الليبيون يحتفلون بالنصر
الكلام الوردي الذي سُمع من المتكلمين وهم في بروجهم العاجية يرسمون
الواقع ببريق الكلمات وخداع العبارات، لا يوافق الواقع الحالي الذي يخيم
على البلاد، وإن تبدو الأمور الآن في هدوء نسبي.
يؤكد ذلك ما يفعله “اصحاب الفيل” في طرابلس وما يقوم به الجنوبيون من منغصات.
لكن منسق المجلس الوطني الانتقالي في بريطانيا جمعة القماطي في قراءته
لما جرى في بنغازي.. من احتفال تحدث فيه رئيس المجلس الانتقالي مصطفى
عبدالجليل وعدد من الشخصيات، يبدي تفاؤلا كبيرا، حيث قال إن: “هذا يوم
سيسجله التاريخ، لأنه يوم التحرير الحقيقي، ليبيا كتب لها في القرن الحديث
يومان: يوم 24ـ12ـ1951 وكان يوم الاستقلال، وميلاد دولة ليبيا الحديثة.
واليوم 23ـ10ـ2011 وهو يوم التحرير من حكم القذافي الاستبدادي الشمولي الذي
استمر 42 عاما”.
هناك كلام ثقيل في خطاب عبدالجليل منها دعوته للحمة الوطنية، وهذه
اللحمة الوطنية التي تحدث عنها حطمها الثوار، ومن دون وعي منهم بتمثيلهم
بجثة رأس النظام المنهار.
وقد أحدث ذلك شرخا بين قبيلتين أو بالأحرى بين مدينتين مهمتين هما سرت
مسقط رأس زعيم النظام المنهار ومدينة مصراتة. والمجلس الوطني الانتقالي
يعلم ذلك جيدا. وكان في امكانه تلافي ما حدث وتنبيه الثوار مقدما حول
حساسية هذه المسألة.
كان في إمكان قادة ليبيا الجديدة ألا يسمحوا لهذا الطاغية، أن يلقي بظله
مرة أخرى عليها ويجعلها رهينة الثارات والانتقامات القبيلة. لكن يبدو أن
هذا الرجل استطاع أن يخدع قادة ليبيا الجدد حتى في طريقة موته.
فعرض جثته بهذا الشكل المزري سيجعل من هاتين المدينتين ساحة “وغى” للاقتتال لا تنتهي إلى قيام الساعة.
فالمنطق القبلي لا يعرف معنى الطاغية، ومعنى المتجبر ولكنه يعرف معنى
الدم. فلو تدارك المجلس الوطني هذا الامر لكانت اللحمة الوطنية التي تحدث
عنها رئيس المجلس، في أزهى صورها. لقد جاءت دعوة رئيس المجلس الانتقالي
الليبيين للتسامح وحقن الدماء وتجنب الانتقام وضرورة التزام القانون متأخرة
جدا. وعبث بعض الثوار بهذا القانون.
وصمة عارما حدث للقذافي بعد مقتله أثار كثيرا من الانتقادات التي طالت الثوار
والمجلس الانتقالي. هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية أكدت تأييدها
للدعوة الرامية إلى إجراء تحقيق من جانب الأمم المتحدة في ملابسات مقتل
العقيد الليبي.
وقالت: ”أؤيد تماما إجراء هذا التحقيق من جانب الأمم المتحدة، كما أؤيد
أيضا دعوة المجلس الوطني الانتقالي الليبي ذاته إلى إجراء تحقيق بهذا
الصدد”.
وأضافت: ”أن إجراء مثل هذا التحقيق سوف يساعد عملية الانتقال الحافلة
بالتحديات في ليبيا والتي سوف تقود في النهاية إلى تحقيق المصالحة الوطنية
مع الأطراف الليبية ومن بينها مؤيدي النظام السابق الذين لم تتلوث أيديهم
بالدماء”.
في لندن رأت صحيفة “ديلي تلغراف” ان “إعدام” القذافي عقب القبض عليه “وصمة على جبين حكام ليبيا الجدد.
