تَذكُّر الماضي كُلِّه
(*)اكتشف اختصاصيو العلوم العصبية أن هناك أشخاصا يمكنهم تذكر تفاصيل
أحداث جرت قبل نحو عشرين عامًا، تماما كما لو أنها حصلت البارحة.
-
باختصار منذ ما يقارب أربعة عشر عاما، ظهر شخص يدّعي امتلاك استدعاء خارق لأحداث الماضي. والدعاية التي حصلت لهذه الحالة فتحت المجال لاكتشاف مئات الحالات المماثلة التي يؤكد أصحابها تمتعهم بذاكرة فائقة مشابهة. ويؤكد الاختبار وجود عشرات قليلة من بين هذه المجموعة يمكنها تذكر تفاصيل نوعية بعد عقود من حدوثها. يقوم اختصاصيو العلوم العصبية حاليا باستكشاف البنية التحتية البيولوجية لذاكرة ذات مقدرة عالية تتعلق بالسيرة الذاتية . |
في أواخر ربيع عام 2000 تلقى أحدنا (<مِگا>) رسالة إلكترونية من سيدة تدعى <J. پرايس> كانت تحاول التغلب على الأعباء الناجمة عن ذاكرتها الخاصة، وتقول الرسالة في أحد أجزائها:
«بينما كنت جالسة أحاول معرفة الطريقة المثلى لشرح سبب كتابتي إليكم .... كنت في الوقت ذاته آمل بمساعدتكم. إن عمري حاليا أربعة وثلاثون عاما ولكن منذ سن الحادية عشرة امتلكت هذه المقدرة التي لا تصدق على استدعاء الماضي... إنني أستطيع أن أخبرك عن أي تاريخ بين عام 1974 وحتى الآن: عن اسم اليوم، ماذا كنت أعمل في ذلك اليوم، وعن الأحداث المهمة التي حصلت فيه... وأستطيع وصفها لك أيضا. أنا لا أنظر مسبقا إلى التقويم، كما أنني لم أقرأ صحفا خلال الأربع والعشرين سنة الماضية.»
لقد كنا متشككين في ادعاءات <پرايس> ولكنها أثارت فضولي إلى درجة أنني دعوتها إلى مركز أبحاثنا بجامعة كاليفورنيا في إيرڤين، حيث ندرس «الأسس العصبية البيولوجية للتعلم والذاكرة»(1). وفي تاريخ 24/6، وبعد أشهر قليلة، حضرت <پرايس> إلى موعدها، وكان يوم سبت. وكنا متأكدين من التاريخ لأن زيارتها كانت قد سجلت في تقويم المختبر. لقد اكتشفنا بسرعة أن <پرايس> تتذكر أحداثا كهذه دون الحاجة إلى أي تقويم.
لقد كنا حذرين جدا في ذلك اللقاء الأول وتطلعنا إلى بعض الوسائل الموضوعية لتقييم ادعاءاتها. لم تكن هناك طريقة فورية للتحقق مما قالته حول ماضيها الخاص. بيد أننا استطعنا أن نسألها عن الأحداث العامة التي حدثت لها خلال حياتها. ولدينا نسخة من كتاب صغير مطبوع لتوه بعنوان «القرن العشرون يوما بيوم»(2)، بقلم <Sh. لوكاس>(3)، ويحتوي مقالات عن أحداث يومية جديدة تعود إلى مئة عام.
لقد بدأنا في منتصف السبعينات عندما بدأت <پرايس> وللمرة الأولى تدرك أن ذاكرتها غير عادية. وعندما سألناها عما حدث في تاريخ 16/8/1977، أجابت وبسرعة بأنه كان يوم وفاة (4). وعندما استفهمنا عن تاريخ 6/6/1978 أخبرتنا بأنه كان يوم الموافقة على الاستفتاء رقم 13 لولاية كاليفورنيا والمتعلق بتحديد ضرائب الملكية. كما أفادت بأن يوم 25/5/1979، كان يوم تحطم طائرة في شيكاغو. وفي 3/4/1991 كانت الحلقة الأخيرة من مسلسل دالاس. وهكذا دواليك. لقد كانت إجابات <پرايس> صحيحة في كل مرة.
