. أحـداث سيـــدي بوزيـــد : فــي
مسألـــــة التوظيــــف السياســـي بقلم لطفي العربي
بتاريخ :
2010-12-22 الساعة : 06:20:34 التصنيف :
مختارات عدد القراء :
117 أحـــداث سيـــدي بوزيـــد :
فــي مسألـــــة التوظيــــف السياســـي
بعد إقدام الشابّ محمد البوعزيزي
يوم الجمعة 17 ديسمبر على سكب البنزين على جسده ممّا تسبّب له في حروق
بليغة من الدرجة الثالثة اندلعت مظاهرات شعبية في سيدي بوزيد شارك فيها
آلاف المواطنين من مختلف الفئات العمرية و رفعوا خلالها عدّة شعارات من
بينها " التشغيل إستحقاق .... يا عصابة السرّاق " ( وهي رسالة واضحة لمن
يهمّهم الأمر ) سارعت وسائل الإعلام الرسمية و من يدور في فلكها إلى تقزيم
الأحداث معتبرة أن ما قام به الشاب محمـــــــد
البوعزيـــــــــــزي حدث عارض قامت أطراف سياسية و حقوقية
بتضخيمه و توظيفه لغايات سياسية فهل نسي هؤلاء في خضمّ الحدث المؤسف و
المؤلم أنه لم يكن الأوّل و لن يكون الأخير ما دامت أسباب وقوعه لا زالت
قائمة في سيدي بوزيد و قفصة و سليانة و القيروان و القصرين و غيرها من جهات
و مناطق البلاد .... ثم ألم تسبق حادثة سيدي بوزيد حادثة إقدام الشاب عبد
السلام تريمش في السنة الفارطة في مدينة المنستير
و بطريقة مشابهة - بسكب البنزين
على نفسه مما أدّى إلى وفاته كما سبقتها و تلتها أحداث أخرى مشابهة ....
ألا يعني تكرار الحادثة و بذلك
الشكل أن هناك مشكلة بل أزمة قائمة في صفوف الشباب العاطل عن العمل يتمّ
باستمرار تجاهلها و التعمية عليها ....
ألم يطلق الأخصّائيون الإقتصاديون و
الإجتماعيون صيحة فزع منبّهين إلى خطورة مشكلة البطالة و تفاقمها خاصّة في
صفوف خرّيجي التعليم العالي و أن ذلك ستكون له إنعكاسات إجتماعية بالغة
الخطورة قد تؤدّي إلى كوارث ...
ألم يلجأ بعض الشباب إلى الإلقاء
بنفسه في البحر هروبا من الواقع المرّ الذي يعيشه و آملا في أن يصل إلى
الضفة المقابلة عساه يستردّ بعضا من كرامته المهدورة في بلده و يحظى
بالتالي ببعض الإعتبار الإجتماعي .....
ألم يلجأ بعض الشباب الآخر إلى
الإنغماس في عالم المخدّرات أو ولوج عالم الدعارة من بابه الواسع علّه يجد
فيه بعضا من المسكّنات لآلامه و همومه التي لا تكاد تنتهي و الهروب إلى
عالم اللذّة و الكسب المادّي المهين لكرامته و شرفه ....
ألم يختر بعض الشباب العيش في
العالم الإفتراضي و لساعات طويلة يوميا حتى ينسى أنه يعيش في بلد إسمه تونس
و كأنه بذلك يريد نفي إنتماءه له لأنه لم يجد فيه ما يحقّق طموحاته و
آماله ....
هل أنّ ذكر الحقائق و التنبيه إلى
خطورة المشاكل القائمة و المتفاقمة و ضرورة معالجتها يدخل في باب التوظيف
السياسي أم في باب حبّ الوطن و رفض الظلم المسلّط على أبنائه و خاصة الشباب
و السعي إلى فتح السبل أمامه حتى لا يكون فريسة للإحباط و اليأس ....
هل أن إصدار البيانات المندّدة بما
حصل في سيدي بوزيد من إعتداءات على المواطنين و اقتحامات ليلية للمنازل و
الدعوة إلى الإحتجاج بطريقة سلمية أمام السفارات التونسية في الخارج و
غيرها من التحرّكات هو من باب التوظيف السياسي أم من باب الحق في التعبير
بشكل سلمي مثلما تقوم به كافة شعوب العالم في مختلف القارّات ....
هل يقابل الإحتجاج و التعبير السلمي
بالقمع و الضرب و الإعتقالات و الإهانات و المحاكمات ....
