يقتضي التفكير في مستقبل الحرية كقيمة إنسانية في ظل الحراك العربي الانطلاق من حقيقتين اثنتين، إحداهما ترتبط بالتنظير للحرية في الفكر العربي المعاصر، والثانية تقترن بواقع الحرية في العالم العربي قبل وبعد الحراك العربي؛ فأما الحقيقة الأولى فمفادها أن الفكر العربي المعاصر في تعدد قراءاته واختلاف مرجعيات معالجته للحرية يكاد يشبه الفكر الغربي المعاصر الذي توزع فيه التفكير في الحرية على حقول معرفية عدة، وضرب بجذوره في الميتافيزيقا والسياسة والأخلاق والتاريخ. بيد أن هذا التشابه الظاهري يخفي تباينا صارخا مفاده أن الحرية اعتبرت في الفكر الغربي، حديثه ومعاصره، قضية مركزية؛ أما عندنا، فقد ظلت الحرية قضية هامشية، يشهد على ذلك النقص البين في أدبياتها ونصوصها، رغم بعض المحاولات الجادة التي دشنت للتقعيد النظري وتجذير الطرح في أسئلة الحرية.
وأما الحقيقة الثانية، فمؤداها أن التفكير في سؤال الحرية في الفكر العربي المعاصر لم يكن مصحوبا بتحولات على أرض الواقع؛ ففي الوقت الذي حصل فيه تطور في التفكير في سؤال الحرية في الفكر العربي المعاصر، وفي الوقت الذي اعتبر فيه المفكر العربي المعاصر الحرية مقوما من مقومات الحداثة، وعنصرا لازما لقيام نهضة عربية ثانية، نجد أن الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والحقوقي لازال يئن تحت وطأة الاستبداد وغياب الحرية، وهو ما يعكس، في العمق، مفارقة الحضور والغياب: حضور الحرية على مستوى التصور، وغيابها على أرض الواقع. والسؤال الذي ينبغي طرحه والتفكير فيه في هذا الباب هو: ما تأثير هذه المفارقة على مستقبل الحرية كقيمة إنسانية في ظل الحراك العربي؟
للإجابة عن هذا السؤال تقتضي الضرورة المنطقية النظر، أولا، في الباعث على مفارقة الحرية العربية، وذلك بالانفتاح على كيفيات تعامل الفكر العربي المعاصر مع سؤال الحرية، وباختبار مدى تأثير الفكر في الواقع، أي مدى إسهام الأفكار والرؤى التي بلورها الفكر العربي المعاصر بصدد الحرية في تبيئة الليبرالية في تربة الواقع العربي المعاصر. وبيان ذلك كله كما يلي:
1- تنظير الحرية العربية
لو جاز لنا استلهام النمذجة التي اقترحها كمال عبد اللطيف لتحقيب الفكر العربي المعاصر (لحظة “عقلانية وعي الفارق”، لحظة “عقلانية المقايسة والتماثل”، لحظة “عقلانية وعي التأصيل النظري”) لأجل تحديد مراتب التفكير في سؤال الحرية في الفكر العربي المعاصر، ولو استعنا بمنهج تاريخي نقدي للكشف عن علاقة تحولات النظر إلى الحرية في الفكر العربي المعاصر بتبيئة الحرية في الواقع العربي المعاصر، وممارستها على المستوى الحقوقي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، لحق لنا استنتاج معطيات كثيرة بصدد التنظير للحرية العربية، منها:
– إن التفكير في سؤال الحرية في الفكر العربي المعاصر استغرق قرنا ونيف، ومر بمراحل امتدت من الوعي إلى التأصيل النظري. ففي مرحلة التأسيس، مثلا، جاء وعي الفكر العربي المعاصر بمفهوم الحرية ملتبسا لأسباب متعددة، منها: أن الفقهاء لم يتمثلوا المفهوم الغربي للحرية خير تمثل (الفقية أحمد الناصري، والفقيه محمد بن جعفر الكتاني نموذجا)؛ ومنها أن اللغة التي تعامل بها رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي مع المرجعية الليبرالية جاءت ملتبسة، ليس فقط لسوء الترجمة، بل لجسامة مهمتهما في إقناع حراس التقليد؛ ومنها، بحسب العروي، أن الحرية التي نجد لها شواهد في التراث الفقهي والكلامي والصوفي كانت مفهوما قانونيا وأخلاقيا، ولم تكن مفهوما اجتماعيا وسياسيا متعلقا بالفرد، أي أنها لم تكن حرية ليبرالية مشخصة متحققة نسبية، وإنما كانت حرية مجردة مطلقة.
