون جزءاً من التفسير المتعلّق بسلوك عضويّات بطريقة
معينة.
ضمن التقليد غير التكيفي داخل الابستمولوجيا الارتقائيّة، التكيّف لا
يعني أن هنالك توافقاً واحد-إلى-واحد مع البيئة. عوضاً عن ذلك، التكيّف
يتضمّن امتلاك القدرة على تبديل البيئة لجعلها قابلة لأن يعاش فيها بالنسبة
للعضويّة، وبالتالي تعزيز البقاء. وهكذا يصبح التكيّف فقط إحدى السمات
التي تحتاج لأن تُدرس، مع المقاربات غير التكيفيّة أيضاً.
" إن المنظور غير التكيفي للإدراك والمعرفة والنسخة غير التكيفيّة
للإبستمولوجيا الارتقائيّة (… ) قائمان أساساً على الافتراضات التالية: ( 1
) الإدراك هو وظيفة النظم الحيويّة الفاعلة وليس الآليّات العمياء التي
فقط تستجيب للعالم الخارجي. ( 2 ) الإدراك ليس ردة فعل على العالم الخارجي
لكنه ينتج عن تفاعلات معقدة بين العضويّة وما يحيط بها. ( 3 ) الإدراك ليس
صيرورة خطيّة لعمليّة تراكم معلومات خطوة فخطوة، بل صيرورة معقدة لإزالة
خطأ متواصلة ".
باختصار نقول، إن الابستمولوجيا الارتقائيّة تعتمد على نظرية نظم
ارتقائيّة نظريّة ليست ضد-تكيفيّة. إنها غير تكيفيّة لأن العالم يتغيّر
باستمرار بسبب العضويّات التي تستوطن فيه. هذا يجعل من الصعب مقاربة
التوافق واحد إلى واحد. وعوضاً عن مناصرة هكذا نظريّة توافق، تطرح المقاربة
غير التكيفيّة نظريّة ترابط. ولأن صيرورات التنظيم الذاتي والضبط الذاتي
هذه واحتماليّة أن تعيد العضويّة بناء بيئتها بشكل متحيّز، العضويّة قادرة
جزئيّاً على خلق موطنها الخاص. تطوّر العضويّات المختلفة مواطن مختلفة
لأنها تنامت بشكل مختلف ولها آليّات داخليّة مختلفة والتي تمكنها من
التفاعل مع العالم الخارجي والتغلّب على مشاكله. هنا، وبحسب فوكتيتس، ليس
من المفيد التساؤل أي موطن أكثر فعليّة أو أكثر توافقاً مع العالم بحد
ذاته، لأن كلّ عضويّة قادرة على البقاء أثبتت أنها ملائمة. لذلك فنظريّة
ترابط منطقي تؤيّد الانطباع الوظائفي عن العالم. ما تتخيّله العضويّة، بحسب
آليّات تخيّلها الداخليّة الخاصّة، على أنه حقيقي، هو حقيقي بالنسبة لتلك
العضويّة في صراعها من أجل الوجود. وحين تكون تلك العضويّة قادرة على
البقاء بسبب الطريقة التي تتخيّل بها الأشياء، تكون قادرة على إنتاج جينات
وإعادة إدخال جيناتها في البركة الجينيّة.
أولاً، لا تمتلك العضويات ببساطة صورة للواقع ( أجزاء منه )، بل تطوّر،
كما سبق وأشرنا، مخطط ردات فعل معيّن… ثانياً، تصبح فكرة العالم-في-ذاته
مهجورة أو على الأقل زائدة عن الحاجة. إن ما يمكن قوله عن العضويّة هو أنها
تتغلّب على مشاكل عالمها الداخلي بشكل مناسب ".
7 – الارتقاء من منظور الجينات:وهكذا فقد أقدمنا على فحص " وجهة النظر الخاصّة بالعضويّات " المتعلّقة
بالارتقاء والتي تدافع عنها المقاربة النظريّة للنظم، وكذلك أيضاً وصف
الارتقاء من " منظور البيئة " كما هي الحال في التركيبة الحديثة. أما
الخيار الثالث والأخير لوصف الارتقاء فهو " منظور عين الجين ". ومنظور عين
الجين مصطلح كان أول من قدّمه ريتشارد داوكينز ( 1976 )، ماشياً في ذلك على
خطى وليامز ( 1966 ).
لقد فتحت هذه المقاربة أبواب النقاش بشأن الدارونيّة الشاملة كما قدّمت
مفهوماً هامّاً حول " المكرِّر "، وهو المفهوم الذي غالباً ما يستعمل ضمن
الاصطفائيّة الشاملة.
