رواية (قارئ الطين) : التناص وامتزاج العوالم والأزمنة
مسارات نوفمبر 6, 2016 مسارات أدبية اضف تعليق 17 زيارة
رواية (قارئ الطين) للروائي حسن فالح التي صدرت عن دار سطور 2016 هي المنجز الروائي الثاني لهذا الكاتب الشاب المثابر، بعد منجزه الأول (تكسي كراون)، قدم لنا هذه المرة نصا سرديا ناضجا حافظ فيه على أهم عناصر السرد ( الفكرة، الأسلوب، الحدث، اللغة ، الحوار، الوصف، السرد) واستطاع توظيف ثقافته العامة لخدمة هذا النص ليصل إلى المتلقي عبر سياقات سردية تميزت بالتنوع، وأسلوبا طغى عليه تقنية الوصف الدقيق والمُسهب والشروحات والمحطات التاريخية ، وتناص فكري واجتماعي بين بطلي الرواية عبر ثنائية شكلت العمود الفقري للبناء الهرمي لها، ( خضوري أفندي اليهودي ومحسن ثقافة المسلم) هذا التناص الذي استطاع حسن فالح من خلاله ربط الماضي بالحاضر، والمدينة بالريف، وعصر المدنية والتحضر بعصر الهزائم والانتكاسات، فخلق لنا مشاهد ثلاثية الأبعاد امتزجت فيها العوالم والحقب التاريخية وتداخلت فيها الأزمنة بالرغم من تباعد السنوات بين أحداثها، من عصور سومر وأمجادها ، إلى تسعينيات القرن الماضي حيث الاستبداد والجوع وتكميم الأفواه والقمع الذي عاناه الإنسان العراقي بوجه عام والمثقف بوجه خاص الذي مثله هنا (محسن ثقافة) ذلك الشاب الجنوبي الهارب من بطش النظام بعد فشل انتفاضة آذار 1991 والحاصل على شهادة في التعليم العاشق لصوت كوكب حمزة احد الأصوات التي كانت تمثل اليسار في عراق سبعينات القرن الماضي، عشقه لكوكب حمزة جعل منه مطلوبا لأجهزة النظام الأمنية آنذاك، فقادته أقداره ليصبح جسما غريبا على مجتمع لم يألف عاداته وتقاليده وطريقة معيشته، والذي استطاع الروائي ان يسلط الضوء على المجتمع العراقي في تلك الفترة من خلال تصوير حياته في حي البتاوين القابع وسط بغداد القديمة، حيث الفقر والجوع والانحطاط الأخلاقي والفكري المتشح بالخوف والترقب من القادم المجهول، ليكون هذا الحي شاهدا على المحنة وجزء مهم من مسرح أحداث الرواية التي وظف لها ثيمة متخمة بالغرائبية وتحتاج لجرأة لتناولها بهذا القدر من الوضوح. تبدأ الرواية بجملة من البطاقات التعريفية لإبطالها بمسارين متتاليين، تعريف البطل والظروف البيئية والاجتماعية والسياسية التي ساهمت في صنع شخصيته، ومن ثم وصفه بدقة ، وقد تم ذلك بمعزل عن الجو العام للسرد، كنوع من التمهيد والاستهلال الذي يساعد القارئ على تتبع هذه الشخصيات والانسجام مع حركتها داخل النص، لمعرفته المسبقة بظروفها وطبيعة نشأتها، وقد أوكل الروائي هذه المهمة لنفسه، لذلك نجد إن البداية الحقيقة للرواية تتضح بشكل جلي من صفحة ثمانية وثمانون، حين تبدأ رؤى محسن ثقافة الفنتازية عن خضوري أفندي المعلم اليهودي مالك البيت الذي تحول إلى نزل (خان) فيما بعد والذي شغل إحدى غرفه محسن ثقافة ، لتتحول هذه الرؤى إلى مدخلا ميتافيزيقي لإحداث دراماتيكية ستتوالى بفترة زمنية قصيرة يكون محورها مذكرات خضوري أفندي التي يجدها محسن ثقافة قابعة في إحدى الغرف المهجورة في الخان، ومن خلالها يتعرف محسن ثقافة على عوالم خضوري اليهودي ورحلته الأسطورية إلى ( اليشان) في اهوار جنوب العراق والتي حملت بعدا فنتازيا أسطوريا وظف له الروائي تقنية الوصف الدقيق لخدمتها مستعينا بخزين ثقافي ومعرفي عن حضارة وادي الرافدين و(سومر) بالتحديد وطبيعة حياة سكانها وطريقة معيشتهم وأزيائهم وعمارتهم وطقوسهم الدينية وهيئة قصورهم ومعابدهم ، ليأخذ هذا الجانب حيزا كبيرا من السرد تجاوز الخمسين صفحة..
