المستقبل والاقتصاد في الدراسات المستقبلية* د. قاسم محمد النعيمي
تتسم عادة الدراسات المستقبلية بتحليل المعطيات بالإستناد إلى الواقع
واتجاهات الأحداث من جهة، ومن جهة أخرى تحتاج إلى طريقة ومنهجية ذات طابع
دقيق وموضوعي.
إنّ الغاية الأساسية لمثل هذه الدراسات هو استجلاء للأغراض، والبحث في
تحقيق الأهداف من أجل الاستفادة من القيم الاجتماعية والثقافية وذلك بعد
ترجمتها إلى دراسات عملية، واختيارات متنوعة وممكنة التطبيق.
ولو طرحنا على أنفسنا السؤال التالي، إلى أين وصلت الدراسات المستقبلية؟
هذا السؤال الجدير بالاهتمام لقد مر على هذه الدراسات أكثر من نصف قرن،
ولكن مازال من الصعوبة بمكان التكهن بدرجة نجاحها وأهميتها، ولكن مع ذلك
هناك التحليل والدراسة والتعرف على تطوراتها المقبلة.
إن تقدم العلوم والدراسات في مجالات البحث اصبح أمراً لا مناص عنه، حيث تم
إدخال الأساليب الكمية باستخدام الحسابات الالكترونية، والتي أصبحت السمة
المميزة لضبط صلاحية المؤشرات ولتجسيم الرؤى.
لقد آتت الدراسات المستقبلية أكلها في مجالات كثيرة وفي أغلب دول العالم
نجاحاً باهراً في المجالات المدنية والعسكري على حد ئواء وخاصة مع تعدد طرق
وأساليب التحليل الكمي كما هو الحال في علم بحوث العمليات، والذي أثبت
فعاليته في أداء إدارة المنشآت الاقتصادية والعسكرية، وترشيد السياسات
المستقبلية. وتتوج هذا النجاح بما وصل إليه التقدم العلمي في ثورة
المعلومات، وباستخدام الأجيال المتقدمة للحسابات الالكترونية. بالإضافة إلى
ما وفرته وسائل الاتصال ونقل المعلومات الأمر الذي ساعد على تبادل كم هائل
من البيانات والمعطيات المتوفرة. ساعد ذلك أيضاً على توفير السياسات
الحكيمة والرشيدة في صنع القرار. ساعدت الدراسات المستقبلية في تحقيق
وصولها إلى النتائج المرجوة منها، من خلال إصلاح المؤسسات الاقتصادية على
وجه العموم في تحديث بياناتها المنطقية، مع الأخذ بعين الاعتبار الاحترام
التام لنظم القيم القائمة، وتأمين الحرية في اختيار الأشخاص المعنيين.
وللأسف الشديد لا نسعى إلى فهم الدراسات المستقبلية والأخذ بها إلا عندما
نتعرض لمأزق ما، أي نسعى إلى ذلك، كما يقال في المثل الشعبي: "عندما تقع
الفأس بالرأس" أي عندما ترغمنا الأزمات على إيجاد الحلول وغالباً ما تأتي
الحلول لتبرر الماضي عوضا عن ابتكار المستقبل (أي مستقبلية وقتية). أو
نستنجد بالدراسات المستقبلية عندما يصبح الواقع مرير لا يطاق، وذلك من أجل
العيش على الأمل والهروب من الحاضر. وهذا ما أطلق عليه الباحثون مثل
الاستاذ المهدي المنجرة: (بالدراسات التحذيرية)، وهي عادة قريبة من
الديمغوجية. في حالات أخرى تستخدم الدراسات المستقبلة لتوجيه الحركات
الفكرية نحو التصورات المستقبلية دون الحاضر ودون الأخذ بعين الاعتبار أولي
الأمر ونطلق عليها: (الدراسات المستقبلية الموجهة "الانتهازية") على
المستوى الوطني أو مستقبلية الاحتكار على المستوى العالمي.
لابدّ من الإشارة إلى أخطر علامات التخلف التي تعاني منها دول العالم
الثالث ألا وهو الاستخفاف في تقدير الأهمية الاستراتيجية للمستقبل. وانه
كما أشار أحد الباحثين المهتمين في الدراسات المستقبلية في أبحاثه: (دائماً
يصعب التفسير والإقناع بقاعدة بسيطة تقتضي انه كلما ازداد خطر وحدة
المشاكل المصيرية من الجوع والبؤس والجهل والمرض والمشاكل في المجالات
الصناعية والتجاري....) ازداد تعلق الحل الحقيقي المناسب للحاضر بنظرة
شمولية للمستقبل.
- نشأت وتطور علم المستقبل:
إنّ الفكر البشري عمد منذ قدم العصور على تأمل الماضي والحاضر من خلال
محاولة ما هو كائن غداً، والاهتمام باستطلاع المستقبل. لم يغيب مطلقاً عن
ذهن قدماً، الفلاسفة والمؤرخين حتى إن الأديان السماوية ذكرت بالماضي
وخفاياه وتحديث عن المستقبل وعن اليوم الموعود (يوم الحساب). العرافة
والكهانة والتنجيم برعت فيه الديانات على عمومتها وكذلك الحضارات القديمة
(الفرعونية والبابلية واليونانية والهندية والصينية... الخ.). يمكننا القول
أن هذا الاهتمام الذي أولته البشرية عبر أجيالها المتلاحقة من خلال الإرث
الذي تشكل، أفرز ما يسمى بعلم المستقبل. يمكننا القول بشكل عام أن المستقبل
أصبح علماً يدرس في بداية القرن العشرين، حيث برز إلى الوجود حسب الحاجة
الملحة لمعرفة المستقبل.
وهذا العلم أخذ منحى متخلفاً عن تراث العصور السابقة الفكرية والأدبية
والعلمية والدينية، ومعطيات بعيدة عن الأوهام والشعوذات والتخيلات، ولكن قد
يكون مقترن نوعاً ما بالخيال والعاطفة والحدس. وبات اليوم الباحثون أكثر
تفهماً ووعياً بأهمية الزمن وأدركوا أن المشكلات اليوم لها جذور في الماضي
وان تلك المشكلات لا تنشأ من لا شيء بين ليلة وضحاها وإنما تتكون تدريجيا
ولا يلحظها الإنسان العادي على الغالب.