بعدئذ عكسنا العملية وسألنا <پرايس> أن تسمي التاريخ لحدث مهم، كمتى أُطلق الرصاص على <J .R> ؟ ومتى ضرب البوليس <R. كينگ>(5)؟ مرة أخرى، كانت <پرايس> في كل مرة تجيب بسرعة وبشكل صحيح. وخلال اختبارنا لها تعرفَتْ على خطأ في كتاب الأحداث المهمة عن بداية أحداث أزمة احتجاز الرهائن في سفارة الولايات المتحدة بإيران عام 1979.
ومع أن العديد من التواريخ التي جرى اختبارها كانت أحداثا عامة وقد حظيت باهتمام إعلامي كبير، فإن <پرايس>، تفوقت أيضا في تذكر الأحداث الأقل أهمية. لقد تذكرتْ موت <B. كروسبي>(6) في ملعب للگولف بإسبانيا بتاريخ 14/10/1977. ولما سألناها: كيف عرفت ذلك؟ أجابت بأنها في السنة الحادية عشرة من عمرها سمعت خبر وفاة <كروسبي> من خلال راديو السيارة، بينما كانت أمها تقلها إلى لعبة لكرة القدم. وفي إحدى المقابلات، وصفت قدرتها على تذكر الأحداث بكونها بصرية: «عندما أسمع تاريخ، فأنا أراه حيا بيومه وشهره وسنته.»
وفي مقابلة لاحقة في الشهر 3/2003، فقد تذكرت، مع أنها يهودية، وبخطأ وحيد تواريخ أعياد الفصح المسيحية الثلاثة والعشرين الأخيرة، وأخبرتنا عما فعلته في كل من هذه التواريخ. وقد تأكدنا من صحة الكثير من ادعاءاتها بتفحص مذكرات احتفظت بها لسنوات. وفيما يخص بعضا من ذاكرتها الخاصة فقد عدنا إلى سجلاتنا التي وثقت اختباراتنا لذاكرتها. وفي لقاء لاحق تذكرت بدقة تاريخ كل مقابلاتها وتفاصيل الأسئلة التي سألناها حول استدعائها لأحداث الماضي.
وبعد اقتناعنا بأن قدرات <پرايس> التسجيلية حقيقية، أردنا أن نعرف ما إذا كانت هذه الموهبة تشمل المظاهر الأخرى للتذكر. وقد توصلنا إلى أنها لا تتمتع ب«ذاكرة تصويرية»، حيث إنها لم تتذكر التفاصيل الدقيقة للتجربة اليومية. وكان لديها اضطراب في تذكر أي من مفاتيحها يناسب قفلا ما. وكانت قد عملت قائمة بالأشياء التي يتعين عليها عملها يوميا. كما أنها لم تبرع في الاحتفاظ بذاكرة عن طريق الاستظهار(7).
وكانت <پرايس> تتمتع باستدعاء فوري لأيام الأسبوع لأي تاريخ في حياتها بعد السنة الحادية عشرة من عمره، ويتميز هذا الاستدعاء بتنظيم سريع الدقة، مع دقة في تذكر معظم أيام حياتها منذ ما قبل البلوغ وحتى الآن. وهذا النوع الخاص من الذاكرة والذي ندعوه «الذاكرة الفائقة للسيرة الذاتية (HSAM)ا(8)»، لم يُدرس من قبل قط. نحن الآن نتعمق أكثر في الجذور النفسية والحيوية لهذه الذاكرة أملا بالتوصل إلى فهم هذه الآليات، التي قد تزودنا برؤية إجمالية للآليات الكامنة وراء الذاكرة.
هل الذاكرة الفائقة شائعة؟(**)
لسنوات عديدة، كنا نشير إلى <پرايس> بالأحرف الوهمية الأولى «A.J» لأنها لم ترغب في أن تُعرف. وبعد نشر مقال عن ذاكرتها الاستثنائية عام 2006، حظي عملنا باهتمام دولي واسع. عندئذ ظهرنا عبر الإذاعة الوطنية الشعبية في 19 و 20/4/2006. وعندها قررت <پرايس> بأن تخرج من الظل، ومن ثم نشرت مذكراتها عام 2008 بعنوان «المرأة التي لا تستطيع النسيان»(9).