شكلت هذه المذكرات نقطة تحول مفصلية في الرواية أدرك من خلالها محسن ثقافة أن هناك تناص وأوجه تشابه بينه وبين خضوري أفندي، ووجود مشتركات تربطهما ببعض، على الرغم من الفارق الزمني الذي يفصلهما، والذي تجاوز الأربعون عام ، هذه المشتركات التي صنعتها الظروف الاجتماعية والسياسية وتحكم في مسارها انتمائهم ألاثني .. محسن ثقافة المعلم المثقف الهارب من الجنوب بسبب انتمائه ألاثني وحبه لكوكب حمزة، واتهامه من قبل أجهزة الأمن آنذاك بمعاداته للنظام، والذي عاش محنة الغربة والتشرد والجوع والخوف والترقب وهو يسكن احد خانات بغداد القديمة ( بيت خضوري اليهودي سابقا) ويعمل مضوي في إحدى السينمات والذي ابقى عالمه القديم سرا لا يبوح به لأحد .. ( فلا احد يعرف شيئا عن محسن المعلم ، القادم من الجنوب، المحمل بالملح والطين ، والحان كوكب حمزة ، المتهم بالاستماع إليها)، كان يخشى في عالمه الجديد كل شيء حتى الجنس الذي كانت تمثله ( كمليا) بائعة الهوى جارته في الخان ، هذه المحنة عبر عنها في حديثه مع نفسه ( تيار وعي باطني) عاشه في لحظة يأس..( لينبثق كل شيء عنك لأنك ما زلت حيا، وكن كما أنت ، وعش يوما بيوم، وانعم بالسلام وجلاء البصيرة، ولا تنافس أحدا لأنك في موقع لا يسمح بالمنافسة ، وعش بسلام ، واعلم أن لا سلام بالكلمات بل بالصمت…. امض لياليك بهذه الطريقة ، مترقبا، منتظرا، فأنت أفضل حال في الليل) .. هكذا بدت حياة محسن ثقافة التي اقتربت بشكل أو بآخر من حياة خضوري أفندي المعلم اليهودي الذي عاش قبله بأربعة عقود في نفس المكان، والذي عانى نفس المحنة لكن بتفاصيل أكثر تشعبا وتعقيدا، كونه يعيش عقدة الانتماء وهاجس الخوف من الترحيل والإقصاء والنفي بسبب انتمائه ألاثني، وحبه لأرضه ، لأهلها ، لتراثها ، لتاريخها ، لحضارتها، شعوره بالانتماء الفطري لها ولد لديه الشعور بالخوف والترقب وانتظار القادم المجهول، الذي كان أسوئه التهجير القسري من العراق ..( كان يعتقد إن الوقت سيمر عليه وهو يجلس على كرسي متحرك بشعر خطه الشيب ، أمام النافورة التي تتوسط البيت ، بالقرب من زوجته ليلى، وهي ترتدي نظاراتها الطبية محاولة أن لا تخطئ في تطريز مناديل أحفادها وهم ينتشرون بين أروقة البيت ….. ليقص عليهم إحدى قصص حضارة بلد عريق، ويروي لهم قصة كلكامش وصديقه انكيدو ) ، لكن الذي كان يخشاه خضوري أفندي قد حصل وهجر هو وعائلته من العراق إلى المنفى ليغادر ارض أبائه ويعيش محنة الغربة والإقصاء كما عاشها من بعده نظيره محسن ثقافة، هذا التوازي والتناص في حياتهما خلق نوع من التماهي داخل السرد ليصبح خضوري أفندي قارئ لألواح