رض تطورات الساحة المصرية نفسها على إسرائيل وعلى صانع القرار فيها؛ فما
قبل 25 كانون الثاني غير ما بعده. يشير منطق الأمور إلى أن المعادلات
الحاكمة لقرار تل أبيب تجاه ساحات المواجهة، بما يشمل إيران وسوريا ولبنان
وقطاع غزة، من شأنها أن تتغير تبعاً لتغيرات المشهد المصري، وما ستؤول
إليه. علماً بأن نتائج الأحداث، مهما رست عليه بوصفها نتائج نهائية للثورة
المصرية، قد تكون كافية لدفع تل أبيب في هذه المرحلة تحديداً، إلى إعادة
جدولة التهديدات ومراتبها والإمكانات المتاحة لمواجهتها، ما يلقي بتأثيراته
على إمكانات تل أبيب وخياراتها العملية تجاه كل ساحات المواجهة، ومن ضمنها
لبنان، باتجاه الانكفاء عنها.
كانت الجبهتان الشمالية (لبنان وسوريا)، والشرقية (إيران)، ما قبل 25 كانون
الثاني، هما الجبهتين اللتين تمثلان استحقاقين رئيسيين في الاستراتيجية
الإسرائيلية، وتستهلكان كل زخم المؤسسة الأمنية في تل أبيب، في محاولة
لإيجاد سبل كفيلة لمعالجتهما واحتوائهما، سواء بطرق سياسية أو عسكرية. تأتي
أحداث مصر لتنذر تل أبيب بأن المشهد والمعادلة قد يكونان مقبلين على تغيير
جذري وحاسم ومقلق، ما أدخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية في حالة من
الضبابية والتشويش وانعدام التوازن، على مستوى تشخيص التهديدات أولاً، وعلى
مستوى السبل الكفيلة بمواجهتها ثانياً.
بالطبع، تبقى الجبهتان، الشمالية والشرقية، وما تنطويان عليه من تهديدات،
في مستوى الأهمية نفسه من ناحية استراتيجية إسرائيلية، إلا أن الجبهة
المصرية الجديدة، التي توشك على الانفتاح والوجود، سيكون من شأنها في حد
أدنى، أن تزاحم الجبهتين التقليديتين؛ فأن تتحول مصر من دولة حليفة وحريصة
على المصلحة الإسرائيلية إلى دولة معادية في حد أقصى، أو دولة غير محايدة
في حد أدنى، من شأنه أن يلقي بظلال ثقيلة على تل أبيب وقراراتها، لأنها
ستكون مضطرة، من الآن فصاعداً، إلى إدخال العامل المصري وردّ الفعل المصري
في حساباتها لدى اتخاذ أي من قراراتها العدائية تجاه ساحات المواجهة
الأخرى، في لبنان أو سوريا أو قطاع غزة، وصولاً إلى إيران.
الارتباك الإسرائيلي كان واضحاً في التعاطي مع الحدث المصري، والواضح أن
جهات التخطيط والتقدير في تل أبيب تجهد بنحو استثنائي لمعرفة نهايات ما
يحصل أو تقديرها، وفي السياق انكفاء قسري عن الساحة اللبنانية. إسرائيل، في
هذا الإطار، في موقع المشوشة والمرتبكة والفاقدة للخيارات؛ إذ لا خيارات
متاحة لديها لمواجهة ما يحصل في مصر أو حرف اتجاهاته، وكل ما يمكنها فعله
هو انتظار المسعى الأميركي، الذي يحاول ملاقاة الثورة المصرية في منتصف
الطريق، تمهيداً لإنهائها، ومحاولة حصر تداعياتها بإزاحة الرئيس المصري، مع
الأمل بإبقاء توجهات النظام على حالها، تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل.
مع ذلك، تجب الإشارة إلى أن المستجدات المصرية والخشية مما سيؤل إليه
النظام المصري، ليستا عاملاً منشئاً للانكفاء الإسرائيلي عن لبنان، بل هما
عامل مساعد يتكامل مع العناصر القائمة أساساً، التي ثبت طوال السنوات
الماضية أنها كفيلة بلجم الإسرائيلي ومنع اعتداءاته. ثبت خلال السنوات
الماضية أن الدافعية الإسرائيلية، مهما كانت مرتفعة، غير كافية كي تتيح لتل
أبيب اتخاذ قرارات عدائية وتنفيذها. ثبت أن سباق الجهوزية أوصل لبنان إلى
حدود غير مسبوقة، وباتت المقاومة قادرة على منع الإسرائيلي من تنفيذ
قراراته العدائية في حال اتخاذها، بل ومنعه من اتخاذ قرارات كهذه. فالخشية
من رد فعل المقاومة تمسك بالقرار الإسرائيلي وتحكم آلية اتخاذه، لإدراك تل
أبيب أن رد الفعل سيكون مكلفاً وغير مسبوق ولا قدرة على تحمله.
حيال الساحة اللبنانية، تدرك إسرائيل أن من شأن المعطى المصري الجديد أن
يزيد من حالة الضعف التي تعانيها قوى 14 آذار، وهي القوى التي طالما راهنت
عليها لمواجهة أفرقاء لبنانيين يصنفون إسرائيلياً وأميركياً، بأنهم قوى
معادية. الارتباك والتشويش اللذان تعانيهما تل أبيب يوازيهما أكثر بكثير
ارتباك قوى «الاعتدال» في لبنان. على هامش المقاربة الإسرائيلية للأحداث
المصرية، كلام رثاء وحزن وأسى على ما آلت إليه أوضاع هذه القوى، وعلى
الآمال التي فُقدت وضاعت في سياق الأحداث المصرية، وقبلها أيضاً... إلا أن
اليد الإسرائيلية، والأميركية، لدى سقوط الكبار، وفي خضم سقوطهم، لا تعيران
اهتماماً لصغائر، أو مد يد المساعدة لمن هو عاجز عن مساعدة نفسه... لدى
المصائب الكبرى تهون المصائب الصغرى، وهذه حال إسرائيل والولايات المتحدة،
وحال من ارتضى أن يلف لفهما.