لقد اختلف الدارسين والمحللين التاريخيين لتحديد البداية العلمية في
الاهتمام بالمستقبل كعلم. منهم من يعود بذلك إلى نهاية القرن الخامس عشر
الذي شهد ظهور كتاب (توماس مور)، والذي عرف باسم (اليوتبيا)، حيث طرح تصور
مستقبلي للمجتمع المثالي والذي يخلو من كافة أشكال الاضطهاد والظلم
والأنانية. ثم تلاه في نهاية القرن السادس عشر كتاب الفيلسوف الإنكليزي
الشهير (فرانسيس بيكون) والمعروف باسم (أطلنطا الجديدة)، وفيه طرح أفكار
مستقبلية للعالم، رسم فيه مجتمعه العلماني الجديد والقادر على تغير العالم
والسيطرة على الطبيعة وتحقيق مستويات أفضل للبشرية في العيش الرغيد والوفير
وذلك باستخدام الأساليب وطرق العلمية.
بينما هناك من يقول إن نشأت هذا العلم تعود إلى العالم الاقتصادي الإنكليزي
ذائع الصيت توماس مالتوس (1766-1843) الذي عرض في دراساته الشهيرة عن نمو
السكان رؤيته المستقبلية. والتي تتسم بالتشاؤم لحل التناقض الاجتماعي
الناتج عن الثروة الصناعية والمتمثلة بالتمايز الطبقي في ظل سيطرة
الرأسمالية في المجتمع البريطاني وقتئذٍ. حيث طالب مالتوس بالتخلص الجامعي
من الفقراء والطبقات المعدومة كحل للأزمة بينما الحكومة البريطانية وجدت
الحل في التوسع والسيطرة على الدول الأكثر فقراً وهكذا توسعت في قارتي آسيا
وأفريقيا، مما أدى إلى تحسين وضع الطبقة العاملة الفقيرة عندهم على حساب
الشعوب الأخرى. وبذلك تم وضع حل للصراع الدائر بين الطبقة العاملة الفقيرة
والطبقة الرأسمالية البريطانية.
كذلك لابدّ من الإشارة إلى مساهمة الروائي الفرنسي جون فيرن (1828-1903)
الذي استطاع في كتاباته الخيالية للأطفال والكبار أن ينفذ بصيرة حادة إلى
مجاهيل المستقبل حيث طرح توقعات وتنبؤات مثيرة للعقل والوجدان من خلال
مؤلفاته والتي أشهرها (حول العالم في ثمانين يوماً) وأيضاً كتابه الشهير
(عشرون ميلاً تحت سطح الماء).
وهناك أيضاً الكتاب والروائيين الكثير والذين تخيلو المستقبل فعلى سبيل
المثال: العالم والطبيب والفلكي الفرنسي ميشيل نوسترداموس (1503-1566)
والذي جاء في كتابه (مائة عام القرن) عام 1555 حيث يحتوي على معلومات
مستقبلية تهم الشعوب الأوروبية منها: أنه قال: "سوف يولد شخص حربي، وسيموت
من الناس بسببه بالثلج، واسمه سيلمع ويبقى على طول العهود لامعاً". وأيضاً
ورد عنه في العالم الذي يحدث في الكسوف سبع مرات سيكون في ذلك في شهر
اكتوبر (تشرين الأول) وستحدث ثورة عظيمة، وهذا ما حصل في روسيا، تغير واقع
الحال على الأرض وبين الشعوب. وكذلك ذكر عنه في كتاباته سيظهر فطر كبير
وسام يسبب الموت للكثير من الناس ويقضي على معالم الحياة، وهو ما يعتبر
توقعاً للانفجار تشرونوبل في اوكراينا (الفضائية الروسية OPT1 برنامج شيء
لا صدق).
أما العالم والفلكي الألماني ألبرت فيليكفا (1193-1280)، جاء عن لسانه إن
الإنسان سوف يطير إلى القمر بعد 700 – 800 سنة من وفاتي، ومعروف إن الإنسان
طار إلى القمر في عام 1961 عندما طار يوري قرقارين رجل الفضاء السوفيتي.
وأيضاً من أقواله إن الملائكة سوف تنزل من السماء إلى الأرض كما كانت تنزل
قبل وجود الحياة على الأرض، وراح يؤول ذلك إلى ما يسمى اليوم بالصحون
الطائرة ومن الكتاب المعاصرين، الكاتب الإنكليزي هيربرت جورج ويليز
(1886-1946) حيث قدم إضافات بارزة في تأصيل الاهتمام العلي بالدراسات
المستقبلية. وذلك من خلال أعماله، وقد جاء في كتابه اليوتبويا (1909)
والتوقعات الجديدة 1905 وروسيا السديمة (1920) بعد لقائه مع لينين في روسيا
وشكل الأشكال المستقبلية (1933) وجميعها تدور حول استكشاف حياة الأجيال
المقبلة. حيث إن كتاباته جاءت في أعقاب الحرب العالمية الأولى وانتهت
بالحرب العالمية الثانية، عبر من خلالها عن قناعاته بأن البشرية قد خسرت
السباق بين الكارثة والتعليم، وربحث الكارثة السباق بصورة نهائية.
لابدّ من الإشارة إلى أن الكثير من الكتاب المشهورين والذين تأثروا بالتقدم
العلمي والتقني وبالثورة الصناعية وبدءوا من خلالها يخاطبون المجتمع، حيث
أطلقوا العنان للتخيلا العلمية – (وأقرب مثل إلى ذلك ما يعرض على
الفاضائيات المحلية العالمية منها من أفلام الكرتون التي تمس المستقبل تحت
عنوان غزو الفضاء) – من أمثال: جلفيرن، كارل تشابك، ستانيسصلاف ليم
(بولوني) ري بيردبري ايزيك عظيموف، ا. كلارك، ر. شكلي، أ.ت. تولستوي،
ستروفاتسكي، ستاتيسلاف ليم.
إنّ الدراسات المستقبلية بدأت تكتسب معناه العالمي والاصطلاحي في أوائل
القرن العشرين، حيث اقترح العالم س. كولم جيلفان عام (1907) إطلاق اسم (أصل
روسي مصطلح (Futurology) ويقابلها بالفرنسي (Prospective) الذي ابتكره
جاست ون برجيه عالم المستقبليات الفرنسي.
