بذور علاج
(*)بعد اليأس من تطوير أدوية جديدة لمعالجة الملاريا وأمراض
أخرى، يعكف بعض الباحثين على إجراء تجارب سريرية باستخدام
عقاقير عشبية. وفي هذا الشأن يحققون إنجازات واعدة.
باختصار إن الطرق التقليدية لاكتشاف الأدوية، والتي تشتمل على إجراء اختبارات على مُركَّبات في المختبرات ثم على الحيوانات قبل إجراء اختبارات لها على البشر، قد أثمرت في العقود الأخيرة عن عدد قليل من الأدوية المتاحة تجاريا. وقد حدا ذلك ببعض الباحثين إلى اتباع أسلوب آخر مختلف جذريا، يعتمد على دراسة المرضى الذين يخضعون للعلاج بأدوية عشبية شعبية، ثم بعد ذلك، تحليل أكثر تلك المنتجات الطبيعية إحياء للآمال في المختبر. |
تحاملت السيدة الفارعة الطول من القبيلة Fulani على نفسها للذهاب إلى كوخ أحد المعالجين الشعبيين، بِطلْعة أميرية. شأنها في ذلك شأن كثير من أفراد قبيلتها التي تعيش حياة بدوية وتربي الأبقار جنوب مالي، وكانت هذه السيدة ترتدي ثيابا زرقاء فضفاضة وطويلة، وقد صبغت شفتيها بالأزرق النيلي والحناء، وزيَّنت شحمتي أذنيها بهلالين ذهبيين رائعين. وما إن دخلت الكوخ حتى لاحظ المعالج العجوز وقارها الذاويَ بسبب الوهن من ولادة حديثة، ولاحظ راحتي يديها الشاحبتين بسبب فقر الدم، وجبينها الساخن عند اللمس. لقد بدت في غاية الإرهاق حتى أنها استلقت مباشرة وراحت تعدد أوجاعها: إنها السومايا (1) («الملاريا» باللغة المحلية) كما شَخَّص المعالج.
وبعد أن أصبح هذا التشخيص الشعبي في متناول اليد، شرع طبيبان غربيان في العمل، وهما <B. گراز> [من جامعة لـوزان في سـويسرا] و<M. ويلكوكس> [من جامعة أكسفورد] اللذان كانا يرقبان زيارة تلك السيدة. فقد وقَّعت المريضة على ورقة الموافقة المستنيرة(2)، وأدلت بمعلومات عن سيرتها المرضية، وسمحت للباحثين بأخذ كمية قليلة من دمها لتعداد الطفيليات وإجراء تحاليل إضافية. إذ ستكون هذه السيدة جزءا من دراسة مهمة لقياس نسبة الشفاء بعد تناول مغلي عشبي يُحضر من أوراق الخشخاش الكناري الأصفر(3). وقد اتضح من متابعة حالتها أنها تحسنت بعد ثلاثة أيام وتماثلت للشفاء.
ومع أن كثيراً من الأدوية التي حازت على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية يعود مصدرها إلى الطبيعة، فإن إجراء دراسات سريرية على عقار طبي عشبي يقع خارج إطار الممارسة المألوفة؛ إذ تنطوي المقاربة التقليدية المتبعة في ابتكار عقار طبيعي على عزل موادَّ نقيةٍ من النباتات والفطريات والبكتيريا، ثم فرز المواد التي تعطي نتائج مبشرة وتحسينها في المختبرات، ثم تقييم مدى سلامتها حصرا على الحيوانات أولا، ثم بعد ذلك على البشر. إلا أن بعض المهتمين قد يعترض على هذه المقاربة التقليدية، حيث إن نسبة 95 في المئة من العقاقير التجريبية تفشل سريريا. وجرّاء كثير من الإخفاقات، أعرضت كثير من الشركات الدوائية عن المنتجات الطبيعية إلى حد كبير. إلا أن الأسلوب البديل، وهو إجراء اختبارات على عدد هائل من المواد التركيبية - مكتبة من المركبات المخزنة في قوارير صغيرة(4) - لم يحقق هو الآخر نتائج أفضل.