وبعد هذا الانتشار الإعلامي الواسع، اتصل بنا أشخاص آخرون ظنوا أنهم يمتلكون، أو ربما يمتلكون قدرات مماثلة لذاكرة <پرايس>. وبعدما خضع هؤلاء لاختبارات صارمة، ميزنا منهم خمسة أشخاص من ذوي الذاكرة الفائقة HSAM. وفي تاريخ 19/12/2010، ظهر هؤلاء الأشخاص الخمسة في برنامج ستين دقيقة. وخلال ساعات البث الهوائي، تلقينا عشرات الرسائل الإلكترونية من أشخاص محتملين، وخلال أيام وصلتنا مئات الرسائل الإلكترونية. لقد اتصلنا هاتفيا بعدد من هؤلاء الأشخاص وجرى اختبارهم بالسؤال عن الرياضة، والأحداث السياسية والأشخاص المشهورين والأعياد، وحوادث الطائرات والأحداث المهمة الأخرى.
كما بدأنا في مركزنا بإجراءات اختبارية رسمية أكثر. لقد جندنا عشرات الأشخاص كعينة شاهد(10) وبأعمار مماثلة لمجموعة الذاكرة الفائقة، وكلتا المجموعتين تحتويان نسبا متشابهة من الذكور والإناث. وخلال الاختبار، هناك عدد قليل ممن ادعوا امتلاك ذاكرة استثنائية وكان أداؤهم أسوأ من مجموعة الشاهد. وكان من الواضح أن اعتقادك بامتلاك ذاكرة استثنائية لا يجعلك كذلك.
إن الأربعين شخصا الذين كان أداؤهم جيدا إضافة إلى مجموعة الشاهد، خضعوا لاختبارات إضافية، حيث تعين عليهم معرفة اليوم من الأسبوع لكل من عشرة تواريخ منتقاة عشوائيا إضافة إلى معرفة الأحداث المهمة التي حصلت في تلك الأيام أو قريبا منها، وعن بعض مما حدث لهم في تلك الأيام. فقد تفوق الأشخاص ذوو الذاكرة الفائقة HSAM بشكل ملحوظ جدا على مجموعة الشاهد في جميع أجزاء هذا الاختبار.
ومن ثم استدعينا، لمزيد من الاختبارات في مختبرنا بجامعة كاليفورنيا في إيرڤين، الأحد عشر شخصا الأوائل من بين الأشخاص ذوي الذاكرة الفائقة HSAM. وقد طُلب إليهم في البداية الإجابة عن أسئلة تتعلق بخمس تجارب شخصية كنا قادرين على التحقق منها: أحداث حصلت مثلا في يومهم الجامعي الأول، في المدرسة الابتدائية، في احتفال عيد ميلادهم الثامن عشر، وما هو عنوان وتفاصيل إقامتهم الأولى بعد تركهم منزل العائلة وتاريخ آخر امتحان في الكلية. لقد تفوق هؤلاء الأحد عشر شخصا من ذوي الذاكرة الفائقة HSAM على مجموعة الشاهد بفارق واسع، حيث حصلوا على درجة 85% كإجابة عن هذه الأسئلة مقابل 8% لمجموعة الشاهد. وبذلك استخلصنا أن هؤلاء الأحد عشر شخصا، الذين تراوحت أعمارهم بين 27 إلى 60 عاما، يتمتعون بذاكرة فائقة HSAM.
لتمييز ذوي الذاكرة الفائقة HSAM عن الآخرين حاولنا أيضا إجراء مجموعة من اختبارات الذاكرة في المختبر. وفيها تفوقت مجموعة الذاكرة الفائقة HSAM على مجموعة الشاهد فقط في اختبارين من أصل ثمانية: أحدها اختبار توافق الأسماء والوجوه واختبار آخر عن ذاكرة الأشياء البصرية. وفي كلا الاختبارين تطابقت درجات المجموعتين إلى درجة كبيرة جدا. وهناك بعض المزايا النوعية التي تميز مجموعة الذاكرة الفائقة HSAM. ومن أصل أحد عشر شخصا كان منهم خمسة عسراويون وذلك أعلى من المعدل المألوف، إضافة إلى ذلك، فقد حصلوا على درجات أعلى في اختبار سمات الشخصية الوسواسية. وفي المقابلات الفردية (شخص لشخص) ظهر عليهم أيضا بعض السلوك القسري، كاكتنازهم الممتلكات وبذلهم لجهود مفرطة في تجنب لمس الأشياء المحتمل حملها للجراثيم.
