لعونيّون يستعيدون الأمل: الانقضاض على الحريريّة بعد تحقيقهم حلم الحرية والسيادة
والاستقلال، يقترب العونيون من تحقيق حلمهم الثاني المتمثل بقطع «مشنقة
الحريرية»، على مشارف مرحلة تبدو استثنائية بالنسبة إلى الزعيم الماروني
الأول
غسان سعود
لم يحصل في تاريخ الحالة العونية أن مرت
بمرحلة تشبه هذه: بطريرك الكنيسة المارونية الذي لم يرَ في العماد ميشال
عون منذ البداية «ابن عائلة» يستحق التفاف الموارنة حوله، يوضّب حقائبه
لمغادرة بكركي. العلاقة بين الجيش اللبناني والعونيين التي شهدت الكثير من
الصعود والهبوط بين عام 1990 وعام 2008 تبنى على أسس جديدة في ظل تنام
استثنائي لنفوذ الضباط الذين يعدّهم البعض مقربين من الجنرال ميشال عون
ويعدّون أنفسهم مقربين من مؤسستهم وقيادتها أولاً وأخيراً. بدورها، علاقة
العونيين بعضهم مع بعض تظهر طوال أيام التعزية بأبو نعيم (شقيق ميشال عون)
اشتياق الشباب بعضهم إلى بعضهم الآخر ونسيان معظمهم لمآخذه بمجرد أن يبتسم
الجنرال لهم. دمشق ـــــ عاصمة المشرق العوني ـــــ باتت ترى في العونيين
أبناءً مميزين لابنها البار المكتشف حديثاً ـــــ مار مارون، بينما يفتح
قصر الرئاسة الفرنسية ذراعيه لاستقبال الجنرال بعدما واظب خمسة عشر عاماً
أمضاها الجنرال في باريس ـــــ عاصمة المغرب العوني ـــــ على «الكشِّ» في
وجه عون. وأخيراً، يقرر الرئيس سعد الحريري ترك السلطة للعونيين.
قبل بضعة أيام، في اجتماع غير معلن بين العماد عون والأمين العام لحزب
الله السيد حسن نصر الله، فوجئ الأخير بنبرة الجنرال المرتفعة خلال الحوار
وتكراره تأكيده تمسكه برفض عودة الحريري إلى السلطة وأن موقفه ليس
للمناورة. الأمر نفسه فعله وزير الطاقة جبران باسيل في زيارته الأخيرة
لدمشق، مبلغاً الرئيس السوري بشار الأسد تفضيل العماد عون الحل الجذري
الذي يسمح للبنانيين بالنهوض بوطنهم بدل الحلول النصفية التي تستمر في
الهروب إلى الأمام وعدم معالجة المشكلة. ولاحقاً، فور مغادرة الموفدَين
التركي والقطري، وفي وقت كان فيه بعض نواب تكتل التغيير والإصلاح يتساءلون
عن المخرج الذي سيعتمده الجنرال لتجاوز إعلانه رفض المشاركة في حكومة
حريرية، بادر عون إلى عقد مؤتمر صحافي خصصه لتكرار موقفه الرافض لتولي
الحريري رئاسة الحكومة. وبعد تأكيد الحريري في مؤتمره الصحافي أن المطلب
الواحد الأوحد للمعارضة كان تولي غيره رئاسة الحكومة، يتأكد أن المعارضة
تبنت بحزم الموقف العوني الذي إن كان يحظى ببعض التأييد من حزب الله، فإنه
من دون شك لا يلقى استحسان القيادة السورية التي تحسب لتضرر علاقتها
بالسعودية من جراء خطوة كهذه ألف حساب، ولا الرئيس نبيه بري ولا النائب
سليمان فرنجية.
ويشير أحد المسؤولين في التيار الوطني الحر إلى أن موقف الرابية من مشاركة
الحريري الحكم وفق شروطه هو، بقي قبل أربع سنوات ملتبساً حتى شعر الجنرال
بأن ثمة مؤامرة كبيرة تستهدف البلد، توجب ذلك. وحتى بعد نجاح الجنرال في
دخول حكومة السنيورة أولاً والحريري ثانياً، من فوق لا من تحت، كما كان
يرغب السلف والخلف، بقي في أدائه النيابي والوزاري أقرب بكثير إلى
المعارضة منه إلى الموالاة، في ظل معرفة المسؤولين في التيار الوطني أن
أحد الأسباب الأساسية لبقائهم على قيد الحياة سياسياً في السنوات القليلة
الماضية كان شعور مجموعة من اللبنانيين بأنهم يمثلون خياراً آخر لإدارة
شؤون البلد. فمزارع التفاح في بلدة حراجل يصدق فعلاً وجود نية عونية جدية
لإصلاح القطاع الزراعي وحماية الإنتاج المحلي ليصمد هو في أرضه ويورث
أبناءه أشجاراً بدل تأشيرات السفر. وبين جمهور التيار هناك جامعيون كثر
يؤمنون بأن التيار قادر على الإصلاح، القادر بدوره على تغيير وضعهم
الاقتصادي وتوفير فرص العمل، مع الأخذ في الاعتبار أن جزءاً أساسياً من
ناخبي التيّار في الانتخابات النيابية الأخيرة كانوا ممن يعتقدون أن
الوطني الحر هو الأقدر على إحداث توازن طائفي في السلطة يعيد إنتاج توازن
طائفي في الوظائف والمشاريع الإنمائية، مع العلم بأن بعضاً ممن كان يسخر
من اعتقاد العونيين أن خروج الجيش السوري من لبنان وارد في أحد الأيام،
كان يسخر من اعتقادهم أن تجاوز الحريري ممكن، مع تأكيد الوقائع أن التيار
العوني حمل منذ نشأته عنوانين أساسيين: الأول هو المطالبة بالحرية
والسيادة والاستقلال، والثاني هو الإصلاح الاقتصادي. وبالرغم من أن معظم
التحركات والجزء الأكبر من الخطابات العونية ركز على العنوان الأول، فإن
العنوان الثاني بقي حاضراً. ففي البيانات التي بدأ شباب التيار توزيعها في
الجامعات وبعض المناطق منذ عام 1997 تبدو واضحة محاولات العماد عون
الموازنة في مخاطبته مؤيديه بين انتقاد الهيمنة السورية وتحميل السلطة
اللبنانية القائمة ممثلة بالرئيس رفيق الحريري المسؤولية عمّا يعانيه
الشعب. ففي النشرة الموزعة بتاريخ 31 تشرين الأول 1997 مثلاً، يكتب
الجنرال تحت عنوان «السيد رئيس الحكومة» انتقاداً طويلاً للحريري ينتهي
باستغباء القائلين إن الحريري حبل خلاص، والتأكيد أنه «حبل مشنقة في عنق
اللبنانيين يوشك أن يؤرجحهم إن لم يقطعوه فوراً».