ولمواجهة جوانب القصور تلك، يحاول <گراز> و<ويلكوكس> قلب النموذج المعياري(5) لاكتشاف الأدوية العشبية رأسا على عقب، بأن يبدؤوا أولا بالدراسات على البشر، ثم تأخير عزل المركبات الفعالة إلى مرحلة لاحقة، حيث يسجل الباحثان ملاحظاتهم بعناية حول المرضى الذين استخدموا مجموعة متنوعة من العلاجات العشبية الشعبية للتعرف على أكثر تلك الأعشاب بعثا للآمال، ثم يقومون بدراسة سريرية حول ذلك العلاج. وفي نهاية المطاف يُحددان المركب الفعال، لتكون نقطة البدء في ابتكار الدواء. وقد استوحيت هذه المقاربة، والتي سميت بـِ «علم الأدوية العكسي»(6)، من الجهود التي بذلها علماء هنود في بحثهم عن أدوية جديدة وفقا لأساليب الطب الهندي القديم (الآيورڤيدا)(7). ويكمن الجانب الجميل في هذا الأسلوب في أنه حتى ولو تعذّر الحصول على دواء اصطناعي، فإنه بإمكان الباحثين تقديم المشورة للمعالجين الشعبيين وللمجتمعات التي يطببونها حول أي الأعشاب ستنجح وأيها ستفشل في العلاج. كما يمكن للباحثين إجراء هذا البحث بميزانية تتناسب مع ميزانيات بلدان العالم النامي، إذ لا تتطلب المراحل المبكرة إلا ما يزيد قليلا على ورقة وقلم. وما دراساتهم حول أحد أنماط الخشخاش في مالي إلا دليل قاطع على مدى النجاح الذي يمكن أن تحققه هذه المقاربة، كما أنها كانت مصدر إلهام لأطراف غير متوقعة ومؤثرة في منظمة الصحة العالمية لإعادة النظر في استخدام العقاقير العشبية.
|
طفل يُعالج في مستشفى بسبب إصابته بالملاريا، وهو واحد من بين 200 مليون شخص يصابون كل عام بالعدوى بطفيلي الملاريا، ويعيش معظمهم في إفريقيا، حيث تكون المعالجة التي تحقق المعايير الذهبية الباهظة الثمن في غالب الأحيان إلى مستوى يقلل من إمكانية الحصول عليها. |
إرث من الفشل(**)
ثمة عدد من الأدوية الذائعة الصيت، كالأسبرين والكودئين(8)، طُورت من خلال دراسة النباتات التي يستخدمها الإنسان، أو ما يعرف بـ «علاقة الإنسان بالنبات»(9)، إلا أن قصص النجاح تلك آخذة بالتضاؤل حتى أصبحت نادرة. وتكمن المشكلة في أنه لم يكن هناك قط منهج واضح لتقييم الإمكانية التي تتمتع بها النباتات قبل إنفاق ملايين الدولارات على ابتكار دواء ما. أما ما يتعلق بعلاقة الإنسان بالنبات، فقد كانت على الدوام علاقة وصفية أكثر منها تحليلية. وقد يمضي متخصصون في دراسة الجنس البشري(10) وقتا طويلا مع أحد العرافين(11) في غابات الأمازون لتوثيق ما يستخدمه من أساليب ونباتات، إلا أنهم نادرا ما يمكثون طويلا في الحقل لتقييم مدى كفاءة تلك الخلطات(12).
