مقدمة
بعد الانسحاب من الاتفاق النووي في شهر مايو من العام الحالي، أعلنت الإدارة الأمريكية إعادة فرض عقوبات على الاقتصاد الإيراني خلال الأشهر القليلة التالية، بما يتضمن حزمة أولى تقيد حيازة الحكومة الإيرانية للدولارات الأمريكية، وقيود على تجارة إيران في بعض المعادن والمواد الخام على رأسها الذهب، والصلب، والألمونيوم، والفحم، بالإضافة إلى حصار بعض الصناعات الإيرانية بعينها، وهي الحزمة التي دخلت حيز التنفيذ في شهر أغسطس. وتأتي بعد ذلك الحزمة الثانية في مطلع شهر نوفمبر المقبل، والتي ستضم عقوبات على قطاع الموانئ والشحن، وعلى البنك المركزي ومؤسسات مصرفية إيرانية بعينها، بالإضافة إلى عقوبات على قطاع الطاقة الإيراني، وعلى الصادرات النفطية على وجه التحديد.[1] وتهدف العقوبات الجديدة إلى إعادة الضغط على النظام الإيراني لتقديم تنازلات في برنامجه النووي، وذلك بإجراءات مشابهة لعقوبات عام 2012، والتي كانت الأكثر فعالية على الاقتصاد الإيراني، وأدت خلال أعوام قليلة إلى التوصل إلى الاتفاق النووي في عام 2015 بعد خسائر كبيرة تكبدها الاقتصاد الإيراني دفعت النظام إلى تقديم تنازلات من خلال الاتفاق. أثر العقوبات على الاقتصاد الإيراني
كان لعقوبات عام 2012 أثر قوي وسريع على الاقتصاد الإيراني، فنتيجة لحزمة العقوبات، والتي استهدفت قطاع الطاقة بالأساس، تراجعت صادرات إيران النفطية تدريجيًا من 2.5 مليون برميل يوميًا في عام 2011، وصولًا إلى 1.1 مليون برميل يوميًا في عام 2015 قبل تخفيف العقوبات بعد الاتفاق النووي. وبالتالي، تراجعت إيرادات تصدير النفط الإيراني من 114.8 مليار دولار في عام 2011، حتى بلغت 27.3 مليار دولار فقط في عام 2015، وهو ما نتج بالإضافة إلى تراجع حجم الصادرات، عن تراجع أسعار النفط العالمية كذلك.[2] ونظرًا لاعتماد الاقتصاد الإيراني على إيرادات تصدير النفط إلى حد كبير، فقد أضرت عقوبات 2012 بأداء الاقتصاد في مجمله. فقبل عقوبات عام 2012، كانت عائدات الصادرات النفطية تمثل 70% من إجمالي عائدات الصادرات الإيرانية،[3] كما شكلت عائدات النفط أيضًا أكثر من نصف الإيرادات العامة الإيرانية قبل العقوبات.[4] وبالتالي، فقد انكمش الناتج الإيراني في عام 2012 بـ 7.4%، واستمر في الانكماش كذلك في أعوام 2013 و2015.[5] وفي مجمله، خسر الاقتصاد الإيراني، وفقًا للتقديرات، ما يقارب الـ 500 مليار دولار بسبب العقوبات وتأثيرها على القطاعات الاقتصادية المختلفة لسنوات عديدة.[6] ولكن حاليًا، فقد تكون مهمة الإدارة الأمريكية في حصار الاقتصاد الإيراني، أكثر صعوبة من عام 2012، بسبب انسحابها الأحادي من الاتفاق النووي، وضعف التأييد الدولي لهذه الخطوة، بالمقارنة بالعقوبات الجماعية التي فرضتها أطراف حليفة للولايات المتحدة في 2012، على رأسها الاتحاد الأوروبي، والذي قام بمقاطعة الصادرات النفطية الإيرانية آنذاك، كما فرض عقوبات على البنوك والتجارة وواردات الغاز الإيرانية، وجمد أصول شركات وأفراد يمدون إيران بالتقنيات،[7] وذلك على العكس من موقف الاتحاد حاليًا، والمتمسك بالاتفاق النووي مع إيران، ومتحفظ على العقوبات الأمريكية الجديدة. وفي حين لا تتعامل الولايات المتحدة مع إيران اقتصاديًا، حتى قبل عقوبات 2012، ولا تستورد النفط منها نهائيًا، فهي لا تعتمد