ألا ينمّ تصرّف السلط الجهوية و
المحلية في سيدي بوزيد و مثيلاتها في كامل أنحاء البلاد عن إحتقار للمواطن و
بخاصة الشباب منه و عدم مراعاة لظروفه الإجتماعية و النفسية ممّا دفعه إلى
" التهديد " بإحراق نفسه كآخر وسيلة يلتجئ إليها لتحقيق مطالبه .....
كفى امتهانا لكرامة المواطن و
استعلاء عليه فالوطن وطن الجميع و خيراته ليست حكرا على البعض دون الآخر
وهو ليس مزرعة خاصّة يستغلّها البعض كيفما يشاء....
كفى استبلاها للعقول فوسائط الإتصال
لم تعد تسمح بذلك و ثورة الإتصالات ستشهد تطورات كبيرة في المستقبل القريب
و لن يستطيع أي استبداد أو رقابة أو تعتيم الوقوف أمامها ....
كفى احتقارا للمواطن و نكرانا
لحقوقه المشروعة في الشغل و في حرية التعبير فمتـــــى
استعبدتــــم النـــــاس و قـد ولدتهــــم أمّهاتهـــــم أحـــــــرارا ....
لطفي العربي - كلية الآداب بمنّوبة
آخر تحديث : الساعة 19 و 10 د
- الثلاثاء 21 ديسمبر 2010
طلبـــــة
تونـــــس
قرأنــــــــا
لكــــم :
عولمـــــة الفاشيــــــة
( الجزء الثاني )
هناك كتاب قديم مهما لأحد
الأمريكيين يدعى تورنر قال فيه إنه لا يمكن فهم الولايات المتّحدة
الأمريكية إذا لم تستوعب مسألة الحدود ، لأن الأمريكيين جاؤوا في جلّهم من
أوربا ، و الأرض الأمريكية بالنسبة إليهم ليست سوى محطّة في مسيرة طويلة
لتخطّي الحدود و الهيمنة على العالم ، حيث عقب استيلائهم على العالم الجديد
، ذهبوا إلى ما وراء المحيط الهادئ و قالو بعد ذلك إن هذا لا يكفي .
مقابل ذلك ، فإن ما وقع بالعراق يشي
ببداية نهاية الإمبراطورية الأمريكية ، لأن الذي ضاع من الإنسانية الآن هو
القانون أي الجانب الشرعي ، و لم يعد هناك من مرجعيّة في هذا الصدد سواء
في البلدان أو المؤسسات الدولية ، وهو ما يخلق فوضى خطيرة . فالمؤسسات
الدولية مثل الأمم المتحدة أو اليونسكو لم يكن بمقدورها منع دخول الجيش إلى
المستشفيات و تدمير أهمّ المآثر في تاريخ الإنسانية ، لقد كان المقصود أن
يرى الناس الفوضى و التدمير و الدوس على الذاكرة . لقد قضيت 20 سنة من عمري
في الأمم المتحدة و كتبت كتابا قلت فيه بنهايتها لأنه لم تعد لها مصداقية ،
و عندما جاءت حرب الخليج الأولى و ما تلاها قلت بأن ديكولار قتل الأمم
المتحدة و بطرس غالي كفنها أما كوفي عنان فدفنها .
من ناحية ثانية يجب أن نؤكّد على
وجود علاقة عضوية بين قضية العراق و القضية الفلسطينية . فأمريكا تدافع عن
مبدأ واحد مفاده أنه لا يمكن لأي أحد أن يمسّ بإسرائيل ، كما لا يمكن لأيّ
كان أن يصل لمستوى تكنولوجي يخوّل له الإضرار بإسرائيل .
إن الأساس ليس هو ماذا يفعلون ، بل
ماذا نفعل نحن .... حيث نجد أن العرب أنفسهم خانوا فلسطين ، و على رأس
الخائنين حسني مبارك و عرفات ، و تتمثل خيانة الخيانات في تكوين ما يسمّى
بالحكومة الفلسطينية و اعتبار بوش لاختيار أبو مازن بأنه إختيار ممتاز .
