عن الديمقراطية كقوة تحرير!
ميشيل كيلو -
michel@almassae.press.ma
ما
إن يتلفظ مواطن عربي بكلمة ديمقراطية حتى يسارع حكام عرب كثيرون إلى
معاملته على طريقة الزعيم النازي جورنج، الذي قال: ما إن أسمع كلمة ثقافة
حتى أسارع إلى تحسس مسدسي! المطالب بالديمقراطية في معظم بلداننا العربية
إما عميل أو «أهبل». إنه عميل اشترته الإمبريالية والصهيونية أو أهبل يسهل
تلاعبهما به، فلا ينفع معه حوار أو إقناع، وينفع ما قاله زعيم ألماني آخر
هو الملك فريدريك الثاني: لا دواء للديمقراطيين غير العسكر!
ومع أن من المفهوم أن تكون الصهيونية قد طالبت النظم العربية بكل شيء إلا
الديمقراطية والإصلاح، فإنه يثير العجب أن تكون نظمنا في معظمها مصممة على
اعتبار الديمقراطيين طابورا أجنبيا خامسا، والديمقراطية مؤامرة
إمبريالية/صهيونية ستغرق مجتمعات العرب، المتخلفة والمحتقنة بشتى أنواع
المشكلات غير المحلولة وغير القابلة للحل، في العنف وستفجر دولها، إذا ما
تراخت قبضتها الأمنية: حافظة السلام والوئام الاجتماعيين والوحدة الوطنية.
في هذا النوع من الفهم، ليست الديمقراطية ولا يمكن أن تكون إلا أكذوبة
تفضحها مكوناتها: فهي «والمجتمعات العربية في حروب أهلية لا نهاية لها!».
بهذا الخطاب، واجهت وتواجه نظم عربية كثيرة المطالبين بالديمقراطية من
مواطنيها، وتعتبرهم خارجين عن الوحدة الوطنية والقانون، داعين إلى العنف
وإلى تدمير مجتمعاتهم ودولها، لمصلحة الإمبرياليين والصهاينة، بذلك تنقلب
الديمقراطية من نظام هو أكثر النظم التي عرفتها البشرية على مر تاريخها
مواءمة للمواطنة وسيادة القانون والقضاء المستقل والعدالة والحرية وسيادة
الشعب والانتخاب الحر والنظام التمثيلي وتبادل السلطة والدولة المدنية
والفرد الحر، إلى دعوة إلى الحرب الأهلية والفوضى والعنف، وينقلب أنصارها
ودعاتها من وطنيين، يقلقهم كثيرا تدهور أحوال أوطانهم ومواطنيهم طيلة نصف
القرن المنصرم، إلى أوغاد ومجرمين يستحقون السجون والمنافي والقتل، لأنهم
يطالبون بشيء خطير وفي غير وقته، ليس المجتمع العربي قابلا به أو مؤهلا
له، ويدعون إلى شيء جميل بالكلمات ويريدون شيئا آخر قبيحا في الواقع،
بدعوتهم إلى الديمقراطية والحرية التي تحجب رغبتهم في الفوضى وتدمير
أوطانهم.
أخيرا، شرع حكام عديدون يقولون: نحن لسنا ضد الديمقراطية، لكن مجتمعاتنا
ودولنا ليست ناضجة لتطبيقها بعد. ومع أن هؤلاء يعفون أنفسهم من المسؤولية
عن «عدم نضجها» المزعوم، مع أنهم انفردوا بحكمها طيلة العقود الخمسة
الأخيرة وقرروا مصيرها وحدهم ودون العودة إلى مواطنيهم، فإنهم يدعون
الرغبة في تحقيق الديمقراطية، ولكن في الوقت المناسب. من جهة أخرى، يزعم
هؤلاء أنهم ضد الديمقراطية الملغومة والفورية التي يدعو إليها المثقفون.
ويقولون: سنطبق ديمقراطيتنا الرشيدة بمجرد أن تنضج شروط تطبيقها وتخرج
مجتمعاتنا من التأخر والتخلف والانقسام. وهم يغضبون إن أنت عزوت التأخر
والانقسام إلى سياساتهم وخياراتهم أو ذكرتهم بأن وجود التأخر والتخلف في
مجتمعاتنا، بعد سنوات حكمهم الطويلة، دليل دامغ على فشلهم، وأنه كان يجب
أن يدفعهم إلى ترك السلطة لا التمسك بها، خاصة بعد إخفاق وعودهم الكثيرة
والمتكررة بالتقدم ونجاحهم منقطع النظير في كتم أنفاس شعوبهم وتنمية عوامل
تأخرها وتخلفها، لأن نظامهم لم ينتج غير التأخر والانقسام وما شابههما من
معوقات نشوء وتطبيق الديمقراطية، وأجهز على ما كان متوفرا في مجتمعاتنا من
شروط تحقيق الحكم الرشيد والحداثة.
