في رأينا أن أي بحث في مجال الأدب المقارن أو في مجال دراسة التبادل الأدبي بين الشعوب ، أو بمعنى آخر في مجال النقد الأدبي بشكله المعاصر ، يجب أن يتجاوز قدر الطاقة والإمكان التفاصيل التاريخية التي قد يملها القارئ والتي تحفل بها الكتب الأوربية التي تؤرخ للدراسات المقارنة ، ويجب أن لا يثقل الباحث في هذا المضمار على القارئ بسرد الأسماء والإشارات المختلفة ، ذلك أن الغاية يجب أن تكون استخلاص فلسفة هذا الاتجاه النقدي ، والتدليل على الحاجة الماسة إليه في عصرنا الراهن ، بعد أن توثقت عرى الاتصالات الثقافية والعلمية والحضارية بين الأمم والشعوب المختلفة ، بفضل وسائل الاتصال في ضل ثورة تكنولوجيا المعلومات إلي نحياها ، ولعله من الأفضل أن يسعى الباحث في مجال الأدب المقارن إلى الإلحاح على أن الأدب المقارن ليس سوى وسيلة من وسائل نقد النصوص والأعمال الأدبية وتقويمها ، أو هو إذا أردنا تحديد ذلك بدقة ، صورة للنقد الأدبي في شكله المعاصر .
ذلك النقد الذي يأخذ في اعتباره أثر هذه الصلات الوثيقة بين الآداب الحديثة ، عند تحليل النصوص الأدبية وتقويمها .
كما يجب أن تلح الدراسات التي تسير في مضمار الدراسات التاريخية حول نشأة الأدب المقارن وتطوره على أن التأثير والتأثر المتبادلين بين الآداب المختلفة أمر حتمي ودائم ، ولا ضرر ولا ضرار فيه الباتة ، بحيث لا نستطيع الزعم بأن أدبنا حديثاً ، مهما كانت أصالته وعراقته ، تخلو من التأثر بآداب أمم أخرى غربية عليه .
وقد حدث في عصرنا الراهن تطورات سياسية واقتصادية وحضارية وتكنولوجية من شأنها أن تغير من النظرية القديمة التي كانت تشترط لقيام دراسة مقارنة ، أن تكون بين أدبين من لغتين مختلفتين ! فهناك شعوب مختلفة تتكلم لغة حديثة واحدة ، كالإنجليزية مثلاً التي يتكلمها شعبان مختلفان في كل شيء هما : الشعب الإنجليزي ، والشعب الأمريكي ، ولا يستطيع الباحث المصنف مهما كان تحفظه العلمي أن يزعم أن الأدبين الإنجليزي والأمريكي المكتوبين بلغة إنجليزية واحدة لا تصح المقارنة بين ظواهرها الفنية المتشابهة .
نعود لنقول : أن بحوث الأدب المقارن ، التي تحاول الغوص وراء مدلول هذا العلم الجديد نسبياً أو المستحدث ، غالباً ما تكون عينها على أصوله في الآداب الغربية ، ولكن يجب ألا تغض الطرف بأي حال من الأحوال عن تجاربه في الأدب العربي القديم ، وملامح التأثر والتأثير المتبادلة بينه وبين آداب العالم القديم وحضاراته جمعاء في المشرق والمغرب .
ولا بد أن نعترف عبر هذه الصفحات أن اتجاهاً ما في الفكر العربي المعاصر ينظر بعين الحذر والشك إلى هذا النوع من الدراسات المقارنة لا في مجال الآداب وحدها ، ولكن في مجالات العلوم الإنسانية بوجه عام .
وهذا الاتجاه يرى فيها نوعاً من التغريب ومسايرة لاتجاه العولمة ، ودعوة إلى رفض التراث الأصيل .
ونرى أن هذه الرؤيا رؤية لا يحالفها الصواب ، وهي تحتاج إلى تقويم ، وهذا التقويم لن يكون إلا من خلال توضيح رؤية المنهج والغرض منه وما يهدف إليه عبر مجالات دراساته وأبحاثه المتنوعة المختلفة .
وقد يكون من الملائم تحديد المجالات المقارنة في : الترجمة عن الآداب الغربية ، أو المقارنة في مجالين أدبيين ، أو بين شاعرين أو أديبين أو نحوها ، أو عرض أثر من ظواهر التأثر بأدب من الآداب الغربية ، أو عرض أثر من ظواهر التأثير في الآداب الغربية ، وقد يتاح المجال لعرض أثر الفكر والحضارة برمتها في مناهج التفكير بوجه عام .