إننا بإزاء هزيمة منظور برمّته عمّر
لعقود طويلة . فالدول العربية و الإسلامية بأنظمتها السياسية و بمثقفيها و
بكلّ مكوّناتها المجتمعية هي نموذج فاشل ، و الأسباب تتمثل أساسا في
التخلّف ، إذ لم نستطع في ظرف خمسين سنة أن نتقدّم في محو الأميّة ، و لم
نعرف ما هي الدمقراطية لا من بعيد و لا من قريب ، و لم نعرف الحريّة
العامّة و احترامها و لا دور الإبتكار و دور العالم و المبدع إذا لم يكن في
خدمة نظام سياسي معيّن ... إننا نؤدّي الآن ثمن هذا التخلّف ... و ما
نعيشه الآن من هزائم ليس سوى البداية ، و لذلك لا يمكن قبول سؤال ماذا بعد
الحرب ؟ البداية هي أن تتحرّك الشعوب و تنتفض ضدّ الذلّ . و أتذكر أنه بعد
صدور كتابي حول الذلقراطيـــــة
اعتبر البعض ذلك مبالغة ، و اليوم فإن المصطلح يعبر العالم و الجميع يتحدّث
عن الذلّ المعمّر ، لذا فما بعد الحرب هو البداية .
إن لبغداد تجاربا و تاريخا عظيما في
القرن التاسع و بعد القرن العاشر ، مع دخول المغول ... الذين حطّموا بغداد
و كان عدد القتلى مليون شخص ، و مع ذلك انطلقت فيما بعد . إننا لا نخشى
على الشعوب التي لها ماض و كرامة و مقاصد و مفهوم حضاري . ليس ثمّة شكّ أن
الذي جرى شيء مؤلم ، غير أن الإحتلال لن يتجاوز خمس سنوات لأن الإحتلال هو
بداية الحرب ، و أمامنا النموذج الصهيوني في فلسطين .
إنه لمدعاة صدمة حقيقي أن يسمع
المرء في هذه الظروف وزيرا مغربيا يقول ما معناه إن منطقة البحر الأبيض
المتوسط خسرت الكثير من السيّاح بسبب حرب الخليج ، و من المجحف أن نقرأ و
نسمع بأن السفارة الأمريكية تعطي منحا لدراسة الديمقراطية في هذا الوقت
بالذات .
إن أضعف الإيمان أن يحترم الإنسان
نفسه و يرفض الذلّ ، لقد كان مطلوبا كحدّ أدنى أن تقوم الدول العربية
باستدعاء سفرائها في واشنطن للتشاور ، و لو لذرّ الرماد في العيون . لقد
دفعت الدول العربية لحدّ الآن 600 مليار دولار في الأسلحة ... أين هي هذه
الأسلحة ؟
إن الأجيال المقبلة ستحاكم
المسؤولين السياسيين و مسؤولي جامعة الصهيونية العربية ، و ما يسمّى
بالمؤتمر الإسلامي ... لقد رأينا مصر الدولة العربية الكبرى التي هي الأساس
كيف تصرّفت ... مصر مبارك و السادات و الدور الخطير الذي لعبته منذ كامب
ديفيد إلى الآن ، انظر إلى الصحف مثل الأهرام و الصحافيين و المخابرات . مع
ذلك يبقى الأمل لأن هناك الشعب المصري العريق الذي يدافع عن شرفه و كرامته
و قوميته .
( يتبع )
" الإهانــــة فــي عهــد الإمبرياليــــة "
المهـــــــدي المنجــــــــرة
القــــراءة السابعـــــة
طلبــــــة
تونــــــــس
قــــرأنا لكــــم :
أولويــــة
القــراءة فــي حيــاة الإنســـــــان
( الجزء الثاني )
لا أكتم قارئي الحديث : لقد حيّرني
هذا العنوان الذي اختير لي ( أولوية القراءة في حياة الإنسان ) على الرغم
من أنّي سبق أن ألّفت فيه كتابا .