عبدالجليل يعلن من بنغازي تحرير ليبيا
وأشارت الصحيفة لتصريح وزير الدفاع البريطاني فيليب هاموند حول مقتل
القذافي فقالت: ” إن تصريحات وزير الدفاع البريطاني تعكس مخاوف دول الغرب
التي دعمت المجلس الانتقالي من أن القذافي تعرض لما وصفته بـ” العدالة
السريعة”.
ونقلت عن هاموند: ” إنها بالتأكيد ليست الطريقة المثلى لتنفيذ العدالة
وليست أيضا الطريقة التي رغبنا فيها.. الحكومة الليبية الجديدة يجب أن تفهم
أن سمعتها في المجتمع الدولي تلطخت بسبب ما حدث”.
من جهته، انتقد أندرو ميتشل، وزير التنمية الدولية، مقتل القذافي قائلا:
“لقد كانت لحظة ارتباك واضح جدا، وكنت أفضل لو أنه كان يواجه العدالة سواء
في محكمة ليبية أو في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، ولكن من الصعب
بالنسبة لنا في بريطانيا أن نضع أنفسنا في موقف الثوار، وأولئك الذين
شاركوا في القبض على القذافي وأعتقد أن أفضل الحسابات كانت تلك التي تأتي
من الليبيين أنفسهم”.
ترضية الإسلاميين كما ان رئيس المجلس أراد ان يرضي الإسلاميين في خطاب مرتجل، حينما أشار
إلى أن الشريعة الإسلامية ستكون مصدر سنّ القوانين في ليبيا وستلغى جميع
القوانين التي تخالفها.
ورئيس المجلس لم يكن مضطرا لهذا الأمر، لأنه لم يكن في جلسة لمناقشة
الدستور، ولكنه كان يحتفل بإعلان التحرير والانتصار. وكان الأحرى به أن
يقول كلاما عابرا.
لكن القماطي يرى، عطفا على ما أعلنه رئيس المجلس من أن الشريعة ستطبق في
ليبيا: “إنه يجب ألا يقرأ في هذا الأمر الكثير. لأن جميع الدساتير العربية
تنص في المادة الثانية منها على أن الشريعة هي المصدر الاساسي للتشريع،
وبالتالي هو تحصيل حاصل أن أي دولة مسلمة، وبخاصة ليبيا لأنها دولة مسلمة
بالكامل، ولا يوجد فيها أي أقليات دينية أخرى، وبالتالي شعب مسلم ولابد أن
تكون جميع القوانين والتشريعات منسجمة مع الشريعة الإسلامية، ولا تتعارض
وتتناقض معها، وما قيل هو مجرد تحصيل حاصل ولا يحمل بعدا جديدا أو شيئا
جديدا طرأ على ليبيا”. وعما إذا كان الأستاذ عبدالجليل يريد ترضية
الإسلاميين بهذا؟ أكد القماطي أن “هذا ليس بالضرورة، ربما تعكس شخصية مصطفى
عبد الجليل نفسه كرجل متدين ورجل يعتز بدينه واسلامه، ولكن قضية أن
الشريعة هي مصدر التشريع هذا شيء من الثوابت التي نص عليها الدستور السابق
عام 1951. ومؤكد أن أي دستور قادم سينص عليها كذلك”.
لكن عبدالجليل لم يكتف بترضية الإسلاميين من أن الشريعة ستكون المصدر
للتشريع، ولكنه خاطب ودّهم مرة ثانية حينما أشار إلى رغبة السلطات الجديدة
في إنشاء بنوك إسلامية وإلغاء الفائدة عن القروض الاجتماعية.
لا أحد يعلم من هذه السلطات الجديدة، من انتخبها، ثم ألا تنتظر هذه
السلطات حتى يزكيها الشعب؟ أم أن البلاد سيؤول حكمها إلى دكتاتوريين جدد،
بعد أن ظلت ترزح تحت الدكتاتورية طيلة 42 عاما؟
إنه أمر محزن أن يعتلي رئيس مجلس مؤقت وليس منتخبا، وليست له في الواقع أية سلطات، ويقول كلاما يوحي فيه بأنه الآمر الناهي!
