م يحدث أن مات جسد محترق كجسد محمد بوعزيزي، ولم يحدث أن خسر، ولم يحدث أن
سكت. بائع الخضر التونسي المقهور كتب بلغة عربته البسيطة ورائحة الياسمين
الملتصق طوقاً برجليه المتماهيتين مع عجلات رزقه. وكتب لأمّه تحديداً.
لأنّ الجائع إلى نتاج أرضه والعائش منه، يدرك في أحشائه أن الأرض أمّ،
والوطن أمّ، والأحشاء من ذكر الأمّ... فحين يكتب إليها، يستحضر كل ذلك،
وتحضر في أحشائه المندلعة شعلة ترسم الطريق.
قبل محمد باثنين وأربعين عاماً، كان جسد يان بالاش يسقط مثل مذنّب في
براغ. كأن التاريخ يهوى مصادفات الأيام: اشتعل قلب بالاش في ساحة فيشسلاس،
شغفاً ببلاده، في 16 كانون الثاني 1969، لينطفئ لاحقاً في مستشفى جامعة
سان شارل، في مثل يوم أمس بالذات، في 19 من الشهر نفسه.
الممرضة التي رافقت يان أيام نزعه الثلاثة، نقلت عنه أنه لم يحوّل نفسه
شعلة احتجاجاً على الاحتلال السوفياتي لأرضه وحسب، بل الأهم رفضاً لحالة
اليأس التي تسلّلت إلى قلوب مواطنيه وأجسادهم. فربيع براغ كان قد انتهى
تحت سحل دبابات «الأخ الأكبر» في آب من العام المنصرم. لكن يان انتظر نحو
خمسة أشهر. ظل يراهن على ثورة أهله وانتفاضة الأرض. نقلت الممرضة عنه أن
ما أضرم النار فيه ليس الجنازير الغريبة، بل الوجوه الصامتة، والعيون
الفارغة، والسحنات الواجمة... «تلك التي حين تنظر إليها «تفهم» أنّ كل
واحد منهم قد «فهم»...
ولم ينطفئ جسد بالاش. ظلت الأجهزة البوليسية السوفياتية والتشيكية تلاحق
جثمانه ورفاته طيلة أعوام. كأنه في موته قادر على إحياء كل دفين. وكأن
المطلوب القبض عليه هامداً بعد العجز عن وقف حركته حيّاً. أخرجوا جثته من
المدافن، بعد أربعة أعوام ونيّف على موته. وفي تشرين الأول 1973 أحرقوا
الجثة، وسلّموا رمادها إلى والدته، وحظروا عليها عرض الكأس التي حفظت
الرماد...
ولم يسكت جسد بالاش... في الذكرى العشرين لولادته نوراً، تحوّل ناراً في
أرض براغ. فبين 15 كانون الثاني 1989 و21 منه، أعلنت الحركة الديموقراطية
في تشيكوسلوفاكيا تنظيمها «أسبوع بالاش». وكما يقول جاك بريل، «يبدو أن
هناك أرضاً محروقة تعطي من القمح أكثر من أفضل نيسان». وكان كانون تلك
الأرض، وكان بالاش حرقها ووجعها، وحرقتها والجوع... حتى كتب التاريخ أن
«أسبوع بالاش» كان البداية الإرهاصية لسقوط جدار برلين، بعد نحو عشرة
أشهر... بعد عشرين عاماً كاملة، أزهر ربيع براغ، من مسام بالاش...
في أدب أوروبا الشرقية وفنّها وموسيقاها ومسرحها وكل تعبيراتها الجمالية،
يحضر بالاش مثل «إيتوس» بطولي إلهامي، تُغنّى له الأناشيد، عن «الحياة في
مكان آخر»، و«أداء من أجل الحرية»، وتكتب له قصائد «سأحترق ألف مرة، بعدها
سأنتصر»...