عـن أيّ أولويــة
للكتــاب أتحــدّث ؟
عن الدور النظري الذي يلعبه الكتاب
في بناء الإنسان ، و إشادة الحضارات ، و إنهاض الأمم . فأملّكم بحديث مكرّر
طالما سمعتموه و قرأتموه ، قصائد في مديح الكتاب خير جليس ، و محاضرات عن
حاجة الإنسان للقراءة ، و سرد تاريخي عن اهتمام الأمراء و الحكّام و بناة
الحضارات السالفة بالعلم و العلماء ، و إغداق العطايا على المؤلّفين و
المترجمين ؟
أم عن الواقع العملي الذي يشغله
الكتاب في حياتنا ، فأصدمكم بواقع مرير يعيشه الكتاب بيننا ، و أوئسكم
بزفراته الحرّى ، و شكاواه الصارخة ، و أنّاته الموجعة ، و أزعجكم بأرقام
مخجلة عن عدد العناوين التي تصدر في الوطن العربي و عدد النسخ الذي يطبع
منها ، و نصيب الفرد من ذلك ، و ما يستهلكه من الورق المطبوع في الكتب و
الصحف و المجلات ، مقارنا بما يستهلكه الفرد و ما ينتجه الناشرون في الدول
المتقدّمة ؟
و عـن أيّ إنســان
أتحـــدّث ؟
عن الإنسان الذي يخطّطون لإنتاجه في
معامل الإستنساخ بمواصفات نموذجيّة معيّنة و موحّدة ، يتحكّمون فيها من
خلال التلاعب بمورّثاته ، فيلبّون طلبات الشركات و المؤسّسات و الحكومات
بحسب احتياجاتها إلى جندي مغوار ، أو مزارع قن ، أو عامل حاذق ، يضاهئون به
خلق الله ؟
أم عن الإنسان الذي خلقه الله بيديه
في أحسن تقويم ، ثمّ نفخ فيه من روحه ، و خصّه بقسمات و طبائع خاصّة به ، و
سوّى بنانه و أفرده ببصمة لا يشاركه فيها أحد لتكون كتوقيعه ، و وهبه
العقل ميّزه به من سائر مخلوقاته ، و أمره بإعماله في الكشف عن قوانين
الكون المسخّر له ، و هداه النجدين و خيّره أن يسلك أحدهما بمحض اختياره ، و
حمّله المسؤولية أمانة أبت السماوات و الأرض أن يحملنها و أشفقن منها ، و
حملها هو ثقة و اعتدادا . فأسجد الله له ملائكته تقديرا و إكبارا و تحسين
ظنّ به ، في أنّه سوف يحسن اختيار طريق الخير رغم قدرته على اختيار طرق
الشرّ .
ثمّ جعل منه الذكر و الأنثى ، و
سيلة لحفظ نسله و نمائه ، و جعل من آياته فيه اختلاف ألسنته و ألوانه ، و
جعل منه شعوبا و قبائل و أمما وحضارات ، تتدافع و تتخاصم ثمّ تتحاور و
تتعارف و تتفاهم ، ، و عدّ ذلك الإختلاف ضرورة لتطوّر الإنسانيّة و نموّها و
تلاقح الثقافات و ارتقائها ( و لولا دفع الله النّاس بعضهم ببعض لفسدت
الأرض ) - البقرة - الآية 251 –
و عـن أيّ كتــاب
أتحــدّث ؟
عن الكتاب في وعائه الورقي الذي
يتأهّب للرحيل ، بعد أن أدّى خدماته الجلّى للإنسانية قرابة خمس مئة عام ، و
أفشى المعرفة بوابل من النسخ ظلّ ينثرها بين أيدي الناس منذ اخترع غوتنبرغ
المطبعة عام 1440 م ، تربّع خلالها على عرش المعرفة بلا منازع ، حتى جاءته
الوسائط الحديثة تجتذب إليها سمع الإنسان أصواتا مسجّلة ، و تجتذب بصره
صورا مرئيّة ، و تجتذب سائر حواسّه حركات إلكترونية تأخذ بالألباب ؟
أم عن الكتاب في وعائه الإلكتروني
القادم بسرعة مذهلة ، يغيّر و يبدّل في الكتاب كلّ شيء ، شكله و حجمه ، و
طرق خزن المعلومات فيه و سبل استرجاعها .
يختزل مكتبة ضخمة تحتاج إلى مئة ألف
متر من الرفوف لاستيعاب كتبها في علبة صغيرة تحتوي على بضعة أقراص ليزريّة
، لا يتجاوز قطر الواحد منها 15 سم و سماكته 1 مم و يضع المعلومة بين يدي
القارئ مثل خاتم سليمان كلمح بالبصر .