وهناك سؤال أبعد من ذلك في محاولتنا فهم الذاكرة الفائقة، كان فيما إذا كانت لهذه الاختلافات في الذاكرة علاقة باختلافات في بنية أدمغة مجموعتنا. فقد أظهر الرنين المغنطيسي الدماغي (MRI)ا(11) بأن مناطق دماغية عديدة لأدمغة ذوي الذاكرة الفائقة HSAM تختلف عن أدمغة مجموعة الشاهد. وثمة مناطق قليلة من المادة الرمادية(12) (نسيج مكون من أجسام الخلايا العصبونية) ومن المادة البيضاء(13) (الاستطالات السلكية الشكل للعصبونات neurons والمغطاة بمادة عازلة ضاربة للبياض تدعى النخاعين(14))، اختلفت عن مجموعة الشاهد في الحجم والشكل. إن بنية ألياف المادة البيضاء تشير إلى فعالية أكبر في نقل المعلومات بين المناطق الدماغية.
إن موجودات الاستقصاءات المخبرية الأخرى وتأثير الأذيات الدماغية، بما فيها الرنين المغنطيسي الدماغي الوظيفي(15) والتصوير المقطعي البوزيتروني(16)، اقترحت أن المناطق الدماغية وطرق الألياف العصبية البارزة عند ذوي الذاكرة الفائقة HSAM، معنية بتذكر حوادث الحياة (ذاكرة السيرة الذاتية). وفي مجموعتن، كان تركيب أحد الحزم الليفية وهي الحزمة المقوسة(17) التي تنقل المعلومات بين قشر الفص الصدغي(18) وقشر الفص الجبهي(19)، لديه ارتباطات أفضل من مجموعة الشاهد. فهذه الموجودات مثيرة للاهتمام والفضول لأن إصابة هذا الطريق(20) تؤدي إلى اضطراب في ذاكرة السيرة الذاتية.
إن نتائج التصوير هي إيحائية بطبيعة الحال. فنحن لا نعرف فيما إذا كانت هذه الاختلافات التشريحية بين أدمغة ذوي الذاكرة الفائقة HSAM وأدمغة مجموعة الشاهد تؤدي بطريقة ما إلى قدرات غير مسبوقة في الذاكرة، أو فيما إذا كانت هذه الاختلافات نتيجة الاستعمال الزائد لهذه القدرة. وكي نتوصل إلى الحل، فإننا بحاجة إلى تحديد زمن ظهور الذاكرة الفائقة HSAM في مرحلة الطفولة. وإذا كان لهذه المهارة بعض الأساس الجيني(21)، فإنه يجب علينا في نهاية المطاف معرفة الجينات المعنية بذلك. وإلى الآن ليست لدينا معطيات عن نسبة الانتشار لهذه القدرات عند أقرباء ذوي الذاكرة الفائقة HSAM.
لمحات شخصية منبعثة(22)(***)
لقد مكنتنا معطيات أبحاثنا من الوصول إلى استنتاجات قليلة وغير نهائية حول هؤلاء الأشخاص الخارقين. أول، إن ذوي الذاكرة الفائقة HSAM لا يطورون ذاكرة عالية لأنهم يتعلمون بسهولة أكثر ممن لا يمتلكون هذه الموهبة، بل لأنهم يميزون أنفسهم فقط بقدرتهم على الاحتفاظ بما تعلموه. إن أي شخص بذاكرة عادية يمكنه ولأيام قليلة تذكر تفاصيل عديدة عما حصل، مثلا الثلاثاء الماضي، ولكن تلك التفاصيل تضمحل رويدا رويدا خلال أسبوع أو ما يقارب ذلك، بخلاف مجموعة الذاكرة الفائقة HSAM، الذين تدوم ذاكرتهم طويلا جدا.