الطين في مملكة سومر بعد أن وقع عليه الاختيار من قبل الشيخة بسماية و العزيزة إحدى ملكات سومر القديمة، ويصبح محسن ثقافة قارئ لمذكرات خضوري ومنيط اللثام عن رحلته الأسطورية إلى ( اليشان) ورؤيته لعوالم غابرة مازالت تعيش أمجادها في مكان ما في هذه الأرض، هذا التقاسم في الأدوار بين بطلي الرواية حمل دلالات قصدية تحمل أبعادا اجتماعية ودينية وسياسية، كان لها أن تحمل زخما اكبر لو إن الاختيار قد وقع على محسن ثقافة ليكون ( قارئ للطين) بدلا من خضوري أفندي ، ويبدو إن حسن فالح قد رسم شخصية محسن ثقافة بقدرات لا يمكن لها أن تلعب مثل هذا الدور، فنزعته الانهزامية هي من جردته من نيل هذا الشرف وهذه المهمة التي تأسس عليها السياق الهرمي للنص، فقد بدا محسن ثقافة محبطا مترددا خائفا، بعكس نظيره خضوري أفندي، وهذا يعود إلى أسباب جوهرية تمتد إلى جذور نشأته في بيئة بسيطة فطرية تعاني من التهميش والفقر والحرمان كونه قادم من الجنوب، ولكونه يعاني من الملاحقة الأمنية إضافة إلى فقره وانزوائه النفسي والاجتماعي، ومثل هكذا شخصية على الرغم من ثقافتها وسعة افقها إلا إنها لا تمتلك المؤهلات التي تمكن صاحبها بان يصبح قارئ وكاتب لألواح الطين في مملكة سومر المفترضة.
تميزت هذه الرواية بكثرة الشروحات التقريرية والسرد التاريخي، مثل..( الطقوس اليهودية، عادات اليهود، حياة أهل الاهوار، وصف وسير ذاتية لبعض الشخصيات، التعريف بأماكن ومواقع والإسهاب بوصفها، شروح لمعنى مفردة عراق، سرد تاريخي عن فرهود اليهود) كل هذا الإسهاب في الشرح يترك انطباع لدى المتلقي بان الروائي يمتلك ثقافة واسعة وقدرة استثنائية على توظيف هذه الثقافة داخل السرد، وتحويلها إلى إحدى أدواته في صناعة النص .. لكن في نفس الوقت نجد أن الإكثار من هذه الشروحات والاستغراق بالسرد التاريخي قد يضعف النص ويربكه، ويبدو إن حسن فالح قد اعد هذه الرواية لتأخذ بعدا عربيا وعالميا ، وقد استعان بهذه الشروحات والتفاصيل التاريخية لإخراجها من نطاقها المحلي، كونه كان يفسر ويشرح بعض البديهيات بالنسبة للقارئ العراقي .. وهنا أود أن أبين، إن الخروج بأي منجز أدبي إلى العالمية يبدأ بمحليته وبقدرة كاتبه على التمثيل الأصدق لبيئته التي انبثق منها ومدى التصاقه بها، وقد أجاد الروائي في ذلك ، فقد صور لنا تلك العوالم بطريقة جميلة تنم عن عمق في الرؤية واطلاع واسع عن طبيعة حياتها وظروفها المحيطة بها، على الرغم من الاختلاف ألزماني والمكاني بينها..( أحياء بغداد القديمة، حضارة سومر ، الاهوار) ، ولم يكن بحاجة إلى كل تلك الشروحات والسرد التاريخي لتوضيح ذلك.