بعد شهر ونيّف على ملحمة بالاش، بدت الطريق منوّرة لرفيقه يان زاجيتش. في
25 شباط 1969 أضاء يان الثاني جسده من أجل وطنه والناس. قبل أن يدخل دائرة
النور، كتب لعائلته المؤلفة من والدين وأخ وأخت، الكلمات الآتية: «حين
تقرأون هذه الرسالة، سأكون ميتاً أو قريباً من الموت. أُدرك الضربة
القاسية التي سيسدّدها عملي إليكم. لكن لا تغضبوا مني. فللأسف لسنا وحدنا
في هذا العالم. وأنا لا أقوم بذلك لأنني تعبت من الحياة، بل على العكس،
لأنني أعشقها جداً. على أمل أن يجعلها موتي أفضل. فأنا أعرف ثمن الحياة،
وأعرف أنها الأغلى، ولذلك أردت الأكثر لكم... فعليّ أن أدفع الكثير. لا
تقبلوا بعدي أيّ ظلم، مهما كان شكله، هذا عهد موتي عليكم... سامحوني
وأبلغوا سلامي إلى الأصدقاء والنهر والغابة...».
قبل يان الأول والثاني، لم يعرف أحد أنّ بولونيّاً اسمه ريتشارد سيفيتش
أشعل نفسه أمام مئة ألف مشاهد في أحد الملاعب البولونية، في 8 أيلول 1968،
من أجل ربيع براغ أيضاً. نجح نظام وارسو في التعتيم على الخبر، وإتلاف
الصور، والاكتفاء بسطرين عن انتحار مختل عقلياً... بعد 25 عاماً على موته،
دخل ريتشارد تاريخ بلاده عبر فيلم أرَّخ قصته ورحيله على طريق الضوء.
وبعد الثنائي «يان» مشى الدرب نفسه إيفان بلوتشيك في 4 نيسان 1969. قبل أن
يتّقد أفلت من بين أصابعه وريقة صغيرة كتب عليها: «الحقيقة ثورية، هكذا
كتب أنطونيو غرامشي، وأضاف: من أجل وجه بشري، لا أطيق هؤلاء الذين يقفون
بلا أحاسيس»...
مسيرة أجساد الضوء هرباً من الظلم، أو قهراً للظلمة، توسّعت في ذلك
الزمان، فعرفت أسماءً مثل روماس كالانتا في ليتوانيا في 15 أيار 1972،
وأوليكسا هيرنيك في أوكرانيا في 21 كانون الثاني 1978، قبل أن تخطّ بقعة
من ضوئها على سواد الأولمب، آتية من صوب إيطاليا. هناك، في جنوى، اتّقد
كوستاس جيوغاكيس في 19 أيلول 1970 لينير لأبناء أرسطو درب الديموقراطية.
وقف مثل الشعلة صارخاً: «لتحيَ اليونان حرّة»، «ليسقط الطغاة»، حتى انطفأ
ولم يتوقّف الصوت.
في رسالة تركها لوالده، كتب كوستاس: «والدي العزيز، اغفر لي ما قمت به،
بلا بكاء. فأنا لست بطلاً. أنا مجرد إنسان، مثل كل الناس، أكثر خوفاً
ربما. قبِّل أرضنا عنّي. فبعد أعوام ثلاثة من العنف، لم أعد أتحمّل
المعاناة... فأنا لا يمكنني أن أفكّر ولا أن أتصرّف، إلا كفرد حرّ...
أرضنا التي شهدت ولادة الحرية ستذهب بالطغاة إلى العدم».
لم يحدث أن انطفأ أيّ جسد محترق عبر تاريخ المظالم. ولم يحدث أن سكت صوت
صارخ من قلب النار. لا بل يكرّس التاريخ ثابتة أن تلك الشعلة تنتهي دوماً
بالنصر، ولا يكون الاحتراق حتى التكلّس إلا مصير الجثث المتحركة، والأحياء
المحنطين، والموتى أصلاً، الذين تفرض الحياة موتهم.
تبقى مفارقة أخيرة: قبل عقود، كانت الأجساد المتّقدة تشرق غالباً من عواصم
تئن تحت وطأة موسكو الحمراء. اليوم باتت تبزغ من أرض تستجير بواشنطن، حتى
استجرار الجور منها. كأنّ جدليّة الحرية والظلم لا بوصلة لها في الأرض إلا
قبلة القلب.