ثاني، نحن نعلم أن أنظمة الذاكرة عند الأفراد ذوي الذاكرة الفائقة HSAM لا تكون كشريط فيديو مع تسجيلات صوتية لكل ميلي ثانية من لحظات وجودهم. ويضاف إلى ذلك أن الذاكرة الفائقة HSAM ليست كذاكرة شخصية «س» لـ <A. لوريا>(23): المذكور في كتاب «عقل الإنسان الحافظ»(24): وهو كتاب صغير كان قد أُشير إليه كثيرا في عام 1968 ويتحدث عن الذاكرة الشاملة لدى أحد مرضى <لوريا>، الذي يستطيع بشكل فوري تعلم وحفظ مجموعة كبيرة من التفاصيل والمعلومات التي لا قيمة لها نسبيا كاستظهار صفوف وأعمدة كاملة من الأرقام. إضافة إلى ذلك، فإن ذاكرة ذوي الذاكرة الفائقة HSAM لا تشبه ذاكرة الخبراء الذين يدربون أنفسهم في تجارب مديدة ومستمرة باستعمال أحاجي الذاكرة لتعلم أشياء كآلاف أرقام الپاي (πا = 3.14 .... ).
|
تساؤل من قبل .J< پرايس> موجه إلى الباحثين بجامعة كاليفورنيا في إرڤين؛ أَبرِزوا للعيان سلسلة أحداث قادت إلى تعيين أشخاص ذوي ذاكرة فائقة. |
والأشخاص ذوو الذاكرة الفائقة HSAM أقل احتفاظا بالتفاصيل مقارنة بمريض <لوريا>، ولكنهم منظمون إلى درجة عالية فيما يتعلق بربط يوم محدد بتاريخه الموافق. كما أننا نعلم بأن هذه الموهبة على ما يبدو تحدث تلقائيا ومن دون جهد دراسي. فعديدة هي تلك الأسئلة التي استخدمناها في اختبارات الأشخاص ذوي الذاكرة الفائقة HSAM، والتي تعاملت مع مواد شخصية، كحالة الطقس في يوم محدد، وهو استدعاء لا يمكن حدوثه بقضاء وقت وجهد في التدرب عليه. وعند سؤال هؤلاء الأشخاص عن طريقة اكتسابهم هذه المعلومات، كان ردُّ كل واحد منهم: «أنا فقط أعلم ذلك». ومع أنهم يستمتعون عقليا بربط تاريخ ما بحادثة معينة، فإنهم لا يتمتعون إلا بمقدار ضئيل إن وجد، من الاهتمام بمعرفة ما قد حصل في تاريخ التقويم السابق لميلادهم.
إن ذوي الذاكرة الفائقة HSAM يقدرون موهبتهم الخاصة هذه، وبذلك فإنهم مختلفون كليا عن الشخصية الرمزية في القصة القصيرة لـ <جورج لويس بورجيس>(25) 1962 (<فونيس> الحافظ). فبعد سقوطه عن الحصان، اكتسب <فونيس> المقدرة على الاحتفاظ بتفاصيل لكل تجاربه اللاحقة. فكان بإمكانه استدعاء صورة كل ورقة في كل شجرة رآها. لقد رُوِّع من ذاكرته التي جعلته يخلص إلى أن حياته لم تكن إلا كومة من القمامة. ومع أن <پرايس> أخبرتنا بأن ذكرياتها تمثل عبئا ثقيلا عليه، فإن معظم ذوي الذاكرة الفائقة HSAM يستمتعون بامتلاكهم مداخل واضحة وحية إلى ماضيهم. إن معظمهم يتابع حياة مهنية واجتماعية فعالة. وعديد منهم يعمل في صناعة ألعاب التسلية: كالممثل <M. هنر>(26) والمخرج التلفزيوني الكوميدي <R. پتريلا>(27)، فكلاهما من ذوي الذاكرة الفائقة HSAM. وهكذا كان عازف الكمان <L. أوين>(28)، والممثل ومذيع الأخبار عبر الراديو <B. وليامز>(29).