لنقفز الآن من فوق حقيقة معروفة للخاصة والعامة، هي أن النظم الشمولية
تثقل كاهل أوطانها بأحمال ضخمة من المشكلات المعقدة وتنتج بمرور الوقت
واقعا يتعاظم تعقيده، بينما تتناقص قدرتها السياسية والإيديولوجية على
التصدي لمعضلاته، لذلك تغرق بلدانها في أزمات لا تجد ما تواجهها من خلاله
غير خيارات وممارسات فات زمانها، تنبثق من انقلابها إلى نظم تقليدية تزداد
رجعية ومحافظة وتكره التغيير وتقاومه، مهما كان جزئيا ومحدودا، وتعيش خارج
عصرها وتفرض على مواطنيها أنماطا ماضوية من التفكير لا تنتمي إلى عالم
البشر!
هذا هو حال الديمقراطية والمطالبين بحكمها عندنا. لو تأملنا الآن ما جرى
في قارة أمريكا اللاتينية، حيث دارت معارك هائلة المعاني والأبعاد،
استخدمت شعوب متأخرة وشبه محتلة الديمقراطية فيها كأداة للتحرر من سيطرة
الخارج الأمريكي، بعد أن فشلت في تحرير نفسها عبر الكفاح المسلح، وشقت
بمعونة الانتخابات الحرة دروبا كانت مغلقة مكنتها من استعادة أدوار ومواقف
فقدتها منذ زمن طويل.
ومع أن معركة الديمقراطية جرت وتجري هناك في بلدان متأخرة تواجه أزمات
معقدة، فإنها لم تتسبب في نشوب أية حرب، أهلية كانت أو خارجية، بل وضعت
حدا لما كان دائرا من حروب، بعد أن أوصلت إلى السلطة قوى عجز كثير منها عن
الاستيلاء عليها بقوة السلاح (نيكاراغوا على سبيل المثال). تعيش بلدان
أمريكا اللاتينية ثورة ديمقراطية حملت إلى السلطة قوى يسارية واشتراكية
مناوئة للرأسمالية وصديقة لكوبا، عدو واشنطن اللدود، التي كانت تعتبرها
«حديقة أمريكا الخلفية».
فهل كان بالإمكان وصول اليسار إلى السلطة بغير الإرادة الشعبية، أي بغير الديمقراطية؟
وهل كانت أمريكا ستسكت على ضياع جزء كبير من قارة هي حقا حديقتها الخلفية،
لو أخذ اليسار السلطة ضد إرادة شعوبها الحرة، ولم تطح صناديق الاقتراع
بالحكومات الموالية لها، وتجد نفسها مرغمة على قبول حكومات ونظم اليسار
الجديد، لا تستطيع إسقاطها على غرار ما فعلته ذات يوم في تشيلي، حيث أسقطت
الرئيس ألليندي المنتخب ديمقراطيا؟ أليس أمرا فائق الدلالة أن هذه
الحكومات الديمقراطية هي التي تقيم لأول مرة في تاريخ القارة علاقات ندية
مع واشنطن: مقيدة اليدين والعاجزة عن فعل أي شيء، التي تبنت موقفا معاديا
من انقلاب عسكري في هندوراس ضد رئيس منتخب، كي لا تستفز شعوب ودول القارة،
وتبدو وكأنها تعادي خيارها الديمقراطي؟!
لماذا تحرر الديمقراطية أمريكا اللاتينية من السيطرة الأمريكية، ومن حكم
الطبقات والقوى التقليدية الموالية لها، ومن التخلف السياسي والاجتماعي،
ولا يمكنها القيام بالدور ذاته عندنا؟ ألا يكذب ما يحدث هناك ما يقال هنا
حول الديمقراطية؟
وهل يمكن للديمقراطية أن تكون أداة تناسب شعوب أرض الله الواسعة، بينما لا
يمكن أن يوجد ما يناسبنا نحن غير الاستبداد، وحرمان مواطنينا من حقوقهم،
واضطهادهم وإخضاعهم لإرادة تجافي إرادتهم؟ هل خلق الله غيرنا لينعم
بالحرية، وخلقنا نحن لنعيش ونموت عبيدا؟
تثبت الديمقراطية، كما تمارس في أمريكا اللاتينية، أنها نظام الحكم الوحيد
القادر على التعبير عن إرادة المواطن وحريته، وأنها دليل على يقظة شعوب
مظلومة تستعيد دورها وثقتها بنفسها، وتثق بالقوى والأفكار الداعية إلى
المساواة والعدالة والحرية، وتجدد وتعزز مشروعها التغييري، بعد أن كانت
«ثورات» السلاح والعنف قد أوصلتها إلى قاع العجز واليأس.
تسقط ديمقراطية أمريكا اللاتينية خطاب وحجج أعداء الديمقراطية في عالمنا،
وخاصة في وطننا العربي، الذي بدأ يلتحق بالركب وقام بثورتين ناجحتين
اعتبرتا نموذجا يحتذى به للنضال الشعبي، السلمي والمدني، في سبيل الحرية
والكرامة، ويواصل كفاحه من أجلهما في أكثر من بلد عربي، مع فرص نجاح لا
يستهان به تبدو مؤكدة. ألا يؤكد هذا أن من يجنح إلى الحرية والديمقراطية
يربح، ولو كان عدوه أمريكا، ومن ينبذها ويعاديها يخسر، كما خسرت نظم عربية
بالأمس القريب، وتخسر اليوم أيضا، وستخسر في المستقبل جميع معاركها ضدها
وضد الشعب الذي يناضل في سبيلها، لأنها كانت قد خسرت ثقته وولاءه لها!