كما أن مجرد جمع كل نوع وتحليله تقع عليه العين لم يحقق نجاحا هو الآخر. فليس كل مادة كيميائية مستخلصة تحقق نتائج مبشرة على الفئران أو في أطباق پتري(13) ستكون بالضرورة آمنة أو فعالة لدى البشر، والعكس صحيح أيضا؛ إذ يمكن لبعض المركبات النباتية أن تتمتع بآليات عمل مجهولة تماما، ولكن تعجز الاختبارات المألوفة(14) عن تحديدها. ومن أحد أشهر محاولات «التنقيب الحيوي»(15) تلك، هو ما قامت به الشركة Merck التي عقدت شراكة مع المعهد الوطني للتنوع البيولوجي في كوستاريكا(16) في التسعينات للقيام بعملية جرد(17) لكل شجرة نخل أو حشرة سوس في الحدائق الوطنية في كوستاريكا، وتقييم خصائصها الصيدلانية، ولكن أُهمل العمل في هذا المشروع منذ ست سنوات دون أن يحظى بأي رواج. وفي حقيقة الأمر، لقد فضل كيميائيو شركات دوائية كبيرة العملَ على مركبات يمكن أن يصنعوها هم بأنفسهم، وبذلك يَسْهُل على محامي تلك الشركات تسجيل براءات اختراع لتلك المركبات. وتقوم اليوم تلك الشركات بتقييم الملايين من المركبات بحثا عن بوادر فعالية حيوية بوساطة عملية آلية تسمى التحري(18) العالي الإنتاجية(19).
|
|
طفل مصاب بالملاريا يتلقى مغليا محضرا من الخشخاش الشوكي في إطار دراسة أجريت على هذا العشب في مالي (الصورة العليا)، حيث استخدم معالجون شعبيون هذا النبات لفترة طويلة لمعالجة ذلك المرض (الصورة السفلى). |
وبالطبع، فإن تحديد مركب ذي فعالية حيوية لا يمثل سوى الخطوة الأولى فقط على طريق طويل لاعتماد الدواء. ففي الولايات المتحدة مثلا، فإن رحلة الدواء ما بين اكتشاف المركب الفعال إلى حين اعتماده طبقا للوائح التنظيمية، تستغرق نحو اثني عشر عاما وبتكلفة قد تصل إلى 800 مليون دولار أمريكي. وثمة إخفاقات معروفة حدثت في المراحل الأخيرة فقط من تجارب سريرية باهظة التكاليف، مثل فشل الدواء آكومپليا(20) الذي طورته الشركة Sanofi-Aventis لإنقاص الوزن، والدواء تورسيتراپيب(21) الذي طورته الشركة Pfizer لخفض مستوى الكوليستيرول؛ مما يثبت أن هذا النموذج فاشل في العالم المتطور. ولهذا النموذج أيضا عواقب أكثر سوءا في العالم النامي عندما يتعلق الأمر بالأمراض الـمُهمَلة، حيث لا يستطيع معظم السكان تحمُل تكاليف الأدوية التي يُصنع معظمها في الخارج.