[اختبار الاستذكار] ذواكر فائقة في المختبر(****) إن التحدي الأول الذي صادفه الباحثون عند من يدعون امتلاكهم ذاكرة فائقة في تذكر الأحداث الماضية، كان بالتحقق من هذه الادعاءات. وقد طور فريق جامعة كاليفورنيا في إيرڤين عملية تقييم متعدد الأجزاء (الشكل إلى اليمين) قاد إلى تصنيف مجموعة من الأشخاص بأنهم يمتلكون ذاكرة فائقة لسيرتهم الذاتية (HSAM)ا(30). وفي خطوة تالية تم التركيز على ما إذا كانت أدمغة ذوي الذاكرة الفائقة HSAM تختلف عن أدمغة ذوي الذاكرة العادية. وبالتصوير المقطعي للدماغ، ظهرت منطقتان للذاكرة، وهما الحزمة المقوسة(31) (وهي حزمة ألياف عصبية تربط قشر الفص الصدغي(32) بقشر الفص الجبهي(33)) والمنطقة المحاذية لتلفيف الحصين(34)، وكلتاهما أكثر ارتباطا ببقية المناطق في الدماغ. المرحلة الأولى: أسئلة أحداث عامة أكثر من ثلث عناصر المجموعة الذين ميزوا أنفسهم بامتلاك ذاكرة فائقة HSAM تذكروا على الأقل خمسين في المئة من الأمور المهمة، وهو مستوى لم يصل إليه أي من عناصر مجموعة الشاهد control subject. المرحلة الثانية: اختبار التواريخ برعت مجموعة الذاكرة الفائقة HSAM في الاختبار، حيث كان عليها معرفة أيام الأسبوع ومعرفة الأحداث العامة والشخصية التي حصلت في عشرة تواريخ منتقاة عشوائيا. المرحلة الثالثة: الاختبار المعرفي لبعض من مرشحي الذاكرة الفائقة HSAM، الذين أنجزوا جيدا فقط في بعض الاختبارات المعرفية - أحدها لربط الأسماء بالوجوه واستدعاء الصور - وليس في الاختبارات الأخرى العديدة كاختبار الذاكرة القصيرة الأجل. |
إن القدرات الخارقة لذوي الذاكرة الفائقة HSAM لا تمنحهم قدرات فوق بشرية للتفوق على زملائهم في العمل الذي اختاروه. لقد توفرت لـ<باتريلاّ> فرصة استعمال موهبته عندما كان يكتب لمتعته الذاتية «كتاب بوب»(35) (<بوب> الاسم المختصر لـ <روبرت>)، والذي دُوِّن فيه أجمل تجاربه وذكرياته في كل يوم من أيام السنة خلال فترة شبابه. ولكن هذا المشروع كان محض لهو ولم ينتج منه أي عمل تلفزيوني.
إن العمل المتعلق بذوي الذاكرة الفائقة HSAM تلاقى مع التاريخ الغني للأبحاث عن الاضطرابات النفسية غير المعتادة. ففي عام 1881 نشر اختصاصي علم النفس الفرنسي <Th. ريبوت>(36)، اضطراب الذاكرة القريبة الناتج من أذيات الدماغ على الرغم من سلامة الذاكرة البعيدة - دراسات تردد صداها مجددا في العقود الأخيرة بواسطة استقصاءات <B. ميلنر>(37) [من جامعة ماك گيل في كندا]. لقد فحص <ميلنر> المريض الشهير <H. موليسون>(38)، الذي عرف لسنوات بـ <H .M>، وذلك في محاولة للمساعدة على تقديم تبصر عما يحدث عندما لا يستطيع شخص ما تكوين ذكريات ذاتية جديدة. فبعد استئصال المنطقة الأنسية المتوسطة(39) للفص الصدغي بالطرفين لمعالجة الصرع، فَقَدَ <موليسون> قابلية تكوين ذكريات ذاتية جديدة بشكل شبه تام مع أن ذكريات تجاربه السابقة بقيت سليمة في معظمها، وكذلك بقي تعلم الحركات - المعروف بالذاكرة الإجرائية(40) - سليما.
وهذه النتائج قادت إلى نتائج أخرى جديدة تُظهر بأن مناطق الدماغ المختلفة تكون مسؤولة عن أنواع مختلفة من الذاكرة، وكنتيجة لذلك تعرضت أبحاث الذاكرة لتعديلات جذرية. فالاكتشاف الجديد عن تمتع بعض الأشخاص بذاكرة قوية ومديدة فيما يخص التجارب الشخصية إضافة إلى الأحداث العامة، حفزت مزيدا من الأبحاث، التي قد توفر تبصرا أعمق عن الطريقة التي يحتفظ بها الدماغ ويستدعي المعلومات المتعلقة بأحداث الماضي.