وهذه السطور التي نكتبها تؤمن بأن الأدب فن تقتسمه الأمم في شتى بقاع المعمورة الأرضية ، فالإنسان مدني بطبعه ، لذلك تحتم عليه أن يلتقي بغيره ، يعطيه ويأخذ ، لأن الحياة أخذ وعطاء ، وخلقنا الله تعالى على وجه البسيطة الأرضية شعوباً وأمماً ، من أجل أن نتبادل المنافع والخبرات والآراء والأفكار والتجارب والرؤى ، من أجل واقع أفضل لنا ولذوينا ، فالله جل علاه لم يخلقنا لنتصادم أونتعارك أونتطاحن أو ليفني بعضنا بعضاً فتكون نهاية التاريخ ..
ولكن علينا أن نأخذ ونعطي في شتى مجالات ومناحي الحياة ، والأدب نوع من الفنون المتبادلة بين الأمم ، التي تنتقل من طائفة بشرية إلى أخرى ، ومن أمة إلى غيرها ، وتبعاً لهذا التبادل تتم عملية التأثر والتأثير التي هي واقع لا بد من الإقرار والاعتراف به ، ومن ثم نشأ الأدب المقارن وترعرع وازدهر بين أبحاث ودراسات الآداب العالمية ، وظهرت حوله البحوث في قديمة وحديثه ، وما زالت تصدر إلى يومنا هذا الكتب والمقالات والأطروحات الأكاديمية حول هذا المجال ، ولا سيما في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرهما من البلاد ، بعد أن صار علماً مستقلاً له اتجاهاته وخصائصه .
والدارس للأدب المقارن أو النقد الحديث يحاول قدر الطاقة والإمكان أن يعرض لبعض جوانب من بحوث علم الأدب المقارن ، موضحًا بعض مظاهر التأثر والتأثير بين الآداب المختلفة قديمها وحديثها ، محاولاً استخلاص بعض النتائج في حقل الدرس الأدبي بوجه عام ، والأدب المقارن بوجه خاص .
وقد جرت العادة أن تدأ بحوث هذا المجال بعد التقديم بمداخلة يحاول فيها أن يعرف بالأدب المقارن أو علم التبادل الأدبي بين الشعوب ، ثم يعرض بشكل مطول أو غير مطول لنشأته وتطوره ، وأهمية دراسته ، وكذلك الشروط الواجب توافرها في الباحث المقارني ، والأمور التي يجب أن تراعى عند الدراسة الأدبية المقارنية .
ثم يتناول المبادلات الأدبية بين الأمم ، فيتكلم عن بعضها ، مثل : الكتب ، والمؤلفين ، واللقاء بين الأدباء في المنتديات الأدبية ، والبعوث والهجرات والرحلات ، والحروب والغزو ، وأثر كل ذلك في تفعيل المبادلات الأدبية بين شعوب العالم .
بعد ذلك يتحدث عن الأجناس أو الأنواع الأدبية : فيبدأ بالأنواع الشعرية ، كالملحمة ، والمسرحية الشعرية ، والحكايات على ألسنة الطير والحيوان ، ثم يردف ذلك بالأنواع الأدبية النثرية ، مثل : القصة والأقصوصة والمسرحية النثرية ، والتاريخ أو كتابة التاريخ بأسلوب أدبي ، والحوار والمناظرة ، وبالطبع لا يصح أن يغفل الباحث العربي عن توضيح هذه الأنواع في الأدب العربي القديم والحديث .
ويدلف إلى الموضوعات والنماذج الأدبية ، ثم التأثر والتأثير في الأسلوب بصفة عامة والنظم الشعري بصفة خاصة ، إلى أن يصل إلى أهم المذاهب الأدبية مثل : الكلاسيكية أو الاتباعية ، والرومانسية أو الإبداعية ، والبر ناسية أو مذهب الفن للفن ، والواقعية أو مذهب الحقائق ، والمذهب الرمزي أو الإيحائي ، ويقوم بعد ذلك بتطبيق هذه المذاهب على الأدب العربي الحديث .
ولا ضرر ولا ضرار من أن يعقد فصلاً ختامياً يحاول فيه أن يلقي الضوء الكاشف على تأثر الآداب الأوربية الحديثة بالأدب العربي القديم أو الحديث (إن وجد ) .
وبالطبع ما ذكرناه كان مجرد رأي أو مقترح ، وكل باحث أو كاتب في الأدب له أسلوبه الخاص ، أو فلنقل قناعاته التي ينطلق منها وفقًا لهيكلة بحثه ، دون أي تجاوز لمنهج البحث العلمي بأسسه وخطواته وقواعده .