- الدراسات المستقبلية.. بين الحلم والحقيقة:
من خلال السرد التاريخي للأحداث والوقائع يتضح لنا جلياً أن الدراسات
المستقبلية بدأت تحظى بالاهتمام والانتشار وتتجه بعيداً عن الجزئية في
تصورها للمستقبل مع بدء الستينات حيث شهدت هذه الحقبة من الزمن ظهور العديد
من الدراسات المستقبلية في الدول الغربية. وكما أبدت أجهزة التخطيط في
الدول الاشتراكية السابقة اهتماماً ملحوظاً بمثل هذا النوع من الدراسات،
انطلاقاً من الحرص على توفير قاعدة أعرض للمعلومات وخلفية أطول في النشاط
التخطيطي. بلغت الدراسات المستقبلية نشاطاً ملحوظاً في كافة مجالات البحث
العلمي ودخلت في نشاطات كافة القطاعات الهامة لمناحي الحياة، مثل: قطاع
المال والأعمال وقطاع التعليم وقطاع الموصلات وقطاع الاتصالات وقطاع الطاقة
والكهرباء وغيرها من القطاعات الهامة. أما في الدول الغربية فقط نشط وبشكل
وضح إلى درجة أن بعض زعماء الدول الغربية عند عجز مستشاريهم بتقديم النصح
والعون المقنع لحل بعض القضايا الساخنة والهامة، لجؤا إلى الاستعانة
بالعرافين والمنجمين. وهذا ما اقدم عليه كلا من الرئيس ريغان إبان حكمه،
والرئيس بوش الذي اعتمد على رأي العرافين في شن عدوانه على الشعب العراقي.
هذا ما نشرته الصحف الأمريكية والعالمية آنذاك، وما تم عرضه على الفضائية
الروسية OPT1 ضمن البرنامج المعروف (شيء لا يصدق)، والبرنامج كشف تداول هذه
الظاهرة بين زعماء الدول الغربية على العموم.
وعلى العموم يمكننا القول أن المستقبل هو حصيلة نتائج لأحداث وعمليات
تراكمت من خلال التغيرات النابعة من داخل المجتمع أو الوافدة عليه من
الخارج. أي أن المستقبل ليس هو بالقدر المحتوم ولا يمكن التنبؤ به. ولكن
المستقبل ترسمه الشعوب بنفسها، ويتوقف ذلك على الطرق التي تسلكها الحكومات
في قيادة شعوبها.
الأمر الذي يعني وجود العديد من الاحتمالات لمستقبل أي شعر من الشعوب في
لحظة زمنية معينة ولذلك لا بد من محاولة البحث الصحيح وسلوك الطريق السليم،
وإذا كان من الممكن أن التعدد صور المستقبل فهذا عادة يكون مرتبطة بمعيار
الحرية الذي وصل إليه المجتمع من أجل رسم مستقبلية بنفسه.
عندما يحاول مجتمع ما وضع أهدافه المستقبلية فإن صورة المستقبل لن تكون بالضرورة مطابقة لتلك الأهداف وذلك للأسباب التالية:
1) الإرادة الجماعية في مختلف مستوياتها تحد من إطلاقها قيود كثيرة مثل:
أ. حجم الموارد الطبيعية المتاحة.
ب. العلاقات القائمة على أساسها البنى الاجتماعية والسياسية والحضارية
السائدة في المجتمع قد يكون هذا القيد داخلي أو خارجي وافد على المجتمع
نتيجة علاقاته المتعددة.
2) صانع القرار الذي اتخذ قراره باسم مجتمعه وماهية الصالح التي يمثلها
ودرجة وعيه بها، ونتائج قراراته المتشابكة وأثر ذلك في المدى البعيد على
الداخل والخارج.
3) هناك بعض القيود التي يتعذر تجاوزها في المستقبل المنظور (الاتفاقيات الدولية)، والبعض الآخر يمكن تجاوزه من خلال الدراسة والبحث.
هذه المعطيات توضح لنا مدى أهمية الوعي بقضية المستقبل الذي لم يعد من
الأمور المقتصرة على الغيب فقط، والتي يدعي معرفتها فقط الكاهن والمشعوذين،
بل عن علم المستقبل يدرج في قائمة الأبحاث العلمية القابلة للدراسة
والتعليل والتحليل، وهذه هي سمات العلوم بشكل عام. إذ فلما لا يكون لدراسة
علم المستقبل قواعده ومناهجه وأهدافه الخاصة به؟
إنّ الدراسات المستقبلية والمنهجية التي تنظم هذه الدراسات والمدارس
المعاصرة وموقعها وموقفها من البحوث المستقبلية قد تطورت بشكل سريع وملموس
وذلك بفضل مجموعة العوامل الموضوعة مثل:
1) الكم الهائل من المعلومات والمعطيات الذي توفر لدى الباحثين كنتاج طبيعي للثورة العلمية والتقنية الحديثة والمعاصرة.
2) التغيرات الكيفية التي طرأت على أساليب معالجة المعلومات التي تجسدت في
التطور الهائل الذي شهدته وتشهده ثورة صناعة التكنولوجيا للمعلومات وسرعة
الاتصالات، وهذا يزيد من دور الكمبيوتر في معالجة البحوث وإدارتها وتكوين
بنوك المعلومات واليوم يشهد العالم الشبكات الدولية لتراسل المعلومات
والمعطيات، ونقل الكم الهائل من البيانات.
3) ظهور علم تحليل النظم الجديد وهو أحد فروع علم الرياضيات المعاصرة،
والذي ظهر نتيجة الحاجة الماسة إليه إبان الحرب العالمية الثانية، وقد أحرز
تقدماً ملحوظاً فيما بعد في دراسة العلوم الاجتماعية والاقتصادية
والسياسية والإدارية بشكل موسع. وساعد الدارسين والباحثين لعلم المستقبل
الاستعانة التامة بأحدث الأساليب للتحليل الإحصائي للجزئيات في إطار كلي
متكامل ومترابط. وبذلك أصبحت الدراسات المستقبلية الشغل الشاغل لكافة
الجهات الرسمية وغير الرسمية، مما أكسب الدراسات المستقبلية الصفات
التالية:
أ. تم اعتماد الجهد الجماعي حيث شكلت فرق متكاملة من أجل البحث في مشكلة
ما، وعلى الأغلب تمول هذه المجموعات من قبل الحكومات أو الهيئات الدولية أو
الشركات متعددة الجنسية.