في عقوباتها على مقاطعة إيران كشريك، بل في توقيع عقوبات على الأطراف الأخرى المتعاملة معها لإجبارها على مقاطعتها. ويأتي على رأس شركاء إيران الاقتصاديين أطراف آسيوية وأوروبية، ففي عام 2012 بلغت صادرات إيران النفطية إلى آسيا 1.8 مليون برميل يوميًا، تلتها صادراتها إلى أوروبا، والتي وصلت إلى 780 ألف برميل يوميًا في عام 2011. وقد نجحت حزمة عقوبات 2012 آنذاك في خفض الصادرات النفطية الإيرانية إلى آسيا حتى وصلت إلى 970 ألف برميل يوميًا فقط في عام 2015، وكذلك الصادرات إلى أوروبا التي تراجعت إلى 111 ألف برميل في العام ذاته، قبل أن تتعافى الصادرات إليهما مجددًا بعد تخفيف العقوبات.[8] أما العقوبات الجديدة، ففي حين لم تلتزم بها أوروبا وتقاطع إيران اقتصاديًا، إلا أن العقوبات الأمريكية ستلحق ضررًا مباشرًا بالشركات الأوروبية المتعاملة مع إيران، وتحرمها من التعامل مع الولايات المتحدة تمامًا، كما لن تتمكن الحكومات الأوروبية من تعويض هذه الشركات عن خسائرها حال اختارت التعامل مع إيران، وبالتالي فعلى الأرجح ستختار الشركات الأوروبية الامتثال إلى العقوبات الأمريكية ومقاطعة إيران بغض النظر عن الموقف الرسمي لبلدانها، وهو ما بدأ بالفعل مع انسحاب بعض كبرى شركات النفط الأوروبية من تعاقدات كانت أبرمتها مع إيران بعد الاتفاق النووي، وذلك في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، وإعلانها عن عقوبات مرتقبة.[9] ولكن على الجانب الآخر، فقد تكون الأطراف الآسيوية، الشريك الاقتصادي الأبرز لإيران، أكثر قدرة على تحدي العقوبات الأمريكية، خاصة في ظل النزاعات التجارية بينها وبين الولايات المتحدة، وفي مقدمتها الصين، أبرز شركاء إيران. فحتى الآن، وكما هو الحال في أوروبا لم تؤيد البلدان الآسيوية الموقف الأمريكي في الانسحاب من الاتفاق النووي، أو فرض عقوبات جديدة على إيران. ولكن على العكس من الوضع الأوروبي، فلدى البلدان الآسيوية شركات عملاقة ومؤثرة مملوكة للدولة - وفي مقدمتها الصين، التي تستحوذ وحدها على نصف الصادرات النفطية الإيرانية تقريبًا - وهو ما يجعل هذه الشركات أكثر التزامًا بالموقف الرسمي لبلدانها، ويضاف إلى ذلك عدم تعامل الجزء الأكبر من هذه الشركات العامة مع الولايات المتحدة من الأساس، وبالتالي فهي لا تتخوف من حرمان الولايات المتحدة لها من العمل معها كعقاب على تعاقداتها مع إيران، بل ومن المتوقع بدلًا من ذلك أن تتوسع الشركات الآسيوية في التعاون الاقتصادي مع إيران بعد العقوبات الجديدة استغلالًا للخروج المرتقب للشركات الأوروبية.[10] التوجهات الخارجية الإيرانية
ونظرًا للبدائل التي توفرها البلدان الآسيوية، سواء للأسواق الأوروبية النفطية من جهة، أو للاستثمارات الأوروبية والأمريكية المنسحبة من السوق الإيراني من جهة أخرى، فقد تتراجع احتمالية تقديم النظام الإيراني لتنازلات في برنامجه النووي تحت وطأة الخسائر الاقتصادية، كما تأمل الإدارة الأمريكية. وفي الوقت ذاته ستحافظ إيران في الغالب على علاقاتها مع الأطراف الأوروبية الشريكة في الاتفاق النووي، حتى وإن اختارت شركاتها الخاصة مقاطعة إيران. ومن ناحية أخرى، فقد تكون النتيجة الأبرز للعقوبات الأمريكية الجديدة، واستجابة القطاع الخاص الأوروبي لها، هي طفرة في التقارب الإيراني الآسيوي.