الخلاص من الحريرية يعني بالنسبة إلى العونيين تقديم سياسة اقتصادية
مختلفة عن السياسة الاقتصادية الحريرية. لكن ذلك ليس كل شيء، فالنتيجة
الأساسية التي يأمل الكثير من جمهور التيار الوطني وآخرون تحققها اليوم هي
إعادة المسيحيين إلى الدولة التي بدأ خروجهم منها على مختلف المستويات عام
1990 ولم تتحقق عودتهم بعد (رغم مرور خمس سنوات على خروج الجيش السوري من
لبنان).
في الموضوع الأول، التغيير الاقتصادي، ينتظر تظهير العونيين مشروعهم
الاقتصادي الجديد الملتف حول أفكار الوزير شربل نحاس، بعدما قدم النائب
إبراهيم كنعان عبر لجنة المال والموازنة نموذجاً عن حرص العونيين على
المال العام، في ظل اعتقاد كنعان أن أهم ما يحصل هذين اليومين هو بروز
إمكان للتغيير في المسار العام والممارسة. وتحت عنوان الانقلاب على
الاستئثار، يتحدث كنعان بأمل كبير عن ثلاث ثوابت في السياسة الحريرية
الاقتصادية يأمل العونيون تغييرها: أولاها، الاقتصاد القائم على سلفات
الخزينة والضرائب التي لا تميز بين فقير وغني. ثانيتها، استراتيجية
الاقتراض لمراكمة الدين من دون سقف. ثالثتها، الإنماء غير المتوازن الذي
لا يرى من لبنان إلا بيروت. وبموازاة المقارنة بين بيان وزاري يكتب فقراته
الاقتصادية الوزير شربل نحاس والبيانات التي واظب فؤاد السنيورة على
كتابتها، يشير كنعان إلى أن إحدى المهمات الأساسية للحكومة المقبلة إذا
أبصرت النور من دون الحريري هي إيقاف مشاريع الخصخصة داخل الوزارات وإقفال
وُزَيرة (على وزن دُويلة) النيابات العامة داخل وزارة العدل، ووُزيَرة فرع
المعلومات داخل وزارة الداخلية والبلديات ووزيرة الهيئة العليا للإغاثة
الموازية لوزارة الشؤون الاجتماعية. وغيرها من المؤسسات التي يشبّهها
كنعان بالفنادق الفخمة التي أنشئت بقرب مؤسسات الدولة التي أفرغت من الفرش.
أما الموضوع الثاني فيشمل ما هو سياسي، ولا سيما قانون الانتخابات
النيابية وصلاحيات رئيس الجمهورية، وما هو إداري يبدأ بعلاقة المسيحيين
عموماً والوظيفة الرسمية ويمر بالدور الاقتصادي والاجتماعي للطبقة الوسطى
لينتهي بوصل ما انقطع على صعيد الاستثمارات المالية بين لبنان ومغتربيه من
مختلف الطوائف.
اللافت أنه بالرغم من كثرة التحديات، يتفاءل العونيون مبدين اعتقادهم أن
حل كل مشكلة على حدة سيتطلب جهداً كبيراً، لكن التغيير في التوازنات كما
هو حاصل اليوم يسمح بتبني استراتيجية شاملة مغايرة لتلك التي كانت قائمة.
من جهة أخرى، وبموازاة الثقة العونية الكبيرة بأن عودة الحريري إلى رئاسة
الحكومة أو أقله عودته بالنفوذ السابق إلى الحكومة باتت أمراً صعباً، تتجه
أنظارهم إلى حلفاء الحريري. فالمرة الأولى من دون بطريرك معادٍ وحقد
إقليمي وعزلة دولية قد تكون المرة الأولى أيضاً دون قوات لبنانية تستفيد
من وجود حليفها الرئيس سعد الحريري في رئاسة السلطة التنفيذية لجذب أنصار
عون بعيداً عنه، نحوها. خروج الحريري الكارثي بالنسبة إلى نفوذه في الدولة
قد يكون قاتلاً بالنسبة إلى القوات اللبنانية، إذا أحسن العونيون العمل