قبل وصول الإسلاميين إلى أوج هياجهم ومحاولتهم الانقضاض على الحكم بالقوة بداية الثمانينيات في كثير من البلدان العربية، كانت الأسلمة سائرة بخطى سريعة وثابتة، بل كانت (ولا زالت) تدّرس في المدارس والجامعات وحتى في دور الحضانة دون أن تثير رد فعل أحد.
كادت هذه الأصولية الفاشية أن تصبح ثقافة عامة ومشروعا سياسيّا أوحد دون أن ينتبه الناس لخطورتها ولا للمستقبل الكالح الذي كانت تحضره لهم. ولكن تسرّع الأصوليين وعدم صبرهم على الانتظار حال دون اقتطافهم لسلطة نضجت شيئا فشيئا وحان موعد سقوطها يانعة في سلتهم. لولا تعجرف الأصوليين وما ارتكبوه من مناكر لما سلّط أحد الأضواء على ما كانت تصنعه ما يسمى وزارات الدين والتي هي في الأصل وزارات أسلمة و"أصللة"، ولما تساءل الأحرار في العالم عن البترو-إسلامو- دولار وكيف كان يموّل الانغلاق والتخلف في البدء ثم شرع في تمويل كره الآخر وإرهاب الإنسانية غير المسلمة.
عملا بحرية العقيدة وحقوق الإنسان كان الغربيون غافلين عن القنابل الموقوتة التي كانت تُنصّب في بلدانهم عن طريق تمويل الجمعيات الإسلامية وبناء المساجد وغيرها من الحيل..
ولكن لحسن الحظ لكل دين أصوليون يفضحونه. لقد قدم هؤلاء خدمة للعلمانية لم يكن يحلم بها المدافعون عنها أنفسهم إذ بينوا على الأرض عبر طالبان وملالي إيران والسودان وعن طريق الكتابة والظهور على الفضائيات نموذج الدولة الدينية التي ينبغي أن يتجنبها البشر بما هم بشر، لأن هذه "الدولة الإسلامية" كيان يتعارض جملة وتفصيلا مع المواطنية وأبسط حقوق الإنسان بل مع أبسط حسّ سليم. لقد نبّه دعاة الدولة الإسلامية المتلهفون لحصد ما زرعته السلطة ذاتها القوم الغافلين إلى الأضرار الجسيمة التي تلحق بهم جراء تطبيق بعض توجيهات الشريعة في الدول العربية ما- قبل الدولة الأصولية كالطلاق الظالم على الطريقة الشرعية وما يلحق المطلقات من حيف نتيجته. وفرض الصيام على غير الراغبين وتجريم المفطرين.
حذرت مجموعة من الجزائريين بداية رمضان هذا العام في بيان وزعته على الصحافة طالب فيه موقعوه السلطات الجزائرية باحترام قوانين الجمهورية وعلى الخصوص دستور البلاد الذي يضمن في مادته 35 حرية الضمير والرأي وذلك كي لا يتحوّل رمضان 2010 كالمعتاد إلى شهر محاكم تفتيش، وكي لا تتحول قوات الأمن إلى ذراع لها. لقد تم توقيف مفطرين في السنوات الأخيرة وحكم عليهم بعقوبات سجن ثقيلة، كما يضيف البيان، على الرغم من احترامهم للذوق العام، و طالب المتخوفون بعدم تكرار ذلك. ومع ذلك تكررت المداهمات في مناطق عديدة في رمضان الماضي واصطاد رجال الأمن مواطنون ووجهوا لهم تهمة عدم احترام شرائع الدين الإسلامي. وهكذا ينتهك دستور البلاد الذي يؤكد في أكثر من موضع على حرية العقيدة! كيف يمكن اعتبار من يمتنع عن الصيام منتهكا لحرمة الإسلام إذا كان غير مؤمن؟ تلك نماذج مصغرة جزئية لما يأمل الأصوليون بكل أطيافهم تكبيره وتعميمه وتأصيله بالعنف والخديعة وبكل الطرق من أجل إقامة دولة المؤمنين المستنسخين لا دولة المواطنين المختلفين.
وإن اقتنع الإسلاميون باستحالة إقامة شرع الله عن طريق العنف، فلا زالوا يتوهمون إمكانية إقامته بــ"التي هي أحسن" ولو لا تقاعس، كي لا أقول تواطؤ بعض من أسموا أنفسهم "إصلاحيين"، لكانوا قد بدؤوا حدادهم وقبروا موضوع الدولة الإسلامية إلى الأبد. لقد انهزم الأصوليون هزيمة عسكرية نكراء في الجزائر مثلا، ولكن بغباء شديد تحاول السلطة بمباركة بعض مثقفيها أسلمة الحياة في البلد إرضاء للظلامية، وقد تتحوّل هزيمتها العسكرية تلك إلى نصر سياسي مستقبلي كاسح إذا لم يتدارك العصرانيون - في السلطة والمجتمع المدني- الأمر.