سعت إيران وهي تحت عقوبات 2012 إلى بناء تحالفات آسيوية لكسر عزلتها آنذاك، فأقدمت على بيع النفط للهند بسعر التكلفة وبمدفوعات مؤجلة، كما افتتحت خط سكك حديدية مع كازخستان وتركمنستان بطول 928 كيلومترًا بحثًا عن شركاء تجاريين جدد في آسيا الوسطى، وهو الخط الذي سهل من إيصال السلع الإيرانية إلى الصين وروسيا أيضًا. كما بدأت إيران كذلك في هذه الفترة في إنشاء "خط السلام"، وهو خط أنابيب غاز يصل إلى الهند مرورًا بباكستان، وذلك بالإضافة إلى كونها إحدى البلدان التي ستمر من خلالها البنية التحتية للمشروع الصيني الطموح، مبادرة الحزام والطريق.[11] تسارع تطور العلاقات الآسيوية الإيرانية منذ عام 2016 بعد تخفيف العقوبات الدولية على إيران، وذلك سعيًا من البلدان الآسيوية للاستفادة من الانفتاح المفترض للاقتصاد الإيراني أمام الاستثمارات الأجنبية والأسواق الدولية. وفي هذا الإطار توالت الزيارات من الوفود رفيعة المستوى إلى إيران في عام 2016، بما في ذلك زيارة من الرئيس الصيني وأخرى من الرئيس الكوري الجنوبي، وثالثة من رئيس الوزراء الهندي، وهي الوفود التي قامت بتوقيع اتفاقات للاستثمار والتعاون واستيراد النفط مع الجانب الإيراني.[12] وفي أعقاب الإعلان عن العقوبات الجديدة وبوادر خروج الشركات الأوروبية من إيران، فعلى الأرجح ستدفع الزيادة في فرص الأرباح والاحتكارات أمام الشركات الآسيوية، خاصة العامة، بالإضافة إلى الاحتياج الإيراني لرأس المال والتقنيات الأجنبية، الطرفين إلى مزيد من التقارب لتحقيق مكاسب مشتركة، خاصة مع وجود نزاعات تجارية أمريكية آسيوية قد تدفع بلدان آسيا إلى محاولة التوسع في أسواق إضافية، ولو على سبيل الضغط على الولايات المتحدة. خاتمة
تواجه إيران وضعًا مختلفًا عن الحصار الاقتصادي الذي تعرضت له بعد حزمة عقوبات 2012، والذي أحدث أضرارًا جسيمة باقتصادها ودفعها لتقديم تنازلات وضمانات للمجتمع الدولي في الاتفاق النووي. فبسبب اضطراب علاقات الولايات المتحدة بشركائها الدوليين، في أوروبا وآسيا، بل وفي أمريكا الشمالية والجنوبية كذلك، ستواجه الولايات المتحدة صعوبات في فرض حصر شامل أحادي الجانب على الاقتصاد الإيراني، وتحقيق هدفها المعلن، وهو الوصول بصادرات إيران النفطية إلى الصفر. وستدفع الجهود الأمريكية لزيادة الضغط المباشر وغير المباشر على شركائها المقربين – خاصة في أوروبا – لتفعيل الحصار، نحو تقارب إيراني مع الأطراف الدولية الأقل ارتباطًا بالولايات المتحدة، سواء في آسيا أو الشرق الأوسط، وهو تقارب ترحب به الأطراف المحتملة كما يبدو، ويمنح إيران هامشًا للمناورة والتمسك ببنود الاتفاق النووي الحالية. ولكن على الجانب الآخر، فقد تتمكن الولايات المتحدة من تفعيل الحصار بصورة أكبر باستخدام نزاعاتها التجارية الثنائية، خاصة مع الصين، كورقة تفاوضية في الملف الإيراني، وهو ما يعتمد بالأساس على أولويات السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية وما تستعد لتقديم تنازلات بخصوصه.