في هذه الرواية ذات المائتين والسبعة والسبعون صفحة ، ماذا اراد الكاتب إيصاله إلى القارئ ؟ ولنبدأ من العنوان ( قارئ الطين).. الطين هو رمز للنشأة الأولى ببعدها المثيولوجي، هو التجذر ، عنوان حضارة وادي الرافدين وسفرها المقروء، وهذا ما أشار إليه ..( كان ذلك ميراثا منقولا من مسلة نرام سين ، وهو يقود الجاموس المقدس بعصا غليظة ، لكن هذه العصا لم تكن لضربها بل لترويض مزاجها الطيني).. وفي موضع آخر من الرواية..( هناك في الجنوب حيث الطين يكمن الفردوس فوق الماء وبين ختلات القصب) ، وهناك إشارة أخرى في النص تبين الارتباط المادي والنفسي للانسان العراقي ببيئته وتصويره على انه إحدى أهم نتاجاتها بوصفه لأبناء الجنوب سكان الاهوار ..( الوجوه المتشابهة لأنها بسمرة واحدة، لم تتلون بغير لون الشمس، الأرجل تعودت على رطوبة الأرض وخشونتها لقد كانوا حقيقيين تذبل الابتسامة عند حزنهم ويفرح الجميع لفرح أي شخص بينهم، الطين، الملح، القصب، اليشن، كلها مفردات ما ان انتزعتها من مكان حتى تختفي أهم عناوينه).. لقد صور لنا الروائي وحدة الانتماء بغض النظر عن العرق والدين في أمنية لخضوري أفندي بان ترافقه جدته سلطانه في رحلته إلى اليشان..( كم تمنى لو إنها كانت ترتدي زيا سومريا تتكئ على عصاها الصاجية الحمراء، وهي تلقي التحية على العزيزة، وتجلس بالقرب منه وتضمه اليها، وتخبره بأنه عليه أن يبقى هنا كبقية لكل من سيرحلون، وبمكان امن لا يفرق الناس في انتماءك لطائفة أو عرق).. وقد سلط الروائي الضوء على جزئية تاريخية مهمة عاشها المجتمع العراقي ساهمت بشكل كبير في بلورة نمطية اجتماعية دخيلة على أعراف وعادات وأخلاق هذا المجتمع أدت إلى تداعي المنظومة الأخلاقية له ، وهذه الجزئية تمثلت بفترة الحصار الاقتصادي في تسعينيات القرن الماضي وما رافقه من جوع وظلم وحرمان ، في مشهد يصور دخول محسن ثقافة إلى غرفته ..( رجع إلى غرفته بهدوء مازالت صورة الكلب وبحثه المستمر في المزابل تشغله ، كانت تضوع من غرفته رائحة الرطوبة …الجوع يزيده فراغا إلى فراغه المعدوي ، أرخى يحك رقبته من الخلف كان بحاجة إلى أن يشغل نفسه بشيء يلهيه عن الجوع)، وفي محطة أخرى يصور لنا الروائي هذا الواقع المرير ..( في يوم ما وجدوا طفلا ملفوفا بملاءة تبدل لونها من الأبيض إلى البني، ومن حسن حظ هذا الطفل انه مازال على قيد الحياة، ومن حسن حظه انه تربى ببيت دعارة ).. ويبدو إن الروائي قد نجح في إيصال مقاصده إلى المتلقي ، ليعبر عن ذلك في جملة اختتم فيها نصه، استطاع من خلالها لملمة خيوطه التي تناثرت وتشعبت، حين انهار الخان بسبب تقادمه لتندثر تحت ركامه مذكرات خضوري أفندي، ويندثر معها عالمه المثقل بالأمنيات والأحلام والمخاوف والرؤى، ضمن متوالية تجتر نفسها في ذات المكان..( في هذا المكان كان بيت يهودي، وهنا كان الخان، وهنا ستُبنى بناية أخرى).. وهنا وبعد هذه النهاية الدراماتيكية للإحداث نجد الروائي قد وجد مخرجا منطقيا يعيد فيه الرواية إلى وعيها ورشدها بعد أن هامت في عوالم الخيال والفنتازيا، وبعد أن أدت الدور الذي أراده لها، ليضع لنا هامشا من ست صفحات في محاولة تجريبية جميلة، يبين لنا فيها إن كل ما قراناه ما هو إلا مسودة لنص غير مطبوع لشخص يدعى ( ستار جودي) كانوا قد وجدوها بعد موته تقبع في دولاب صغير في غرفته بفندق قديم في حي بغدادي لا يبعد كثيرا عن مسرح أحداث الرواية، وبهذا المخرج وصلنا إلى نهاية منطقية للرواية، نسفت الجانب الخيالي من السرد وأبقت على الغاية والقصد.
احمد عواد الخزاعي