لولا حَمَلة حقائب الأصولية الذين يسيرون في ظل الإسلاميين متخفّين تحت حجاب العقلانية والإصلاح الديني وحكايات "من بدّل دينه فلا تقتلوه "، و "أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ". أولئك القوم المروجون لأكذوبة " المشكلة في المسلمين و ليس في الإسلام" و" صلوحيته - في كل شيء- لكل زمان و مكان" إلا في موضوع الحكم، تملقا لحكومات بلدانهم وتقربا من المشيخات الدافعة. ولو لا هذا الدعم المجاني لوضعتُ في الإسلاميين الثقة الكاملة في ارتكاب أخطاء قاتلة ينسفون بها فكرة الدولة الإسلامية من أساسها ومحوها من ذاكرة الشعوب العربية إلى الأبد.
ولئن تظاهر ما أطلق عليهم "المعتدلون" (حكومة ومعارضة وما بينهما) بعدم اتفاقهم مع كل ما يدعو إليه الإسلاميون الحركيون، فليس لأنهم يختلفون مع إيديولوجيتهم وإنما لأن هؤلاء يفسدون عليهم عملية الأسلمة التي ما فتئوا يقومون بها بهدوء منذ سنوات وسنوات. لقد عطل الأصوليون فقط مشروعهم الذي كان يهدف إلى إيصال الأسلمة إلى نقطة اللارجوع.
ليس الأمر سوى انتقال مشروع الدولة الدينية من أيدي أصولية "تقووية" رسمية إلى أصولية فجة مغالبة. ولا يجب أن ينخدع أنصار الدولة المدنية بما يسمى مناهضة "الغلو والأفكار المتطرفة والمارقة"..وكل الشعارات التي يرفعها اليوم دعاة قضوا نصف أعمارهم في مطاردة العقل و الدعوة لسفك الدماء. وإذ نراهم اليوم يجتهدون في تسويق أصولية بوجه إنساني، فالمسألة بالنسبة لهؤلاء الدعاة "التائبين" ليست مجابهة الإسلاميين الحركيين وإنما الوقوف أمامهم كي لا يظهروا عورات الإيديولوجية الإسلامية ذاتها.
وفي هذا السياق ينصح عبد الرحمن شيبان - رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائرين، ووزير شؤون الإسلام الأسبق - مواطنيه إلى ترسيخ قيم دينية لا إنسانية ولكن دون إثارة انتباه العالم المتحضر وكأنه يعلمهم "الأصللة" الناعمة إذ وقف ضد دعوة وجهها نشطاء حقوقيون جزائريون من أجل سن قانون يشدد عقوبة ضرب الزوجات في الجزائر.
يقول مبدع فقه "السادو مازو" أن رئيس الهيئة الحقوقية المطالبة بذلك ليس أرحم بالمرأة من خالقها الذي ذكر كلمة الضرب في القرآن في موضوع تأديب المرأة الناشز. ولم يكتف بذلك بل أضاف أن المرأة تتلذذ بضرب الزوج لها! ولكن من الناحية السياسية يقول الشيخ لا يجوز ضرب المرأة لأن ذلك سيشوه الإسلام. بالعربي الفصيح : اضربوهنّ بعيدا عن عيون الكفار المتربّصة ! أصللوا في السرّ! وهو ما كان يفعله المصريون منذ عقود إذ كان الأقباط يعانون من الشريعة في صمت ولكن حينما فرض الإخوان على السادات تكريس الطبيعة الإسلامية للدولة عن طريق المادة الثانية من الدستور المصري تنبه المسيحيون وغيرهم إلى الخطر الذي بات يحدق بهم وهكذا أصبح للأقباط الحق منطقيا في المطالبة بأقبطة الدولة. فإما علمانية أو دولتين دينيتين؟
أما في إيران فبفضل تصرفات الملالي فهم الإيرانيون المسألة جيدا وهم في أغلبهم اليوم لا يؤمنون بالدولة الإسلامية فحسب بل هم من أكثر الناس بعدا عن التدين. ومع الأيام ستنتبه الأغلبية في العالم العربي التي ما زالت تجد فرقا بين الأصولية العنيفة وأختها "المواربة" أنهما أختان لا بالرضاعة فقط بل بالنسب. ولا فرق بينها إلا في الوسيلة. يولد العربي على الفطرة علمانيا فالدولة والمثقف هما اللذان يؤسلمانه و يؤصلنانه ويؤرهبانه.
لا أذكر ذاك اليهودي الظريف الذي قال يوما أن هتلر قد أفقد معاداة السامية الاحترام. وقد فعل الأصوليون العلنيون نفس الشيء مع الشريعة، وبات الناس يعرفون اليوم - والشكر للأصوليين- ماذا يمكن أن ينتظرهم إذا ما اكتمل الهرم الخرافي وأقيمت الدولة الربانية الموعودة.