إن الليبيين، وبعد أن تخلصوا من حاكم مستبد، لا يمكن أن يسمحوا بأي حال من الأحوال، أن يحكموا حكما شموليا آخر.
كما أثار رئيس المجلس النساء في ليبيا من خلال حديثه عن تعدد الزوجات،
حيث أكد أن أي قانون ساري المفعول ويعارض الشريعة، مثل قانون تحديد عدد
الزوجات، سيتم تعطيله.
اعلان عبد الجليل أثار كثيرا من الحبر بخاصة عبر شبكات التواصل
الاجتماعي “فيس بوك و تويتر” التي رأت أن الاعلان جاء استثناء لنصف المجتمع
واعلانا لـ”عبودية” المرأة التي ضحت مثلها مثل الرجل خلال الثورة وطالها
ما طال غيرها فكان جزاؤها “ضرّة” تنغّص عليها حياتها بعد أن نغّص عليها
اعلان عبد الجليل و “صحبه” فرحتها بالتحرير.
المرأة الليبية.. جزاء سنمّار
حنين إلى الملكيةإن الاستعدادات كانت تجري على قدم وساق لتغيير النظام في ليبيا قبل ثورة
17 من فبراير بشهور، وكانت تحسب هذه النشاطات شيئا من الخبل والجنون، لأن
زعزعة نظام القذافي ودكّه، وبخاصة بعد ارتماء هذا النظام في أحضان الغرب،
لم يكونا إلا أمنية غير قابلة للتحقيق.
فقبل شهر من هذه الثورة كنت أعالج هذا النشيد الوطني وترجمته إلى اللغة
الانجليزية، إضافة إلى معالجة بعض الزيارات التي قام بها ولي العهد السنوسي
الأمير الحسن الرضا إلى الولايات المتحدة وترجمتها.
ولكن عندما حمل شباب ليبيا علم الاستقلال منذ اليوم الأول للثورة، وظهر
العلم في صور شتى، تبين أنه كان هناك حراك لا يكل لزعزعة نظام القذافي
والإطاحة به. وفعلا كانت نتيجة هذا الحراك، القضاء على القذافي ونظامه.
النشيد بعد العلم ظهر وردد، وكأن ليبيا رجعت فجأة أكثر من أربعة عقود إلى الوراء وولدت من جديد.
فبعد خلاف وجدال بين قادة الثورة الجديدة في ليبيا، ظهر النشيد الوطني الليبي مجددا، وأنشد في حفل الإعلان عن تحرير ليبيا.
بيد أن النشيد (يا بلادي) خلا من فقرته الثالثة التي تقول:
حَـيِّ إدريسَ سَلِيلَ الفاتِحين
إنهُ في ليبيا رَمزُ الجِهادّ
حمَلَ الرّايَةَ فينا باليمين
وتَبَعناهُ لتحرير البلاد
فَانثَنَى بالمُلكِ والفتحِ المُبين
ورَكَزنا فوقَ هاماتِ النِّجاد
رايةً.. حُرّةً….. ظَلّلَتْ بالعِزِّ أرجـاءَ الوطن
لـيـبـيـا لـيـبـيـا لـيـبـيـا
وتعقيبا على هذا يقول منسق المجلس في لندن: النشيد الوطني الحالي وكذلك
العلم الحالي لا علاقة لهما بالنظام الملكي السابق في ليبيا، وقد نص عليهما
الدستور الليبي في عام 1951. وهما رمزان مرتبطان باستقلال ليبيا، وميلاد
ليبيا الحديثة، وليسا مرتبطين بأي نظام سياسي معين.
عبد الجليل الساعديعبدالجليل الساعديعبدالجليل
الساعدي كاتب صحافي وإذاعي، عمل كاتبا ومقدما للبرامج الثقافية واللغوية.
اشتغل في بعض الصحف منها: (الشرق الأوسط) و(الزمان) و(المشاهد) الصادرة في
لندن. كان يكتب عمودا أسبوعيا في الزمان. يدرّس في بعض الكليات والجامعات
البريطانية. نال شهادتي الدكتوراه والماجستير من لندن، وأتم دراسته
الجامعية في طرابلس.