ب. الدراسات الدولية التي بدأت تأخذ المنحى الدولي العالمي مثل ذلك وضع
العالمان الأمريكيان فورستر ويمدوز مهمة بناء أول نموذج للنمو في نهاية عام
(1972) بتكليف من نادي روما الذي يهتم بمثل هذه الدراسات. وأيضاً سادت
فترة قبل انهيار الاتحاد السوفيتي بازدياد كثافة الدراسات المستقبلية وعلى
سبيل المثال: دراسات المقارنة بين الشرق مع الغرب والشمال مع الجنوب
والعالم الثالث ومستقبله ومعظم هذه الدراسات كانت تضع نماذج كلية للعالم
وظواهره الاقتصادية والاجتماعية. ظهرت أيضاً دراسات من الدراسات
الإستراتيجية، وكذلك يوجد مركز الوحدة العربية للدراسات المستقبلية والذي
مركزه بيروت، لا بد من الإشارة إلى مركز الدراسات الإسرائيلية عن المستقبل
(الدراسة اقتصاديات الشرق الأوسط). حيث يعتبر هذا المركز من أهم المراكز
العلمية التي تهتم بدراسة كيفية السيطرة على مقدرات وممتلكات الشعب العربي،
لتوظيفها في إحكام السيطرة على المنطقة بأسرها.
ج. عقدت الكثير من المؤتمرات الدولية والندوات والتي اهتمت بوضع الأسس
المنهجية للدراسات المستقبلية من خلال توظيف التراث المنهجي والمعرفي
والعلمي في أغلب مجالات التطبيقية والإنسانية والاستعانة بالمنهج التكاملي
والأدوات البحثية التي تكفل أكبر قدر من الموضوعية والدقة في تحديد أطر
ومستويات التحليل في الدراسات المستقبلية.
تجدر بنا الإشارة إلى أنه يدرس في الجامعات الأمريكية ومعاهدها أكثر من 415
مقرراً في الدراسات المستقبلية. أين جامعتنا ومعاهدنا من هذا المؤشر
الهام؟
- اختلاف المفاهيم والمصطلحات:
لقد اختلفت المفاهيم والتسميات الأساسية في علم المستقبل والسبب في ذلك
كونه علم حديث ولم تتبلور بعد مصطلحاته وتسمياته. وهذا عائد إلى أنه في كل
مجتمع له معياره الخاص في تصنيف العلوم. بينما الواقع أن علم المستقبل يخضع
لقوانين العلوم البحتة كالرياضيات والاحتمالات والإحصاء والتي من خلالها
نتوصل إلى نتائج يقينيهز إذاً علم المستقبل هو العلم الذي يتناول الأحداث
التي لم تحدث بعد وذلك خلال فترات زمنية لم تحل بعد، وعندما تحل سوف تصبح
حاضراً، ولذلك يختلف علم المستقبل عن المستقبل لان المستقبل لا يوجد في
الذهن والخيال والخطط التي نرسمها له، وهي أمور غير مؤكدة.
أضف إلى ذلك فعلم المستقبل يخضع للقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية
مما يؤدي إلى ظهور بعض الاختلافات والتي تتعلق بالمفاهيم التي يدور حولها
علم المستقبل مثل: التخطيط بأنواعه (قصير الأجل – متوسط الأجل – طويل
الأجل) – التنبؤات – الاسقاطات – الاستشراف.
أما التخطيط بالتعريف: هو التدخل الواعي لإعادة صياغة الهياكل الاقتصادية
والاجتماعية من خلال مجموعة من السياسات المتكاملة والمتاحة للسلطة
المركزية والتي تملك إمكانية التطبيق الفعلي من إدارة وتنفيذ ومتابعة.
أما تعريف التنبؤات: فهي تأتي من الفكرة القائلة بأن المستقبل أمر محدد
مسبق والمطلوب هو الكشف عنه فقط، وهنا لا بد من التنويه إلى أن التنبؤات
أقرب إلى مجال الممارسات الفردية منه إلى الممارسات الجماعية (الدولية أو
مجموعة من الدول). والتنبؤات تأخذ بعين الاعتبار عن رسم صورة تفصيلية
للمستقبل التشابكات المختلفة.
وأما الإسقاط: وهو عبارة عن المفهوم الذي يستخدم في تحليل الدراسات قصيرة
المدى الزمني لاستخلاص الاجاهات العامة والعلاقات الكمية المستقاة من
متابعة ماضي الظاهرة المدروسة.
أما الاستشراف: فهو عبارة عن اجتهاد علمي منظم يرمي إلى صوغ مجمعة من
(التنبؤات المشروطة) التي تشمل المعالم الرئسية لمجتمع أو مجموعة من
المجتمعات خلال فترة زمنية لا تزيد عن عشرين عاماً. وعادة يكون الاتسشراف
بعيداً عن أمور التكهن والاعتبارات الشخصية وهو يخضع للأساليب العلمية التي
تقدم على تحليل الماضي والحاضر وتنفيذ العوامل والمتغيرات المؤثرة. وهذا
يعني أن الاستشراف العلمي يتوقف على كم ونوع المعرفة العلمية المتوفرة عن
الواقع للظاهرة المراد الاستشراف بها.
أما بالنسبة لعلم المستقبل كمصطلح فقد ساد ردحا من الزمن مصطلح
(Futurology) علم المستقبل في أغلب الدولة الغربية والمرتبطة بالتقدم
العلمي والتكنولوجي في استشفاف صورة المستقبل، أما اصطلاح التنبؤ
(Prognosis) فقد راج استخدامه في مجموعة الدول الاشتراكية سابقاً والمقصود
به توفير خلفية عريضة للمعلومات المستقبلية اللازمة من أجل التخطيط
المستقبلي المركزي طويل الأجل.
- كيفية البدء في الدراسات المستقبلية:
من الملاحظة في الوقت الحالي الاهتمام الواسع الذي حظيت به الدراسات
المستقبلية حيث حققت الكثير من التقدم والتوسع في الجانب النظري والعلمي،
ولكن لم تصل إلى مرحلة الكمال فهي مازالت مسعى علمياً بالنسبة للكثير من
الباحثين والعلماء الاقتصاديين والاجتماعيين والسياسيين وغيرهم، وكذلك لم
تزل منهجيته وأدواته البحثية موضع جدل وخلاف بين شتى المدارس والتيارات
العلمية وخاصة فيما يتعلق بالجان بالاجتماعي. وفي رأيي يمكن تصنيف العوامل
المحددة لمنهجية الدراسة المستقبلية بشقيها الكلي والجزئي بالأمور التالية:
1) إطار الدراسة.
2) توافر القاعدة المعلوماتية وقاعدة البيانات في مجال الدراسة.