إن عدم توفر أدوية جديدة فعالة وارتفاع تكاليف الموجودة منها يعتبر أمرا مقلقا عندما يتعلق الأمر بالملاريا(22). ففي كل عام يصيب هذا المرض، الذي يسببه طفيلي تنتقل العدوى به بواسطة البعوض، 200 مليون شخص في البلدان المدارية، وتقتل ما يقارب نصف مليون منهم. كما طورت الملاريا مقاومة ضد كل شيء تقريبا استخدمه الباحثون لاستئصالها. وفي إفريقيا، حيث يعيش ما يقارب 85 في المئة من حالات الملاريا في العالم، أصبحت الأدوية ذات المعيار الذهبي للمعالجة، وهي توليفات دوائية تحتوي على الأرتيميسينين (ACTs)ا(23)، مدعومة ماليا ومتوفرة نظريا في جميع العيادات الحكومية والحوانيت القروية. إلّا أن الحالة المزرية للطرق وتوفر أدوية أخرى دون المستوى المطلوب، تجعل فعالية تلك التوليفات تبدو على الورق أفضل مما هي عليه على أرض الواقع. وقد أشارت دراسة مسْحية أجريت حديثا في مالي، إلى أن 87 في المئة من الأطفال الذين يراجعون الخدمات الصحية لإصابتهم بالملاريا، كانوا قد تلقوا معالجات مبدئية في المنزل، وأن رُبع عددهم قد تلقى عقاقير عشبية شعبية فقط. وعند أخذ هذه العوامل في الاعتبار، فإن بعض الباحثين يعتقد أن الممارسات التقليدية تستحق تمحيصا عن كثب. ولكن الوقت يمضي بسرعة. فالطب الشعبي في إفريقيا ومناطق أخرى من العالم، يتعرض لتهديدات الحداثة والمنافسة الشرسة مع الشركات التي تُصنِّع الأعشاب الصينية، والتي أصبحت لها فروع حتى في القرى النائية. ويقول <گراز> بهذا الخصوص: «إذا لم ندرس الطب الشعبي الآن، فإنه من المحتمل جدا أن يتلاشى من أجزاء واسعة من العالم في غضون جيل واحد فقط.»
قوة زهرة(***)
تطورت فكرة علم الأدوية العكسي(24) تدريجيا، بأسلوب التجربة والخطأ، كما عكف على ذلك <گراز> و<ويلكوكس> وشرعا في إجراء اختبارات على الخشخاش السحري في مالي. ويُعتبر <گراز> أحد الملتزمين المدافعين عن الدراسات الرصدية(24)، التي يَستخلص منها الباحثون استنتاجاتهم حول تأثير علاج ما من خلال الملاحظة(25). ويُعد هذا النمط من الدراسات مغايرا للدراسات السريرية الـمُعَشاة(26) التي يجري فيها تعيين عشوائي للمرضى ضمن مجموعة معالجة ومجموعة شواهد. ويقر <گراز> بأن الدراسات المُعَشاة ذات الشواهد(27) هي الطريقة الوحيدة للحكم بأن دواءً ما ناجع فعلا، علما بأن هذه التجارب غالبا ما تُنجز تحت ظروف غير واقعية وتقتصر على عينة صغيرة من المرضى. ومع أن الدراسات الرصدية ليست تجارب بالمعنى الحرفي للكلمة، من حيث التوثيق وتحليل نتائج المرضى في العيادات، إلا أنها تعطي الباحثين فكرة أفضل عما يمكن أن يكون فعالا على أرض الواقع.
|
منذ مئات السنين والكينين quinine الذي يتم الحصول عليه من لحاء شجرة الكينا cinchona tree يُستَعمل لمعالجة الملاريا. |
ولعل هذا المأخذ غير المتوقع هو ما حدا بـ <گراز> إلى الذهاب إلى مالي في الشهر 12/2002 حيث خطط لإجراء نمط من الدراسات الرصدية التي استنبطها، تسمى دراسة رجوعية(28) بالتعاون مع <D. ديالو> [مدير قسم الطب الشعبي في المعهد الوطني لبحوث الصحة العامة في مالي(29)] وعلى مدى عدة شهور، زار فريق الباحثين بعض العائلات التي أصيب أحد أفرادها حديثا بالملاريا، حيث دَوَّن <گراز> قائمة من 66 نباتاً استخدمتها هذه العائلات لمعالجة المرض، إما منفردة أو كخلطات عشبية، ولكن نسبة الفشل كانت عالية كما يقول <گراز>. ومع ذلك، فقد لاحت في البيانات بقعة ضوء مشرقة. فمن أصل 952 مريضاً تمت متابعتهم، تبين أن 30 منهم قد شُفوا تماما بعد أن استخدموا مغليا أعدوه من أوراق الخشخاش الشوكي (الأرگيمون المكسيكي)(30)، وهو خشخاش موطنه الأصلي المكسيك ووصل إلى إفريقيا في القرن التاسع عشر. وقد اعتُبرت هذه الدراسة من قبيل التحري العالي الإنتاجية، ولكن على البشر، الأمر الذي جعله اكتشافا واعدا ذا أهمية تتفوق على كل ما سبق.