يقول داوكينز، إن وحدة الاصطفاء ليست الفينوتايب، بل المكرّر… " أية
كينونة في الكون تصنع عنها نسخاً " وهذا المكرّر، بعكس الوسائط التي تقلّه
مؤقتاً …" غير قابل لأن يموت كونيّاً… المقدمة المنطقيّة هي أنه على أية
كينونة أن تمتلك معدلاً منخفضاً من التبدّل الطوعي، باطني النمو، إذا ما
أريد للأفضليّة الاصطفائيّة لتأثيراتها الفينوتايبية على التأثيرات
الفينوتايبية عند الكينونات المنافسة أن يكون لها أي تأثير هام ".
يحمل المكرّر معلومة من النوع الذي يمكن نسخه. المثال الأهم على ذلك، هو
المادة الجينيّة التي تشفّر إلى صفات بعينها، وفق النتيجة النوعيّة
للنكليوتيدات ( الأحجار البانية للجينات ). فالعضويّات، كما يراها داوكينز،
ليست غير وسائط نقل تؤوي هكذا مكررات حاملة للمعلومة. وعلى المدى الطويل،
وبسبب طول عمرها وخصبها وأمانتها في النسخ، تعيش هذه " الجينات الأنانيّة "
إلى ما بعد مأواها المؤقت. من هنا، فإن داوكينز يؤكّد على المكرّر، لا على
العضويّة المفردة. هذا لا يعني أن المقاربة البيئويّة المميزة للغاية
للتركيبية الحديثة خاطئة، بل وفقاً لداوكينز، يمكن اسنتكمالها برأي الجين
في الارتقاء.
" هنالك طريقتان نستطيع بهما تحديد خواص الاصطفاء الطبيعي. وكلاهما
صحيح: إنهما ببساطة تركّزان على سمات مختلفة للصيرورة ذاتها. الارتقاء ينتج
عن الاستمرار التفاضلي للمكررات.
الجينات مكررات؛ أما العضويّات ومجاميع العضويّات فهي ليست مكررات،
لأنها وسائط النقل التي تتجوّل بها المكررات. واصطفاء وسيلة النقل هو
الصيرورة التي تكون بها بعض وسائط النقل أنجح من وسائط النقل الأخرى في
تأمين بقاء مكرراتها".
إن واجب العضويّة هو أن تسلّم جيناتها بأسرع وأخلص ما يمكن ضمن البركة
الجينيّة. " الاصطفاء في وسيلة النقل هو النجاح التفاضلي لوسيلة النقل في
نقل المكررات التي تركب داخلها ". وكل سلوك تبديه العضويّة والذي هو غير
قابل لأن يختزل لصالح مادتها الجينيّة، من وجهة نظر الجين، مكلف بما لا
طائل منه بل حتى غير ضروري. العضويّات هامة بقدر ما تستطيع نقل جيناتها. من
هنا، ومع أن هذا المنظور يمكن تكملته بالتركيبية الحديثة، إلا أنه يعارض "
وجهة النظر المتعلقة بالعضويّة ".
8 – آليّات الاصطفاء الشامل مكررة وموسّعة:رأينا حتى الآن أن وحدات ومستويات معركة الاصطفاء التي بدأت ضمن
البيولوجيا أطلقت أيضاً معركة إبستمولوجيّة ارتقائيّة فيما يخصّ مختلف
وحدات ومستويات الاصطفاء في العلوم.
إن أحد الأهداف الرئيسة التي طمح إليها الإبستمولوجيّون الارتقائيّون هو
تطوير إطار معياري وتفسيري يؤسس على التفكير الارتقائي، أو على الأقل
مشابه له. إن البحث عن صيغ اصطفائيّة شاملة والذي أطلق منذ القرن التاسع
عشر حُفّز من جديد بمعركة وحدات ومستويات الاصطفاء هذه. أما الهدف من هكذا
صيغة شاملة قياسيّة فهو ليس فقط تفسير الارتقاء البيولوجي، بل أيضاً ارتقاء
العلوم والثقافة والدماغ والاقتصاد…إلخ!
لقد قدّم العلماء والفلاسفة على حد سواء صيغاً مختلفة رموا من خلالها
إلى إطلاق الصفة العموميّة والشموليّة على الاصطفاء الطبيعي والنظريّات
الارتقائيّة الأخرى. أما النقاشات في الحقل فتدور حول مسألة ما إذا كان
هنالك صيغة اصطفائيّة واحدة شاملة والتي يمكن استخدامها لتفسير كل الأنواع
الأخرى من الصيرورات الارتقائيّة ( بما في ذلك ترقّي الثقافة، علم النفس،
علم المناعة، اللغة، إلخ )، أو ما إذا كان هنالك صيغة كهذه يمكنها أن تساعد
فقط على المستوى الوصفي، وهي بالتالي تناظريّة فحسب. في الأسطر التالية،
سوف نتطرّق باختصار إلى أطر ارتقائيّة مختلفة، بحيث أنه يمكن للقارئ المهتم
أن يمتلك فكرة من أين يبحث عن تطبيقات لهذه المخططات.
