" سائق الحرب الأعمى "
تقودنا الى حرب الخليج الثانية .. بأسئلة صاخبة
كتابة: نجاة عبدالله
صدرت عن دار نوفالس للنشر والتوزيع الطبعة الاولى من رواية "سائق الحرب الأعمى" للشاعر والروائي أسعد الجبوري ب294 من القطع المتوسط .. وتلك هي الرواية الخامسة له بعد ”اغتيال نوبل” و”الحمى المسلحة”عن منشورات الدار العربية الأوروبية ، و”ديسكولاند”” عن دار فضاءات الأردنية ، و "التأليف بين طبقات الليل”عن منشورات اتحاد الكتاب العرب .
تناولت الرواية محاور عدة مهدت لمحورا مهما واساسيا في الرواية هو احداث حرب الخليج الثانية .. وما سبقها وتلاها من تفاعلات نفسية رهيبة توزعت بين أديث صاحبة القبر الوهمي "، عاشقة الاساطير و صديقها الايروتيكي الذي ينتهي به المطاف الى عمق الرمال الساخنة ليصبح اسطورة في مدونات اديث ، وذات الرمال الساخنة تنتقل الى الاخ زولا الطيب الوديع الذي يفض احدهما بكارة الاخر هو وفوجي الخادمة المعشوقة ، حين يُجند للذهاب الى عمق الصحراء ويصُبح قائد كتيبة ، يذهب هو الاخر لتفقد تلك الصحراء الغريبة ويعثر على اعرابي ليدله الى حفرة كبيرة تحتوي على زواحف غريبة ، زواحف بعضوين تناسليين ، تفرز مادة نادرة تحيل الجلد الى درع صلد .
لقد همَّ زولا بتلك الزواحف وعاد بنماذج منها الى امريكا ونشر بحثا كبيرا حالما بالمجد بهذا الاكتشاف المهول .. وما ان يسمع صدام حسين بهذا الاكتشاف الخطير حتى يطلب زولا الى العراق .. ليدرع جيشه و نفسه بلقاح تلك المادة .. ولم يمهله الزمن طويلا حتى تتفسخ جلودهم ويصبح بصاق الشعب الناقم هو جل ما يحلم به للعلاج .. وهذه دلالة عميقة ايضا على رفض الشعب العراقي لدخول تلك الحرب البغيضة .
حياة زولا الامريكي الرافض للحرب ايضا .. تلونت بعذابات وافكار ومخاوف ومشاهدات غزت عقله الباطن والواعي ..لتحول هذا الرجل الهاديء الى حقل لتجارب الحروب اسوة بتلك الزواحف التي جند لها صدام علماء وباحثين ومختبرات كاملة ليدرع نفسه وجيشه دوان ان يأبه لفقدانهم شهية الحياة وزهورها وسرير الحب والعلاقات الانسانية .
" زولا .. انت بالابيض والاسود فقط ، وهذه المرآة تظهر صورتك كغريب او تائه عن ركب قافلة عابرة " ص75
غربة النفس اذن وهي تنشطر داخل غربة أخرى ، غربة تجردك من كل ما البسته لك الطبيعة من الوان افتراضية .. لتظهر روحه صافية بالابيض والاسود فقط دون اية رتوش ربانية .
ويعود مرة اخرى ليسأل قلبه " هل كبرت في الحرب ام كبرت بك الحرب يا زولا "196
يتفحص ما يجري حوله في تلك الفيلا الفخمة التي يخنقها الحراس الكلاب وتصبح مرتعا ومستقبلا ومرآة كبيرة للتعرف على طبيعة الحياة العراقية .
"لم يتخلص العراقيون من جهنميات الحروب بعد . ولكنهم من الشعوب النادرة التي جعلت الموت طريقا للحياة وليست قبرا لها . لا أعرف كيف يمكن وصف بنية الإنسان في هذي البلاد . فأنت وإن تراه مخمورا بحزنه ، إلا ان معدنه الداخلي غير قابل للانهيار السريع . كل الفلزات التي انفقتها الحروب حديدا وفولاذا ورصاصا ، وكانها دخلت في تكوين عموده الفقري ، ليكون مصفحاً ، ويتحمل أعنف الأهوال وأشد العواصف خرقاً للقوة "ص 227 .
الرواية مليئة بتفاصيل تحمل غرائبية كبيرة واحداث تُسخر الخيال الخصب الذي امتلكه كاتب الرواية الى احداث اقرب الى الواقع .. بيت العائلة الكبير الذي يذهب مع اموال الاب ثم وفي اللحظة الاخيرة يعود بسبب هذا القبر الوهمي لاديث وتلك دلالة اخرى ان ما يثبت شرعية الوطن هو القبر ..
الاب المُقعد الذي تجتاحه رغبة عارمة ويذهب في كرسيه المتحرك قاطعا الغابات الى الحانة ليسترجع بكائه وحزنه على طاولة صغيرة ، والام الخائنة كاتبة الرسائل لرجال الحي بقلم زولا الصغير وما يجر هذا الامر من ويلات تتفاقم في حياة زولا وتركيبته النفسية .. والخادمة فوجي صاحبة الجسد الشهي التي تنافس خيال زولا على زواحفه المكتشفة وقدرتها الخارقة لأستمالته الى سرير الحب ، واديث تلك المجنونة بالاساطير والحكايات الغريبة "انها لبوة شرسة ، تؤمن بعدالة الافكار اكثر من ايمانها بعدالة الاخلاق ومشتقاتها على الارض" ص153.
تخرج الرواية بعد ذلك الى احداث اعمق وأوسع .. انها الحرب التي تحدق بالجميع وتقف لهم بالمرصاد حتى تجعل الواحد منهم يعتاش على امل مفترض .. " نحن كائنات نعتاش على الأمل الاصطناعي فقط يا سيد زولا ، قد تسألني كيف : فأقول بأن الذي بقيَ من أجسادنا ليس إلا من الظلال التي سريعا ما تظهر وسريعا ما تختفي ، انها تحمل كل وجع وكل ألم يدخل الى ذلك الحقل اللحمي المسمى جسماً . لقد بات صعبا على الجسد الحقيقي تحمل أعباء تلك الضربات التي جعلت المرء مترددا بصدّ أمواج الأوجاع التي كانت تستهدفه يومياً ، سواء من الدول العظمى ، أم من أصغر جلاد يملكك لحما وعظما ، مثلما يملك مفاتيح السجن الذي ترمى فيه ، لتعزل مثل حيوان ينقل أمراضا معدية قاتلة " ص236 . هذا ما رددته المترجمة على اسماع زولا لتهبه وصفا مختصرا لطبيعة الحياة العراقية والبحث الدائم لكل ما من شأنه ان يقي تلك الاجساد من عذابات محتملة .
رواية تصف رفض المجند الامريكي لاي حرب مهما كان نوعها وهدفها .. وكذلك الرفض العراقي لحروب يقوده اليها الطاغية ويسخره لها على امتداد عقود خلت .. والنهاية المريرة والخسارات التي يقف على اعتابها القائد بعد ذلك لتهبنا مؤشرا واضحا على ان جميع الحروب هي من صنع الطغاة .
الحرب التي كسرت قلوب العراقيين واحالتهم الى كتلة متحركة من الالم "ما من قلب في وادي الرافدين الا وكان مكسورا كتفاحة من زجاج ، اي شر ذلك بحق السماء 245ص