فقد اتصل <گراز> بزميله <ويلكوكس> ليبشره بالخبر. وسبق للأخير أن أجرى دراسات سريرية على أعشاب مضادة للملاريا وحصل على نتائج متضاربة. وكان <گراز> و<ويلكوكس> قد اتفقا على أنه إذا نجح <گراز> في تعرف نبات بدا أنه يُحقق نجاحا في دراسة رجوعية، فإن <ويلكوكس> سيشرع في إجراء دراسة خلال فترة معينة على مجموعة من المرضى متماثلة في السن(31)، ويحدوهما الأمل في ذلك بإجراء دراسة سريرية لاحقا. ولكن، عندما زار <گراز> مقهى إنترنت في مدينة سيكاسو، في جنوب شرق مالي، لجمع معلومات أولية عن الخشخاش، اكتشف أمرا مثيرا للقلق، وهو عثوره على مقالة منشورة بعنوان «التسمم بالخشخاش الشوكي: نتائج تشريحية في حالتين.»(32) ففي عام 1998 مرض أكثر من 3000 شخص في مدينة دلهي بالهند، ومات 65 مريضاً منهم بسبب تورم أجسادهم الناجم عن تراكم اللمف lymph. وكانوا جميعا قد تناولوا زيت بذور الخردل المغشوشة ببذور الخشخاش الشوكي، وهي تحتوي على سمّ السانگوينارين(33).
اعترى <گراز> و<ويلكوكس> القلق حول ما إذا كان لدوائهما الطبيعي الواعد لعلاج الملاريا أن يقتل المرضى بدلا من أن يشفيهم؛ علما بأن الكثير من الأدوية الحقيقية يمكن أن تكون مميتة إذا أخذت بجرعات خاطئة، ولكن هذا الأمر لم يحدث في مالي على ما يبدو. فقد حاول الباحثان التعرف على الجرعة المميتة من مغلي الخشخاش الشوكي من خلال تعريض بعض الفئران لكميات متزايدة منه، إلا أنه لم يظهر أي عرضٍ مرضي على الفئران. وهذا ما دعا الباحثين في نهاية المطاف إلى الاستنتاج بأن التسمم بالسانگوينارين يحدث فقط عند تناول بذور الخشخاش وليس أوراقه التي تستخدم في تحضير المغلي العشبي الذي يعده المعالجون الشعبيون.
وبذلك أصبح الآن بمقدور الباحثين الشروع في دراساتهم على بيّنة من الأمر. وفي الشهر 9/2004 وصل <ويلكوكس> إلى قرية ميسيدوگو في مالي حيث شعر الزعيم <تيموكو بينگالي> بالسعادة، وهو معالج شعبي علَّمه جده كيفية استخدام الخشخاش الشوكي، لمشاركته في دراسة فعالية هذا النبات. وعلى النقيض من الدراسة الرجوعية التي قام بها <گراز>، والتي تعتمد على دراسة الماضي، فإن دراسة <ويلكوكس> هي دراسة مستقبلية تعتمد على متابعة مجموعة من المرضى مستقبلا، الأمر الذي سيسمح بتسجيل ملاحظات وإجراء اختبارات مخبرية أكثر دقة.
لقد نَصَبَ <ويلكوكس> على أحد البيوت التي يشغلها المعالج الشعبي، وهو بيت بنيت جدرانه من القرميد الطيني وسقفه من القش، لوحةً شمسية لامعة وبطارية سيارة تكفي لتشغيل الميكروسكوبات(34) والمنبذات(35) وجهاز تخطيط كهربية القلب. وقد نبه <ويلكوكس> الزعيم <بينگالي> إلى ضرورة التخلص من بذور الخشخاش قبل إعداد المغلي، وسمح له فيما عدا ذلك باتباع الوصفة التي كان يستخدمها سابقا وهي: غلي الأوراق لمدة ثلاث ساعات في مرجل(36) على نار من الحطب. وعلى الرغم من أنها كانت ذروة موسم الأمطار، فقد تجمع نحو 100 مريض في صخب كلٌّ يريد أن يُفحَص منذ اليوم الأول.