" الهيكل العظمي المنطقي " للإصطفاء الطبيعي عند ليونتن:
كان ليونتن أول من قدّم صيغة تجريديّة للإصطفاء الطبيعي. فقد طرح أن "
الهيكل العظمي المنطقي " لنظريّة دارون هو " منظومة نبوئيّة قويّة
بالتبدّلات على كل مستويات المنظومة البيولوجيّة ". يميّز ليونتن بين مبادئ
ثلاثة: التغيّر الفينوتايبي، المواءمة التفاضليّة ( بسبب البيئات المختلفة
)، وقابليّة وراثة تلك المواءمة. لقد قدّم ليونتن هذا الهيكل العظمي
المنطقي من أجل تحديد دقيق " للوحدات المختلفة في الإرث الماندلي،
السيتوبلاسمي أو الثقافي ". وقد ميّز بين اصطفاء الجزيئات ( بالنظر إلى أصل
الحياة )، الخلايا العضويّة للخليّة ( بالنظر إلى الارتقاء السيتوبلاسمي
)، ولاصطفاء الخلوي ( أنماط خلايا مختلفة تنقسم بنسب مختلفة، وهو ما يمكن
مقارنته بما يدعى اليوم بالتخلقات التعاقبيّة )، الاصطفاء المشيجي،
الاصطفاء الفردي، الاصطفاء العشيري، الاصطفاء السكاني.
ب – الدارونيّة الشاملة:
يقول داوكنز، إنه من أينما كان منشأ الحياة، لا يمكن تفسير الحياة إلا
باستخدام نظرية دارون المتعلقة بالاصطفاء الطبيعي. وبحسب داوكنز، فإن أهم
صفة في الحياة هي أنها تتكيف مع بيئتها، والتكيّف يتطلّب تفسيراً
دارونيّاً. يقول داوكنز: " أتفق مع ماينارد سميث [ … ] في أن المهمة
الأساسيّة للارتقاء هي تفسير التعقيد، أي، تفسير مجموعة الوقائع ذاتها التي
استخدمها بالي كدليل على وجود خالق ".
العضويات هي " معقد مكيّف " . هذا يعني أن بنياناً معقداً مثل العين،
على سبيل المثال، تطوّر عبر الاصطفاء الطبيعي من أجل الرؤيا. يتم تكيّف
العضويات أو السمات المتعلّقة بالعضويات مع البيئة وكذلك تتطوّر لجعل
التكيّف نحو تلك البيئة ممكناً. وهكذا، عبر التكيّف، تمتلك العضويّة
معلومات حول البيئة. فالاصطفاء يشير إلى " الاصطفاء غير العشوائي لكائنات
مكرّرة تتبدل اعتباطيّاً بسبب آثارها الفينوتايبية ". يمكن تقسيمه لاحقاً
إلى " اصطفاء أحدي " و" الاصطفاء التراكمي ". تشير الأولى إلى شكل ثابت،
صيرورة تحدث على نحو شامل. الثانية تمكّن من التكيّف المعقد، لأن الجيل
التالي يبنى على أجيال سابقة من خلال تلك الأمور مثل عبور الجينات، لكن ليس
فقط عبر هذه الآليّة.
أما أكثر الأشياء أهميّة، بالنسبة لداوكينز، فهو المكرّرات التي يتم
اصطفاؤها. ويبدو أن ثمة سببين لتقديمه المفهوم " مكرر ". الأول، هو رغبته
بتوسيع التركيبية الحديثة عبر إدخال منظور عين الجين. ثانياً، إنه يقدّم
المصطلح مكرر، عوضاً عن جين، لأنه يريد تعميم مبدأ الاصطفاء الطبيعي. أما
وحدة الاصطفاء، برأي داوكينز، فهي المكرر، لكن المكرر تعبير جيني؛ ليست
الجينات وحدها ( الجينات المفردة أو مقادير كليّة من الكروموزومات )، لكن
أيضاً الميمات memes – التي يعرّفها على أنها " … بنى دماغيّة والتي يعتبر
إظهارها " الفينوتايبي " كسلوك أو نتاج صنعي أساس اصطفاؤها [ الثقافي ] "،
هي مكررات. وقد توسّع بلاكمور بعدها بفكرة الميمتيكات.