3) المنحى الزمني للدراسة.
4) الدراسات النظرية في منحى الدراسة.
5) الانتماء الايدلوجي والقومي للباحث في طبيعة الدراسة.
6) التقدم العلمي والتقني وتأثيره في منحى الدراسة.
سنتناول هذه العوامل بالدراسة والتحليل:
أولاً: تحديد إطار الدراسة المستقبلية
يتحدد إطار الدراسة اياً كانت بالنواحي التالية:
أ. مضمون محدد (تعريف واضح لأهم الموضوعات المدروسة).
ب. منهج واضح المعالم، أي رسم سياسة ومنهجية واضحة من أجل الوصول إلى الهدف بدون عناء وتكاليف باهظة.
ج. الاعتماد على القوانين والأحكام الكلية القادرة على تفسير جزئيات الظاهرة المدروسة.
ثانياً: توفير القاعدة المعلوماتية في مجال الدراسة
أي يجب الأخذ بعين الاعتبار التوظيف الكامل والاستفادة القصوى من البيانات
المعطيات المتوفرة عن الدراسة المطروقة، مع الاهتمام بكل التفاصيل وأدقها،
وبكل المعلومات المتوفرة قدر الإمكان. ومن أجل الاستفادة القصوى من
البيانات والمعلومات لا بد من تصنيفها وتبويبها، وجعلها على شكل بنك
للمعلومات.
ثالثاً: المنحى الزمني للدراسة
يعتبر البعد الزمني من أهم القضايا التي تميز الدراسات المستقبلية، حيث أن
العلماء والباحثين يعرفون حق المعرفة أن الظواهر لم تتشكل دفعة واحدة، وأن
أي ظاهرة قد مرت عبر مراحل زمنية كثيرة أي هناك بعد تاريخي. ولذلك يعتبر
الزمن أساسياً للظاهرة العلمية أو الاجتماعية أو الاقتصادية المدروسة.
من أبرز السمات المنهية للدراسات والبحوث المستقبلية: هو الزمن بأنواعه
(القريب – المتوسط – البعيد) أي يختلف المدى الزمن يطبقاً لطبيعة الظاهرة
المدروسة وتباينها سواء كانت ظواهر إنسانية أو اجتماعية أو اقتصادية. أي
الزمن الذي يعتبر منظوراً بالنسبة لحالة ما (المناخ، الصحة) لا يعتبر
مستقبلاً منظوراً بالنسبة (للتعليم، العادات، الفن)، ويؤثر المدى الزمني
للتنبؤ بمستقبل الظاهرة المدروسة على الإطار المنهجي والإجرائي للدراسات
المستقبلية.
لقد اختلف الباحثون في تحديد الإطار الزمني وقد تفاوت ذلك من الشهر الواحد
إلى ما وراء المنظور أي يمتحد إلى الخمسين عاماً أو أكثر. هذا يعتبر تصنيف
(مينسوتا) لجمعية المستقبليات الدولية بولاية مينسوتا الأمريكية من أهم
التصنيفات التي تأخذها معظم الدراسات المستقبلية على اختلاف مدارسها وعلى
مختلف الاتجاهات الاستطلاعية أو الاستهدافي أو المعياري أو الذين يمزجون
بين النمطين.
وهذا التنصيف يأخذ الشكل التالي:
أ. المستقبل المباشر ويمتد من عام إلى عامين منذ اللحظة الراهنة.
ب. المستقبل القريب ويمتد من عام إلى خمسة أعوام.
ج. المستقبل المتوسط ويمتد من خمسة أعوام إلى عشرين عاماً.
د. المستقبل البعيد ويمتد من عشرين عاماً إلى خمسين عاماً.
هـ. المستقبل غير المنظور ويمتد من الآن إلى ما بعد الخمسين عاماً.
رابعاً: الدراسات النظرية في منحى الدراسة
المقصود بذلك هو الاستفادة من الدراسات السابقة ومن القوانين والأحكام التي
تتحكم في الظواهر والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والكيفية التي تعمل
بها وإمكانية توظيفها لخدمة الإنسان والمجتمع. ويجب مواكبة عملية تطوير هذه
القوانين والأحكام مع التغير الزمني وعادة تكون هذه المواكبة باتجاهين
رأسياً وأفقياً، أي في بحث الظواهر نفسها واتجاه التوسع والامتداد لدراسة
وبحث الظواهر الجديدة.
خامساً: الانتماء الأيدلوجي والقومي للباحث في طبيعة الدراسة
في رأيي أن الانتماء الأيدلوجي للباحث له انعكاساته في توجيه الأبحاث
بالاتجاه الذي يحقق أيدلوجية الانتماء عنده، فمثلاً من ينتمي إلى إحدى
الدول الصناعية تختلف تصوراته عن الدراسات المستقبلية عن الباحث الذي ينتمي
إلى إحدى دول العالم الثالث. صحيح كل ما يردده العلماء والباحثين في كثير
من المجالات العلمية بأن العلم لا وطن له إلا أنه الانتماء الأيديولوجي
والقومي يوجه الباحث بالاتجاه السائد وكذلك يفرض شروطه الخاصة في مجالات
العلوم الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، بالطبع لهذا ما يبرره في كل
مجتمع بحيث يكون التأثير عادة على مجمل الخطوات المنهجية والإجرائية
للدراسة، وكذلك تأثيره في تحديد الأولويات البحثية طبقاً للأهداف المنشودة
أو المتوقعة من الدراسة المستقبلية ذاتها.
سادساً: التقدم العلمي والتقني وتأثيره في منحى الدراسة
يعتبر التقدم التقني ثورة حقيقية في مجال المعلومات والبيانات ومن المعروف
أنه كلما زاد نصيب الظاهرة المدروسة من المعلومات والبيانات كلما كانت محط
أنظار الباحثين وكان نصيبها من الدراسة أكبر، وبات اليوم استخدام
التكنولوجيا الحديثة مع الانترنيت يفيد في سرعة الإنجاز ويوفر الطرق
الحديثة والعملية في سير الدراسة والتعامل مع الظاهرة المدروسة، ويساعد على
أن تكون الدراسات متكاملة بين العالم، أي جعل الباحثين كمجموعة عمل واحدة،
بحيث من يدخل في مجال البحث من جديد يبدأ حيث انتهى الآخرون.