وفي بداية الأمر، كان <بينگالي> يصف جرعة وحيدة من المغلي العشبي لمدة ثلاثة أيام، إلا أن <ويلكوكس> لم ير أي نتيجة ملحوظة عن الشفاء. وعندما سأل <بينگالي> عما إذا كان ذلك طبيعيا، أجاب <بينگالي> أنه يعتقد أن الجرعة كانت أكثر «علمية». وبدافع من الحيرة والقلق، سأل <ويلكوكس> عن مقدار الجرعة المعتادة، ولكن لم يكن لدى <بينگالي> جواب، فهو عادة ما يعطي المرضى نباتات مجففة ويطلب إليهم أن يشربوا منها أكبر قدر ممكن على مدى أسبوع. ولكن عند تطبيق جرعات أعلى بدأ <ويلكوكس> برؤية نتائج ملموسة، حيث انخفض تعداد الطفيليات إلى أقل من 2000 طفيلي في ميكرولتر microliter من الدم بعد أن كان ما يقرب من 30 ألف طفيلي في الميكرولتر. وبعد مضي أسبوعين، شفي من الحمى نحو 89 في المئة من المرضى البالغين. وهكذا، بدا أن الخشخاش قد أتى مفعوله.
وللتأكد من أن النبات فعَالٌ حقا ضد الملاريا، كان على <گراز> و< ويلكوكس> إتمام دائرة متكاملة من الإجراءات غير التقليدية لاكتشاف الدواء من خلال إجراء دراسة مُعَشاة ذات شواهد. ولذلك عاد الباحثان إلى مدينة ميسيدوگو لإدراج 301 مريض مصاب بالملاريا في الدراسة. وقد عيَّنوا المرضى على نحو عشوائي في مجموعة تتلقى المعالجة بالجرعة المعيارية من الخشخاش الشوكي ومجموعة أخرى تتلقى المعالجة بخلطة دوائية تتضمن الأرتيميسينين ACT، مع متابعة حالة المرضى لمدة 28 يوماً. وقد أظهرت الدراسة، التي نشرت في 2010، أن 89 في المئة من المرضى الذين تناولوا مغلي الخشخاش الشوكي تماثلوا للشفاء، مقارنة بـ95 في المئة من المرضى الذين تلقوا علاجا بالخلطة الدوائية المحتوية على الأرتيميسينين ACT. وقد بلغت التكلفة الكلية لدراسة الخشخاش الشوكي نصف مليون دولار، مولتها الوكالة السـويسـريـة للتنمية والتعاون(37)، إلا أن <ويلكوكس> و <گراز> يعتقدان أن استخدام الأدوية العشبية يمكن أن يوفر 75 في المئة من تكاليف استخدام المعالجة بالخلطة الدوائية المحتوية على الأرتيميسينين ACT.
إن البرهان الذي يمكن استخلاصه من هذا الطور المبكر نسبيا من الدراسة مقنع للغاية إلى درجة أن <گراز> و<ويلكوكس> ينصحان بزراعة الخشخاش الشوكي في مالي وفي مناطق نائية أخرى لاستخدام مغلي أوراقه في معالجة البالغين المصابين بالملاريا غير المميتة(38). ويمكن لهذه المقاربة أن تساعد على الوقاية من ظهور ملاريا مقاوِمة للأدوية الحديثة مع المحافظة على الأدوية النادرة لمعالجة حالات الملاريا الأكثر خطورة، والتي يمكن أن تؤدي إلى أذية دماغية أو الموت.