ج – التغيّر الأعمى والاحتباس الاصطفائي:
يبدو مخطط كامبل صيغة يمكن تعميمها. كل علاقة تدخلها العضويّة مع بيئتها
هي علاقة معرفة. التغيّر أعمى، إما بسبب الطفرات العشوائيّة وإعادة
الترابطات بين الجينات، أو، في حالة تطوّر النظريّات العلميّة، تجارب عمياء
تؤدّي إلى تغيّر أعمى. لا يحدث الاصطفاء فقط على مستوى التفاعل بين
الفينوتايب والبيئة لأن الاصطفاء يحوّل هو أيضاً إلى عمليّة داخليّة عبر
صيرورة اصطفاء منجزة لصالح الغير. وكما يرى كامبل، فإن التعلم عبر التجربة
والخطأ كان على الدوام مرادفاً للتغيّر-الأعمى-و-القدرة على
الاحتفاظ-الاصطفائيّة.
أكّد كامبل في كتاباته الأولى ( 1959-1960 ) على فكرة التغيّر، لأنه فقط
عندما يكون هنالك ما يكفي من التغيّر يكون لدينا تنافس واصطفاء. لكنه بعد
ذلك، راح يؤكّد على نظريته المتعلّقة بالاحتفاظ-الجزئي الاصطفائي: السمات
المتكيّفة لتوها تحتاج أيضاً لأن تحتجز من قبل الجيل الحالي من أجل
المحافظة على التكيفيّة. في العلوم أيضاً، لا بد من الاحتفاظ بالنظريات
المتواجدة وإمرارها إلى الجيل التالي عبر التعليم، أو أن هذه المعلومة
تموت. من هنا فالتقليد ضمن الثقافة أو العلوم، على سبيل المثال، أصبح أيضاً
عنصراً أكثر أهميّة في كتابات كامبل المتأخرة ( 1987 ).
د - الاصطفائيّة الشموليّة:
كان غاري تشيكو ( 1995 ) أول من أدخل مفهوم " الاصطفائيّة الشموليّة ".
ورغم أنه يفضّل المصطلح " اصطفائيّة "، إلا أنه شبه متناسق مع مخطط
التغيّر-الأعمى-و-القدرة على الاحتفاظ-الاصطفائيّة. وفي كتابه الصادر عام
1995، يفسّر تشيكو هذا المخطط على أنه قابل للتطبيق ليس فقط على الارتقاء
البيولوجي، بل أيضاً على ارتقاء ونمو كل من المعرفة، الحصانة، وتنامي
الدماغ، التفكير والثقافة. وبرأي تشيكو، الاصطفائيّة هي النظريّة الوحيدة
التي يمكنها أن تفسّر تناسب العضويّة مع بيئتها. وعبر التاريخ، مبدأ
العناية الإلهيّة ومبدأ التعليمية اتخذا أيضاً لتفسير هذا التناسب، لكن لا
يمكن لغير الاصطفائيّة تفسير آليّة التكيّف.
هـ - التكرر، الاختلاف والتفاعل البيئوي:
كان ديفيد هول أول من أدخل نظام التكرّر، الاختلاف والتفاعل البيئوي،
عام 1980، كنوع من النقد لفكرة دوكينز المتعلّقة بالمكرّرات ووسائط النقل.
وبرأي دوكينز، العضويّات مجرّد وسائط نقل تتلاءم وقتيّاً مع الجينات
الأنانيّة التي تركب داخلها والعضويّة تستطيع بالفعل أن توازن مع أعمال
جيناتها. تختلف نظريّة هول عن نظرية دوكينز، لأن الأولى تعتبر أن العضويّات
يمكنها أن تظهر سلوكاً غير قابل لأن يختزل إلى جيناتها. وعلى صعيد أكثر
عموميّة، قدّم هول فكرة المفاعل من أجل إكمال رأي دوكينز. وهكذا، فقد أعاد
هول أساساً تقديم الافتراض العام عند التركيبيّة الحديثة من أنه ما يتفاعل
مع البيئة هو العضويّات لا الجينات. لكن يمكن لفكرة التفاعل أن تعمم أيضاً.
إن أحدث وصف لهذه الصيغة هو ما قدّمه كل من هول، لانغمان، وغلين.
إذا أردنا للاصطفاء أن يحدث، لا بد من توافر شروط ثلاثة: التكرار،
التغيّر، والتفاعل البيئوي. يعتمد التكرار على التفاعل بين العضويّة
وبيئتها. والصيغة التي قدمها الباحثون الثلاثة لا بدّ أن تنطبق بالتساوي
على البيولوجيا، علم المناعة والسلوك الفاعل، مع أنها لا يجب أن تتطابق مع
نظريّة الاصطفاء الب