على الرغم من كل المصاعب فإن الدراسات المستقبلية تعتبر قد قطعت شوطاً
كبيراً ومع ذلك لم تصل الدراسات المستقبلية إلى حلول للتحديات التي تواجه
عالمهم وعالم الغد. لقد بدأت أغلب الهيئات الحكومية والدولية الاقتصادية
منها والاجتماعية تهتم بمثل هذه الدراسات أخذت بعين الاعتبار عامل الزمن في
أنشطتها المستقبلية غالباً لا يستخدمون بعض المنهجيات نظراً لصعوبة
تقنياتها وغير المؤلفة التي تقف حجر عثرة أمام الباحثين في علم المستقبل.
- أسلوب العلمي للدراسة والتحليل:
برأيي حتى نحصل على أسلوب متقدم، لا بد من التجديد الاجتماعي وذلك من خلال
المشاركة الجماعية في البحوث والدراسات. اليوم نجد تحسن في قبول التقنيات
الحديثة وأصبح الجمهور يستوعب ذلك ولكن ما زال هناك الاحتكار التجاري
والعلمي بطغيان على السياسات قصيرة المدى. أما الاستبيانات والاستطلاعات
والدراسات التي تعالج التحولات السارية والنظم الثقافية والاجتماعية فما
تزال نادرة في مجتمعاتنا (دول العالم الثالث)، بينما أخذت بها في كثير من
الأحيان في الدول المتقدمة. وخاصة عندما تكون الموضوعات المطروقة تمس
القضايا الاجتماعية بشكل مباشر مثل الصراع الاجتماعي والأيدلوجي والقيم
والفنون. فهي تحتاج إلى تحليل كيفي أولاً، ومن ثم لا بد من إجراء التحليل
الكمي إذا كان ذلك ممكن. ويجب ألا يغيب عن الذهن مجموعة الاعتراضات
والملاحظات التي تواجه أساليب التحليل الكيفي، من أهمها الافتقار إلى الدقة
والموضوعية بسبب اعتمادها على الأحكام الانطباعية والذاتية واتسامها
بالجزئية وإسقاط بعض المتغيرات أو إهمالها المتعمد أثناء الدراسة والتحليل.
فضلاً عن ذلك صعوبة تكرار الأبحاث الكيفية في أغلب الأبحاث التي تعتمد على
الأساليب الكيفية في التحليل.
أما التحليل الكمي: فهو عبارة عن تطبيق الأساليب والطرق الرياضية
والإحصائية الأكثر اختصاراً ودقة في تحليل الظواهر المدروسة. أصبح هذا
الاتجاه الشغل الشاغل للعلماء والباحثين لدراسة الظواهر المستقبلية في
مختلف مجالات الحياة ولكن كما أشرنا أعلاه فإن في بعض الظواهر مثل التحليل
الاجتماعي والتاريخي، نرى أن التحليل الكمي يعزل الحقيقة الاجتماعية عن
مسارها الجدلي، والباحثون يثبتون هذه الظواهر في لحظة ما ثم يتنبئون
بمسارات معينة لهذه الظاهرة بناء على عملية تثبيت متعسفة، مفترضين أن
العلاقات بين العوامل والمتغيرات هي علاقة دائمة وثابتة عبر الزمن. وبالطبع
مثل هذا الافتراض هو افتراض خاطئ بسبب تناقضه مع قانون الصيرورة والجدل
الذي لا يستثني منها أي ظاهرة حية في هذا الكون.
من أجل الاستفادة القصوى من البحث العلمي لا بد من الجمع بين الأسلوبين
وعلى الباحث أن يدرك أي نوع من التحليل هو الأنسب للظاهرة المدروسة، ولأنه
في الكثير من الأحيان الفصل بينهما يؤدي إلى تشويه الظاهرة المدروسة. لذلك
علينا مراعاة بعض الاعتبارات، أثناء عملية الاختيار ما بين التحليل الكمي
والتحليل الكيفي منها:
1) موضوع البحث وطبيعة الظاهرة المدروسة: هناك بعض الظواهر تسترعي من
الباحث اعتماد أحد أساليب التحليل الكمي أو الكيفي نظراً للتفاوت في طبيعة
الظاهرة المدروسة، مثلاً موضوعات الصراع الاجتماعي والوعي الثقافي والحضاري
على الغالب تتطلب التحليل الكيفي أولا، ومن ثم النظر في إمكانية التحليل
الكمي. أما في الدراسات السكانية فإن الأنسب مباشرة تطبيق التحليل الكمي،
ولكن هذا لا يعني ألا يأخذ بعين الاعتبار التحليل الكيفي.
2) نوع الدراسة المستقبلية: تحديد أي الأشكال من الدراسات المستقبلية يجب تطبيقه في البحث المطروق.
3) أبعاد الدراسة المستقبلية: فإذا كانت الدراسة تهتم بثبات وتوازن الظاهرة
المدروسة فإن هذا يستلزم التركيز على الأبعاد القابلة للفصل والتجزئة
والعد، أما إذا ركز الباحث على التحليل الديناميكي، فإن التحليل الكيفي هو
الأسلوب الأكثر ملائمة.
4) مصادر البيانات: للبيانات دور أساسي وذلك حسب طبيعة البيانات سواء أكانت
البيانات ثانوية أو بيانات أولية، وإذا كانت أولية حسب طريقة جمعها
وتصنيفها، فإذا كنا نهتم بتحليل المضمون نحتاج إلى التحليل الكيفي. أما إذا
كنا في الاتجاه المعاكس بالنسبة للبيانات غير المعرفة يمكن استخدام
التحليل الكمي.
- أشكال الدراسات المستقبلية:
بات اليوم في ظل التقدم العلمي والحضاري إمكانية استخدام النماذج الرياضية
في دراسة المسائل المستقبلية. وهذه الدراسات تبدأ من النواة الأولى للوحدة
الإنتاجية في الدراسات الاقتصادية ومن الفرد في دراسة المجتمع وتنطلق من
دراسة أمن القطر في دراسة أمن الوطن.
لكن لا بد من الإشارة إلى أنه مهما تعددت النماذج واختلفت أنواعها لا تخرج
عن كونها أداة تجريبية صممت لتحقيق هدف بحثي محدد، وإن مدى الاستفادة منها
يعتمد بدرجة كبيرة على وعي الباحث وحدود استخدامها ومدى تمثيلها للواقع.