إن علم الأدوية العكسي يتقاطع في المرحلة التالية من عملية اكتشاف الأدوية مع الأسلوب التقليدي، وذلك من حيث عزل المادة الفعالة من الخشخاش الشوكي وتحسين ما تتسم به تلك المادة من خصائص كيميائية، ثم إجراء الاختبارات على هذه المستحضرات الدوائية لدى القوارض والبشر ضمن دراسات سريرية يمكن الاعتراف بها. إلا أنه على النقيض من النموذج التقليدي في اكتشاف الأدوية، والذي تستخدم فيه مركبات كيميائية كثيرة قد تُستبعد بما فيها المركبات المفيدة عند ظهور أولى علامات اضطراب، فإن علم الأدوية العكسي يتيح الفرصة لاكتشاف المواد الفعالة فقط والتي تثبت فعاليتها وسلامتها بنسبة عالية. وفي حقيقة الأمر، لو تم تطبيق النموذج التقليدي لاكتشاف الأدوية على الخشخاش الشوكي، لتَمَّ استبعاده منذ زمن لأن المركب الأكثر فعالية في الخشخاش، وهو البربرين(39)، قد أثبت فعاليته القصوى ضد طفيلي الملاريا في المختبر، وليس على الفئران أو البشر. ولا يزال سبب كون النبات بكامله يبدي فعالية عالية مضادة للملاريا لغزا محيرا يأمل <گراز> و< ويلكوكس> بحلِّه بإجراء المزيد من الدراسات.
أمل وخطر(****)
تعتبر مقاربة علم الأدوية العكسي مناسبة جدا للعثور على أدوية جديدة لمعالجة الأمراض الحادة التي تَسهل مراقبتها، كالملاريا، ولكن لا يقتصر الأمر على ذلك فقط. ففي الهند، على سبيل المثال، ومنذ عقد من الزمن، تم تشكيل اتحاد يضم جامعات ومعاهد بحث وشركات أدوية لاستخدام هذه المقاربة لتطوير عقاقير لعلاج التهاب المفاصل وداء السكري والتهاب الكبد، استنادا إلى تقاليد الطب الهندي القديم. وعقب إجراء دراسة مسحية شملت معالجي الطب الهندي القديم على مستوى البلاد، توصل <A. كوبرا> وزملاؤه في مركز معالجة أمراض المفاصل(40) بمدينة بوني في الهند، إلى تحديد قائمة قصيرة من الأعشاب الواعدة في معالجة التهاب المفاصل، وباشروا بإجراء دراسات رصدية في العيادات الطبية تزامنا مع إجراء دراسات دوائية على الحيوانات. وفي الشهر 8/2013، نشروا نتائج دراستهم في مجلة علم المفاصل(41) على عينة عشوائية مزدوجة التعمية ذات شواهد شملت 440 مريضاً، وبينت تلك النتائج أن استخدام خلطة مكونة من أربعة مستخلصات عشبية قد ضاهى استخدام دواء السيليكوكسيب(42) («سيليبريكس(43)» المطور من قبل الشركة Pfizer) في تخفيف آلام الركب وتحسين أداء وظائفها.