يعد بإراحة المكتبيّين من أعباء
التخزين و ( الأرشفة ) و التصنيف ، و إسعاد ربّات البيوت بتوفير الجدران
التي كان يحتلّها الكتاب و يقول هل من مزيد ؟ فيستبدلن به لوحات الفنّ و
الزينة ، و يبشّر أنصار الطبيعة و حماة البيئة ، بإنقاذ شجرة من القطع
مقابل كلّ نسخة مطبوعة من كتاب ، و حماية البيئة من التلوّث بآلاف الأطنان
من الحبر و رصاص الأقلام ، و نفايات المطابع ، و فضلات الصحف ، و الكتب
المستعملة ؟
ما أريد أن أؤكّده أننا نعيش في
عالم متغيّر ، تعيش فيه الإنسانية منعطفا حادّا ، و مثلما تدرّجت في عصور
الرعي و الزراعة و الصناعة ، ها هي ذي تدخل الآن عصر المعلومات ، الذي
تتنامى فيه العمالة الفكرية على حساب العمالة اليدوية ، و تتبدّل فيه
مقاييس التقدّم و معايير ارتقاء الأمم ، و تترك خصائصه آثارها العميقة على
طرق التفكير ، و أنماط العيش ، و سبل التخاطب ، و أساليب التربية و التعليم
، و قواعد السلوك ، و سائر العلاقات الإجتماعية و السياسية ، و الإقتصادية
، المحلّية منها و الإقليمية و الدولية .
و ككلّ التحوّلات الكبرى في التاريخ
سوف تضطرب القيم و الموازين و أنماط السلوك خلال مراحل التحوّل ، و سوف
يقاوم الإنسان التغيير و يدافعه بحكم الإعتياد ، إلى أن يستقرّ الجديد و
تثبت فعاليّته و جدواه .
عــوامل العــزوف
القرائـــي
إنني أعرف أن أمّة ( إقرأ ) باتت لا
تقرأ . و أن إهمالها القراءة لم يعد سرّا يجهله أعداؤها ، بل هم يستيقنونه
إلى درجة أنهم ينشرون مخطّطاتهم و نواياهم المبيّتة و لا يخشون إطّلاعهم
عليها . فلقد سبق لدايان أن طمأن إسرائيل حين نشر بعض مخطّطاته إلى أن
العرب لا يقرؤون .
و أزمة الخليج عام 1990 م مرّت دون
أن نستطيع قراءتها في ضوء التاريخ و لا في ضوء الواقع ، فضلا عن المتوقّع
... لقد كان كل شيء في هذه الأزمة مبرمجا و مخطّطا له بدقة و معلنا عنه في
وقت مبكّر ، في كتب و دراسات ترجمت إلى العربية و نشرت في أوطاننا ...
مررنا بها كأنها لا تعنينا ، ثمّ نفّذنا مضامينها كلها بدقة و أمانة كما
أريد لنا .
و أعرف كذلك أن مناهجنا التعليمية
قد ربطت طلابنا بالمقرّرات الدراسية و مختصراتها ، فقتلت لديهم روح البحث ،
و صرفتهم عن المطالعة خارج المنهاج ، و كرّهت إليهم القراءة و الكتاب ،
حين حصرت هدفهم بالإمتحان و الشهادة ، تنتهي الحاجة إليهما و تبدأ القطيعة
معهما بالنجاح في الإمتحان و تحصيل الشهادة .
إن مناهج التربية و التعليم هي
المسؤولة عن غرس عادة القراءة لدى الإنسان من أجل بناء مجتمع قارئ . وهي
القادرة على تكوين القارئ النهم ، الذي يعدّ الكتاب حاجة أساسية لتنمية
عقله و فكره ، مثلما يؤمن بأن الرغيف حاجة أساسية لنماء جسده ، بل هو يشعر
بأن معدته محدودة إذا تلقّت من الطعام أكثر من حاجتها أصيب بالتخمة ، بينما
عقله غير محدود يلتهم كل ما يقدّم له من زاد المعرفة ، و يقول هل من مزيد ؟
فإن هي أرادت أن تستخدم طاقتها في
بناء الإنسان القارئ ، أقبلت عليه منذ الصغر ، توسّع مداركه ، و تفتح له
آفاق المعرفة ، و تغريه بها مستغلّة ما فطر عليه من حبّ الإطّلاع ، و
السعادة بالتعرّف على المجهول ، فتطارحه الأسئلة و تدفعه للتساؤل ، ثم تضع
بين يديه المراجع و المصادر ، و تتركه يواجه تعب الولوج إليها ، و يعاني
مشقة البحث فيها ، و ينتابه الإحباط تارة و الأمل أخرى ، حتى يظفر بما يريد
، و تغمره السعادة بما حصل عليه بجهده و تعبه و سهره ... عند ذلك ستقوم
بينه و بين الكتاب ألفة ما بعدها ألفة ، و سيشعر أن حياته مدينة للكتاب ، و
أنه لا يستطيع أن يعيش من دون كتاب ، يصطحبه معه كل حين ، يحيي به كل وقت
انتظار فيزهق ملله ، و يخصّه بساعات من وقته يخلو بها معه .