ولا يغيب عن الذهن أن الدراسات المستقبلية بطبيعتها تحتوي على العديد من
المتغيرات الكيفية والتي يصعب تمثيلها رياضياً، كلما امتد البعد الزمني
للتحليل. ولذلك كان استخدام النماذج الكمية يقتصر على صحة اختيار الدراسات
لتقيم الآثار المترتبة على السياسات والقرارات البديلة، لكن اليوم وبفضل
التقدم العلمي الذي وصل إليه المجتمع وتطور العلوم الاجتماعية والاقتصادية
والتطبيقية أصبح من السهولة بمكان تمثيل المتغيرات الكيفية رياضياً
واعتمدها في تصميم النماذج.
والنماذج عادة تجرد الواقع وتعزل الظواهر وتدرسها بمفردها وهذا ما يصفها
بعدم الشمولية. وكذلك أن النماذج القياسية تحتاج إلى كم هائل من البيانات
والمعطيات والتي تتفاوت دقتها فيما بينها، وهنا يتجلى بشكل واضح ضرورة
استخدام علم الإحصاء التطبيقي لتوثيق وتبويب وتصنيف البيانات المتوفرة.
يمكننا التمييز بين أربعة أشكال للدراسات المستقبلية من حيث طبيعتها
ومصداقيتها ودرجة وثوقيتها ونوعين من الدراسات المستقبلية من حيث التحليل
الكمي والكيفي. وتختلف هذه الأنواع أيضاً من حيث منهجيتها في البحث
المستقبلي. سنتناول هذه الأشكال بالدراسة والتحليل على الشكل التالي:
1) الدراسات الاستطلاعية: (Exploratory) هذا الشكل من الدراسات يعتمد على
إيجاد تقاطعات العلاقات السائدة وفق نموذج ما، معتمد في ذلك على القاعدة
الموضوعية للمعلومات ذات الطابع الكيفي والكمي. وهذا يتطلب الاستعانة
بأساليب البحث العلمي المتقدمة كالاعتماد على العلوم التطبيقية والإنسانية
مثل العلوم التالية: الرياضيات ونظرية الاحتمالات والإحصاء الوصفي
والتطبيقي وعلم تحليل النظم وبحوث العمليات ونظرية القرارات وعلم الاجتماع
وعلم النفس ونظرية القياس وغيرها. حيث يركز هذا الأسلوب على ضرورة الكشف عن
المؤثرات للظاهرة المدروسة وتحديدها وصولاً لاستطلاع آفاقها المستقبلية
المحتملة. يبدأ هذا النوع من الدراسة على تحديد المشكلة بشكل دقيق ومن ثم
محاولة الوصول إلى التفاصيل والتعرف على كل متغير من المتغيرات المؤثرة
للظاهرة المدروسة، وصولاً لتحديد الأفق المستقبلي المحتمل، ومن ثم تقويم
هذه الاحتمالات لاتخاذ القرار السليم.
2) الدراسات الاستقصائية: (Intuitive) يستند هذا الشكل من الدراسة إلى
الخبرة الذاتية للباحث وهي عادة تنبثق عن رؤية حدسية تنعكس ذاتية الفرد بما
يمتلك من خبرات ومهارات في استقصاء المستقبل مستنداً في ذلك إلى قاعدة
موضوعية من المعلومات التي تمكنه من استقراء المستقبل.
3) الدراسات القياسية: (Normative) يعتمد هذا الشكل من الدراسات على
النوعين السابقين حيث يجمعهما معاً وفق احدث الأساليب العلمية في مجال
العلوم التطبيقية والرياضية والإنسانية. يحدد الهدف من الدراسة بشكل مسبق
ثم يصاغ على شكل يسمح بتحديد الخطوات الأساسية الكفيلة بتحقيق أهداف
الدراسة المستقبلية للظاهرة المدروسة. ويتميز هذا النوع بالتدخل الواعي من
أجل تغير المسارات المستقبلية للظاهرة المدروسة في ضوء الأهداف المرسومة
بشكل مسبق.
من أبرز الأساليب المستخدمة في الدراسات القياسية الاستفادة القصوى من
الاستشارات الذهنية والجماعية وهذا الأسلوب أشار إليه العالم الأمريكي
أولاف هلمر عام 1959 ونسبة إلى أسلوب دلي. وينص هذا الأسلوب على أخذ
الاستشارات من أهل العلم والمعرفة كل على حدة بدون معرفة الآخرين. وذلك
نظراً لأن الباحثين لا يستطيعون صياغة معارفهم بشك قوانين علمية. وإنما
تقدم آراؤهم كاستشارات علمية فنية. كذلك هذا النوع من الدراسة يستخدم ما
يعرف بأسلوب شجرة العائلة (Method Family tree) ويعتمد هذا الأسلوب على
تحديد الهدف المطلوب تحقيقه مستقبلياً بالنسبة للظاهرة المدروسة وهذا يمثل
قمة الشجرة ثم الانتقال إلى المعطيات الحالية التي تمثل فروع هذه الشجرة.
وهنا تتجلى إمكانية البحث في البدائل المختلفة لكل فرع من الفروع حتى نتوصل
إلى الصورة الكاملة للبدائل المستقبلية المطلوب تحقيقها.
ولكن هذا النوع من الدراسة يواجه بعض الصعوبات في الاستخدام، بالإضافة إلى
ضرورة توفر جهد مكثف ذو دقة وشمولية كاملة للإلمام بكافة الاحتمالات التي
تتكون الواقع الراهن للظاهرة المدروسة وترتيبها وفقاً لأهميتها في تحديد
السياسات والإجراءات اللازمة لتحقيق كل هدف من الأهداف الفرعية، ثم ربط هذه
السياسات في صورة متكاملة تتضمن كافة العناصر والمؤشرات.
4) دراسات النموذج الكامل: (Feedback Model) هذا الشكل من الدراسات يأخذ
بعين الاعتبار كل المزايا التي استعرضنها في النماذج السابقة، حيث يأخذ ومن
وجهة أخرى البحوث القياسية التي تولي أهمية خاصة للقدرات الإبداعية التخيل
والاستبصار. ويأخذ بالأسباب الموضوعية التي سوف تفرض لتغير المسارات
المستقبلية لها.
ما زالت هذه الأشكال من الدراسة ما بين أخذ ورد ما بين الباحثين من أجل أي
الأساليب انجع. ولم تزل مكان بحث وجدل في ضوء تطور العلوم الاجتماعية منها
والثقافية والإنسانية والتقدم العلمي للثورة المعلوماتية والتي يشهدها
الزمن المعاصر.