كالعضلة(*****)
إن البراهين الكثيرة، بدءا من دراسات اختصاصي علم النفس <H. إبنگهوس>(41) عن ذاكرة الإنسان عام 1885، بينت أن تكرار ما نريد تعلمه يقوي الذاكرة. وفي الدراسات الأكثر حداثة من قبل <H .L. روديجر III> [من سانت لويس بجامعة واشنطن] و<D .J. كاربيك> [من جامعة Purdue] وجدت أن القيام باستدعاء الذاكرة - أي استحضار الذاكرة للحظات قليلة - يمكنه أن يقوي القدرة على التذكر.
وحتى مع الممارسة والتدريب، فإنه من غير المحتمل لشخص ما بذاكرة عادية اكتساب قدرات الأفراد ذوي الذاكرة الفائقة HSAM الذين لم يتدربوا على أي من اختباراتنا. لقد قضى <مِگا> سنوات عديدة في دراسات توضح كيف تمتعنا جميعا بذاكرة أقوى لتجاربنا العاطفية المهمة. وقد أظهرت الاكتشافات الحديثة المثيرة للاهتمام، أن الأشخاص ذوي الذاكرة الفائقة HSAM يكوِّنون بسهولة ذاكرة قوية بسرعة حتى للأحداث التافهة نسبيا.
وعلى الرغم من التغطية الهائلة من قبل وسائل الإعلام، لم نتعرف حتى الآن إلا على ما يقارب الخمسين شخصا من ذوي الذاكرة الفائقة HSAM من بين مئات الأشخاص المحتملين الذين اتصلوا بنا. وهذا يمثل نسبة ضئيلة جدا من مجموع الذين علموا بأبحاثنا عن طريق وسائل الإعلام المختلفة. فإذا كانت هذه القدرة تساعد على تكيف أنجع في مواجهة تحديات الحياة، فلماذا إذن هي نادرة هكذا؟ ربما تكون الذاكرة الفائقة HSAM هي بقايا لمهارات كانت لها أهميتها فيما مضى، ولكنها فقدت الآن هذه الأهمية. وقبل الكتابة المطبوعة، احتفظت كثير من الحضارات الإنسانية بقصص ومعلومات بهذا الصدد، تَمَّ توارثها شفهيا من جيل إلى آخر. وفي الحضارات التي لم تكن لديها لغة مكتوبة، ربما تمتع أصحاب هذه الذاكرة العظيمة بمنزلة عالية بين أقرانهم. فالحاجة إلى مثل هذه القدرة العقلية العالية التنظيم في اضمحلال، وبدخول الحواسيب والهواتف الذكية، ربما تَمَّ تجاوزها تماما.
فمن المحتمل - وربما المتوقع - بأن كثيرا من الأشخاص الذين أقصيناهم في بداية اختباراتنا لعدم تمتعهم بذاكرة فائقة HSAM، يتمتعون ببعض القدرات الأخرى للذاكرة التي يتعين علينا تحريها. ربما كانت لدى بعض هؤلاء الأشخاص ذاكرة واضحة لماضيهم، ولكنهم ببساطة أهملوا ربطها ذهنيا بتاريخ محدد خلافا لما يفعله الأشخاص من ذوي الذاكرة الفائقة HSAM، فاتحين بذلك الآفاق لطرق واسعة من الأبحاث. وعوضا عن التأمل في عجوزات الذهن(42)، فإن الشرارة التي انبعثت من رسالة إلكترونية قبل أربعة عشر عاما، تمثّل لنا ولباحثين آخرين فرصة لفهم أفضل لطريقة عمل الدماغ وذلك بدراسة الذاكرة البشرية عند ذوي الذاكرة الفائقة HSAM.
المؤلفان
| James L.McGaugh - Aurora LePort |
<مِگا> أستاذ باحث في البيولوجيا العصبية للتعلم والذاكرة بجامعة كاليفورنيا في إيرڤين، وتركز دراساته على العلاقة ما بين الذاكرة والعاطفة.
<لوپورت> طالبة مجازة بالعلوم العصبية بجامعة كاليفورنيا في إيرڤين، وقد أنجزت دراسات نفسية وفيزيولوجية على أشخاص يمتلكون ذاكرة خارقة. | | |
مراجع للاستزادة