أما إذا أرادت أن تضرب به مثل
السّوء ، و تذهب به خارج دورة الحضارة ، فتصرفه عن عادة الفراءة ، و تبغضه
بالكتاب ، و تشغله بسفساف الأمور ... فإنها تعمد إلى ربطه بالمقرّرات ، و
صرفه عن المراجع ، و قتل روح السؤال و التساؤل لديه ، و إراحته من عناء
التفكير و مشقة البحث ، فها هو ذا الكتاب المقرّر بين يديه ، قد احتوى علم
الأوّلين و الآخرين ، و ما عليه إلا أن يقرأه آناء الليل و أطراف النهار
حتى يحفظ كل حرف فيه ، و يصبّه في ورقة الإمتحان صبّا ، فينال الشهادة ، و
تنقطع بها صلته بالكتاب ، بل يصبح الكتاب أبغض شيء إليه ، لأنه كان الضيف
الثقيل المفروض عليه ، و ها قد انتهت حاجته إليه .... أفتراه يبحث عن نظيره
ليعكّر عليه صفو هدوئه .
و المناهج ، عندما تمارس هذا الدور ،
تلغي كل دور لمكتبة المنزل أو المدرسة ، و لحصّة المطالعة ، و لواجب
المطالعة الحرّة ، و لحلقة البحث ، و تصنع من الكتاب أعدى عدوّ للإنسان .
و أعرف كذلك أن حالة العزوف القرائي
و الأميّة الثقافية اللاحقة ، قد أضرّت بحركة النقد ، و حدّت من تداول
الأفكار ، و أدّت إلى ركودها ، فضمر الإبداع و تحجّرت العقول ، و غاضت
الثقافة في المياه الآسنة .
و أعرف أيضا كيف تقوقعت (
الأيديولوجيات ) في الوطن العربي ، و فرضت الوصايات ، و شحذت مقصّات
الرقباء ، و روّج لقرارات المنع و الحجر على العقول ، و أدخلت في قوالب
جاهزة متباينة و مزاجية ، و فرضت ثقافة الإتجاه الواحد ، و احتكرت الحقيقة ،
و حجب الرأي الآخر ، و هدأ الحوار ، و غاب النقد ، و ساد الصمت ، و ضمر
الإبداع ، و ابتلي الفكر بالعقم ، و تقطّعت أوصال الكتاب ، فأوصدت دونه
الأبواب ، و حرم القارئ من حقه الطبيعي في الإطّلاع .
أعرف كيف اقتنصت وسائل الإعلام
العابر و المعلومات السريعة ، شريحة كبيرة من قرّاء الكتاب ، بما تملكه من
جاذبيّة وسائطها المتعدّدة في الصوت و الصورة و الحركة ، فآثروها على
الكتاب ، و أسلموا إليها قيادهم و أوقاتهم ، و فضّلوا التحوّل إلى متلقّ
يستمع و يشاهد مسترخيا على أريكته ، يتجرّع و يحتسي ما يقدّم له من دون
كبير تدخّل أو اختيار ... آثروا ذلك على معاناة القراءة الجادّة ، و ما
تتطلبه من تركيز و وعي ، فتسطّحت الثقافة ، و لم يبق للكتاب إلا قارئ
للمقرّرات على مقاعد الدرس ، أو مثقّف هاو عاشق للكتاب لم يخدعه البريق .
أعرف كيف انتحل العازفون عن القراءة
الأعذار الواهية لتسويغ عزوفهم المنكر عن الكتاب و هجرهم المستهجن له ،
متعلّلين بغلاء سعره و ضعف قدراتهم الشرائية و محدودية دخلهم تارة ، و
بتعقّد سبل الحياة و تعاظم هموم العيش و ضيق الوقت تارة أخرى ، و أن لو صحّ
منهم العزم و صدقت النيّة لوفّروا للكتاب الوقت و المال .
أعرف ذلك كله ، و أعرف أن هذه
الإعاقة المزمنة التي حلّت بالكتاب قد حجبته عن أداء دوره المنشود في بناء
الإنسان ، و أن العقاقير المسكّنة و قصائد المديح المدغدغة للعواطف لم تنفع
في عل