أما الدراسات المستقبلية من حيث التحليل الكمي والكيفي. تتجلى في أن
التحليل الكيفي يتعرض إلى الدراسات الاجتماعية أي التي تمس الظواهر
الاجتماعية مثل الصراع الاجتماعي والأيدلوجي والقيم والفنون. هذه القضايا
تحتاج إلى التحليل الكيفي أولاً من ثم يمكن إجراء التحليل الكمي عليها.
ولكن يجب ألا يغيب عن أذهاننا مجموعة الاعتراضات والملاحظات التي تواجه
أساليب التحليل الكيفي، ومن أهمها الافتقار إلى الدقة الموضوعية بسبب
اعتمادها على الأحكام الانطباعية والذاتية واتسامها بالجزئية وإهمالها لعض
المتغيرات أثناء التحليل. وفي كثير من الأحيان هذا النوع من الدراسة غير
قابل للتكرار وهذا يؤثر على مصداقية الدراسات المستقبلية التي تعتمد على
هذا النوع من الدراسة. أما التحليل الكمي: فهو الاعتماد على المتغيرات
الكمية بصورة تسمح بإدراك الواقع وتحليله وتأمل المستقبل معتمدين في ذلك
على أهم وأنجع الأساليب الرياضية والإحصائية.
- علم المستقبل ودراسة الاقتصاد:
علم الاقتصاد كغيره من العلوم يحظى بقسط وافر من اهتمامات علم المستقبل
وخاصة مع بداية القرن التاسع عشر حيث وجه الباحثين اهتمامهم إلى وضع
النماذج الرياضية التي تحاكي المستقبل وتسعى إلى استشراف المستقبل من خلال
وضع النماذج الرياضية. وكان من أوائل الذين بدأوا في تطبيق الدراسات
المستقبلية في الاقتصاد، فيشر عندما نشر كتابه عن القوة الشرائية للنقود
وكذلك تجلى ذلك في أعمال هنري شولتز من خلال كتابه قياس الطلب أما الإحصائي
فريش فقد أوجد نواة علم جديد أطلق عليه مصطلح الاقتصاد القياسي
Econometrics في عام 1926 كذلك ظهر في القرن التاسع عشر الكثير من الأعمال
ذات الطابع المستقبلي كالعمل المقدم من قبل الألماني انكل ارنست (1821 –
1896) والذي يعتبر من أوائل من وضع القوانين الخاصة بالدخل والاستهلاك في
ضوء تحليل ميزانية الأسرة. كذلك الاقتصادي الإيطالي باريتو 1923 الذي وضع
قانونه الخاص بتوزيع الدخول.
أما كارل ماركس فقد بين في كتابه رأس المال أهمية القيمة المضافة وما هو دورها في المستقبلي في تطوير الاقتصاد في بلد من البلدان.
وفي أثر الحرب العالمية الثانية على وجه الخصوص ظهر جلياً الحاجة الماسة
لتطور دراسة علم الاقتصاد مستقبلياً وذلك من خلال الاهتمام في دراسة
التحليل الكمي وعلى وجه الخصوص دراسة السوق. وفي الفترة من 1930 إلى 1933
تأسست جمعية دولية للاقتصاد القاسي واتخذت من الولايات المتحدة الأمريكية
مقراً لها وبدأت بإصدار مجلة الاقتصاد القياسي والتي ما زالت تصدر إلى
يومنا هذا.
- النتائج والتوصيات:
استهدفت هذه الدراسة تعريف الباحثين والمثقفين بأهمية الدراسات المستقبلية
اليوم في ظل التقدم العلمي والتكنولوجي، مؤكداً على أنه مهما تعددت الأنواع
والأشكال والمصطلحات فإن للدراسات المستقبلية هدف واحد ألا وهو استخدام
المعلومات والمعطيات المتوفرة وبكثرة في محاولة تحليل الواقع واكتشاف
المستقبل لان الإنسان بطبه فضولي منذ الأزل يحاول توقع مستقبله ومستقبل
مجتمعه من كاف النواحي. وحاولت قدر الإمكان تعريف الباحث كيفية البدء في
الدراسات المستقبلية، وبينت له أهمية هذه الدراسات في مجمل نواحي الحياة
الاجتماعية والاقتصادية.
ومهما اختلفت المصطلحات والمفاهيم فعلم المستقبل هو علم المستقبل الذي
علينا اللاحق به، والأخذ بزمانه للالتحاق بالقافلة. ولا بد من الاهتمام في
المبادئ الأساسية التي تعتمد عليها أية دراسة: إطار الدراسة، توافر القاعدة
المعلوماتية وقاعدة البيانات للدراسة، والفترة الزمني للدراسة، الاهتمام
بالدراسات النظرية السابقة في منحى الدراسة، مع الأخذ بعين الاعتبار
الانتماء الأيدلوجي والقومي للباحث في طبيعة الدراسة، والأخذ بمنتجات
التقدم العلمي والتكنولوجي وانعكاس ذلك في منحى الدراسة.
لا بد من اختيار الشكل المناسب لأي دراسة مستقبلية، فلك نوع من الدراسات
المستقبلية شكلها الذي يناسبها. هل نستخدم التحليل الكيفي؟ أم التحليل
الكمي؟ وما هي المنهجية المستخدمة في الدراسة؟ دراسة استطلاعية أو دراسة
استقصائية أو دراسة قياسية أو دراسة النموذج الكامل. المستقبل يجري من
حولنا ونحن في المجتمع العربي بين مبالين وغير مبالين، أي ننظر إليه بعين
واحدة والعين الأخرى مغلقة تماماً باتجاه هذا العلم. لذلك لا نرى في وطننا
العربي إلا عدد قليل من المراكز المهتمة في الدراسات المستقبلية لذلك لا بد
من تفعيل المراكز القائمة، وإحداث مراكز أخرى ذات فعالية مقارنة مع مركز
الدراسات الإسرائيلي الذي يؤمن للصهاينة الأمن والاستقرار المستقبلي، بينما
يقلق العرب الذي يشمون في الظلام وغيرهم يمشي في النور.
أما لو ألقينا نظرة في مناهج جامعاتنا ومعاهدنا، لوجدنا أن هذا العلم مغيب
تماماً عن الساحة، قد نجد أن هناك مقرر يمس هذا الجانب أو قد لا يكون
مطلقاً. لذلك لا بد من أخذ ذلك بعين الاعتبار في مناهج جامعتنا ومعاهدنا
مقارنة مع 415 مقرراً يدرس في الجامعات الأمريكية