– إن الفكر العربي المعاصر تدرج في تناوله لسؤال الحرية من لحظة الوعي إلى لحظة المماثلة التاريخية التي أفرزت مواقف فكرية متباينة بصدد النظر إلى الحرية. فمن المفكرين العرب من نظر إلى الحرية باعتبارها مناط التكليف والمسؤولية، والطرف النقيض للاستبداد، والقاعدة الأولى في إصلاح المجتمع (لطفي السيد نموذجا)؛ ومنهم من نأى عن آراء الفقهاء المحافظين فاقتنع بالحرية الليبرالية، واعتبر حرية التفكير حقا عقليا لا يجوز أن يحد بما تحد به الحقوق المستمدة من الطبيعة وحدها (علال الفاسي نموذجا)؛ ومنهم من قارن بين المفهوم الغربي للحرية والمفهوم الإسلامي للحرية، بهدف رفض المفهوم الغربي للحرية والإعلاء من شأن المفهوم الإسلامي للحرية (عبد القادر عودة نموذجا)؛ ومنهم من أرسى نقدا لمفهوم الحرية الغربي لا لرفضه بل لفهمه وتعقله (نقد محمد عزيز الحبابي لمفهوم الحرية عند هنري برغسون نموذجا). وبقدر ما سمح بعض هذه المواقف الفكرية باستيعاب مفهوم الحرية باعتباره مقوما من مقومات الحداثة، بقدر ما دفع بعضها الآخر في اتجاه إمكانية استغناء العرب عن القيم الكونية؛ وهو ما نتج عنه الاصطدام مع المرجعية العالمية لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية الحاملة للقيم الكونية.
– إن الفكر العربي المعاصر تجاوز، في مقاربته لسؤال الحرية، لحظة المماثلة التاريخية، في الربع الأخير من القرن العشرين، بما يمكن دعوته بمساعي التأصيل النظري للفكر الليبرالي التي نضجت وأينعت بفضل كتابات عبد الله العروي وعلي أومليل ومحمد أركون وهشام جعيط وناصيف نصار، مع ما طبع هذه الكتابات من اختلاف وجهات النظر إلى موضوعة الحرية؛ فبينما يلح العروي على ضرورة الانتباه إلى اختلاف السياقات لحظة نقل المفاهيم من بيئة إلى خرى، وعلى ضرورة العودة إلى التاريخ الإسلامي للرد على المستشرقين الذين نفوا عن هذا التاريخ أي تصور أو ممارسة للحرية؛ وبينما يرى هشام جعيط في حكاية طرد آدم من الجنة رمزا لولادة الحرية ولمخاطر هذه الحرية، ويدعو إلى الانطلاق من هذه الحكاية لتأصيل النظر الفلسفي في سؤال الحرية؛ يرى ناصيف نصار أن المقصد الأسمى للتأصيل النظري لسؤال الحرية هو إعادة بناء حقل الحرية، وتعيين المبادئ الأساسية التي تقوم عليها؛ وأول مهمة في مسار إعادة بناء حقل الحرية هي إعادة بناء الليبرالية، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالنظر في المبادئ التي تقوم عليها فلسفة الليبرالية؛ وكل قراءة لهذه المبادئ هي بالأساس هندسة جديدة لليبرالية من منظور إنساني وكوني، ليبرالية متواصلة مع تراثها، لكنها مجردة في الحاضر مما علق بها من انحرافات وسوء فهم في مراحل تطورها المختلفة.
*باحث وكاتب من المغرب