لا الزمان باق ٍ ..
و لا .. أنت زائل ..
دام المبدعون
المنفيون الأحياء في القبر ، المتآبدون مع الحياة كالشعر ..
هكذا ، يا أيها
الحشود من الشعراء و العلماء و المفكرين نحيا في أمة تورثنا اليأس و الفقر و
(الحزن في ضوء القمر) ، فتجعلنا نعيد النداء الذي طالما صرخت به كلمات
الماغوط ( سأخون وطني ) .. ! أي وطن هذا الذي يخون المبدعين ، و لا يتذكرهم
إلا حين يكونوا مقعدين على كرسي معدني يصير في النهاية ( الصديق الوفي ) ؟
!
سلاماً لمحمد
الماغوط ـ و أمثاله ـ و هو يعبر روحاً أزلية بين القصائد والأمكنة.. سلاماً
لوقت يتحدى الوقت ، و يظل مضيئاً غربته ، منفاه ، وحضوره الآخر..
سلاماً ، للشجر
العارف و هو يبكيه ، يبكينا ، لتقف أرواح الشعراء والمتصوفة هناك ، قريباً
من المطر أو البئر .. ستلمح أطياف جلجامش و هو يجهش على نفسه ناعياً انكيدو
.. ستسمع الحجارة الصمّـاء و المعاني السابحة مع الليل والنهار ، و تحضر
مسرعة لتحمل النعش ، و تحلق به بعيداً ، ليس وراء الشمس ، بل ، أبعد من
خفايا الضوء و السماء ..
الملائكة منتظرة
(كأسك يا وطن) ، و الريح تتشكل (شقائق نعمان) .. و(الأرجوحة ) ليست سوى
حركة (غربة) و هي تتمشهد واقعاً يومياً مستمراً ومستمراً ..
يا أيها العابر إلى
البداية ، أراك تنفض الكفن و التراب ، تفتح (
غرفتك ـ غرفتنا ـ التي بملايين الجدران ) ، و تصعد حتى امتلاء الرؤى
باللازورد الحالم و هو يسيل من عينيك و قلبك و جلستك الأخيرة .. لا البحر
يغادر الحيرة ، لا ( سلمية) تدرك لماذا حدث ما يحدث ؟ ، و لا دمشق تصحو من
الفقد .. و في أقصى موجة من الشطح : أرى كما ترى القصيدة ، أراك و(سنية
صالح) تفتحان أجنحة اللقاء الأول و الأخير .. ستحكي لك عن تفاصيل الغياب ، و
تحكي لها عن ريح شردتك بين الحياة و الحياة ..
هناك من ينتظر موته ،
و هناك من يصادقه منذ الصوت الأول أو الصدفة الأولى .. كنت صديقاً للموت
الذي لا يعرفه الموت .. و ما زلنا نبكي فيك ، فيهم ، و فينا ، نبكي إبداعنا
الشارد في البرق و الكون مما يصيب الحيرة بحيرة تستغرب كيف نستمر في هذه
الحياة لنكتب ، أو لننكتب ..
لا أحد الآن يكتبك
.. فأنت من كتب على الشعر صورته المتفجرة منذ قرأ أدونيس قصائدك فاحتاروا
هل هي لرامبو أم لسواه .. و أنت من كتب على المسرح كلماته المتحررة .. و
أنت من كتب على الحرية السؤال ..
محمد الماغوط ، هل
وجدت حريتك الآن ؟ أم أنك ستظل تبحث معنا عن حياتنا، حرياتنا ، و أمتنا ؟
سلاماً لك و أنت
تدخل البرزخ لتغرس روحك شجرة أخرى قرب ادوارد سعيد، الحلاج ، المتنبي ،
البياتي ، نزار قباني ، السهروردي ، ابن عربي ، يوسف الخال ، أمل دنقل ،
السياب، الشابي ، و.. و . و ..
هل ستخبرهم بأننا
ننفي الحياة عن المبدع لنحتفي بموته فقط ؟
أم سنطلب باسمك من
أولي الأمر أن ينتبهوا لمن ما زال فوق الأرض ، فيمنحوهم احتراماً و
اعتباراً و لا يطلبون منهم سوى إنجاز مشروعهم الإبداعي ، فلا تقصر أمتنا
العربية في الرعاية و العناية المادية و المعنوية لكل مبدع يحيا في الجحيم
بين الماءين ؟
آه ٍ ، من هذه
اللعنة .. لعنة الماءين .. لعنة الشعر .. لعنة الإبداع ..
لا تخبر الأرواح
بأننا مقصرون بحق أنفسنا قبل أن نقصر بحق مبدعينا ، و لا تشي لـ
(أريشكيجال) بأن حياتها و هي تعبر السبع مراحل في عالمها السفلي أرحم من
حياة تقتل (تموز) و (أدونيس) ، و لا توشوش الغبار الكوني إلا بما لم تقله
.. عفواً .. ، أنت حر الآن .. حر ، فلك أن تقول ما تشاء ، تكتب كما تشاء ، و
لا تنسى أن تحرق رؤاك ، فلربما يمحو النهار الليل ، و تشرق الملكوتات بحمى
البنفسج و الزرقة و الاحتمالات المتأهبة لترفع نعشك عن الأرض ، و تزرعه في
القصيدة ..
لا الزمان باق ٍ ،
و لا .. أنت زائل ..
وحدها الريح تعرف
كيف تذوب في النار لتكون تلك المياه المتجولة بين منفى و غربة و موت ..
و وحدك ، ستظل هنا و
الهنا ليست هنا و لا هناك .. تشير إليّ مجموعتك (البدوي الأحمر) أن اقتربي
قليلا ً من (شرق عدن .. غرب الله ) و لا تنسي أن الذي نفخ روحه كلمة باق
فيمن يورثهم الكلمات ..
سلاماً للكلمة ، تلك
الأكثر جراحاً و شطحاً .. سلاماً للكلمة التي كلما ازدحمت بالغربة و
المنفى و الألم شعّـت بأرواحنا ، و أضاءت ما لا تراه المعاني ، ما لا تدركه
عيون الحدس ..
سلاما ،
لمن يبقى (خارج
السرب) و داخل الأبدية ..
لن أدثرك بالتراب ..
و لن أترك لشعرك أن
يفعل ذلك ..
بل ، سندثرنا بجهلنا
الذي خجل منه الجهل ، و لن ننسى أننا آناء القصيدة ، نقوم مع الشعر من كل
الظلمات و المعابر و الأنفاق و المقابر ، نقوم ليس كالمطر و لا كالبراكين ،
نقوم كما الشعر فقط ، فنخلخل الكون ، و نذكـّـر اللغات بنشأة ستظل قيد
النشأة و التحوّل و التكوّن ..
تبارك أزل القصيدة
..
و تمجّـد من غاب في
المجهول ليكون مجهوله الحاضر ..
لا الزمان باق ٍ
و لا .. أنت زائل
...
و الموت ، قاب
قيامتين ، يموج ، حالماً بأن يشبهك ، حالماً بأن يكون الشعر والشاعر ..
تبارك أبد القصيدة ،
ذاك الذي لم تألفه القصيدة بعد ُ ..