وفي غضون ذلك، عمل <گراز> و< ويلكوكس> على ترويج مفهوم المقاربة العكسية(44) لاكتشاف الدواء، وعلى تدريب كثير من الباحثين الأفارقة، في أكثر من بلد، من أولئك الذين يرغبون في دراسة تأثير الأعشاب في إدرار الحليب عند النساء أو التخفيف من أعراض الإصابة بڤيروس عوز المناعة البشري(45) (HIV). وفي محاولة لإيجاد عقاقير شعبية فعالة لمعالجة داء السكري وارتفاع ضغط الدم، سافر <گراز> في الشهر 12/2013 إلى جزر بالاو في المحيط الهادي، التي تحتل المركز السابع كأكثر الشعوب بدانة في العالم. وقد أظهرت نتائج دراسته الرجوعية حول معالجات سابقة باستخدام 30 نباتا أن نبات النوني(46) - وهو شجرة تنتمي إلى عائلة نبات القهوة - قد أسهم في خفض الوزن، وأن نبات الفيلاريا نيسيدي(47) قد أسهم في خفض مستوى سكر الگلوكوز في الدم. وهناك الآن دراسة سريرية قيد الإنجاز حول فعالية نبات الفيلاريا. ويمكن أن يؤدي أي نجاح في معالجة داء السكري، والذي يصيب عشرات الملايين من الناس في بلدان العالم المتطور، إلى إنعاش عمليات البحث عن منتجات طبيعية من قبل شركات الأدوية.
ليس هناك اقتناع لدى جميع الناس بأن الطريقة الجديدة لابتكار الأدوية هي طريقة ملائمة. لنأخذ، على سبيل المثال، <N. وايت> الذي يعمل الآن في أكسفورد، والذي يأتي في طليعة العارفين بأهمية الأدوية الشعبية. ففي عام 1979 عثر على مقال غامض في مجلة صينية حول عشب يدعى كوينگهو(48)، أو عشبة الشيح الحولي(49)، التي كانت تستخدم منذ ما يزيد على 2200 عام في علاج الملاريا. وبحكم عمله في المختبرات، استطاع التعرف على المركب الفعال وهو الأرتيميسينين، وأخضعه لاختبارات الأمان المعيارية قبل إجراء دراسات سريرية ناجحة على البشر في التسعينات. وقد كان ذلك النجاح نجاحا طبقا للنموذج التقليدي لاكتشاف الأدوية، وهو ما يجعله يتحفظ على جدوى علم الأدوية العكسي، قائلا: «إن الأمر يبدو بسيطا نوعا ما.» فالملاحظات المدونة من قبل المعالجين الشعبيين شيء، وإجراء دراسة سريرية باستخدام الأساليب التقليدية شيء آخر قد يتنافى مع قواعد السلوك المهنية، مضيفا: «هل من الصواب معالجة شخص مصاب بمرض معدٍ خطير كالملاريا بلحاء شجرة أو ضفدع؟»
إلا أن <گراز> و< ويلكوكس> معتادان على سماع مثل هذه الاعتراضات. فخلال إحدى المحاضرات التي أعطاها <ويلكوكس> في اجتماع عقدته الرابطة الملكية للطب المداري والصحة(50) في ليڤربول، أشار أحد الحضور من أعضاء الرابطة إلى أن دراستهم قد لا تحظى بالقبول طبقا للقواعد الإرشادية المتبعة في مجالس مراجعة الأخلاقيات الطبية البريطانية، والتي تستوجب على الأطباء الغربيين اتباع معيار غربي للرعاية. واقترح آخرون أنه كان ينبغي أن تُخصص جميع الأموال والجهود التي تبذل على البحوث لصالح استخدام المعالجات التقليدية. وهنا تساءل <ويلكوكس>: «إن تلك الأموال كانت ستنفق خلال عامين ولكن ماذا بعد يا ترى؟» وقد كان أحد الأسباب التي دفعت <ديالو> إلى إرساء التعاون في هذا المجال وتوسيع نطاق قائمة الأعشاب وتدعيم البيِّنات حولها، هو أن مالي لديها الآن نظام للموافقة على «الأعشاب الطبية المُحَسَّنة»، إذ وافق مجلس مراجعة الأخلاقيات في مالي على الدراسة، في الوقت الذي يواصل فيه المعهد الوطني لبحوث الصحة العامة جهوده لتحضير شراب معياري من الخشخاش الشوكي حيث يمكن تصنيعه وتوزيعه محليا.
لقد عثر <گراز> و< ويلكوكس> أيضا على حليف لم يكن متوقعا، وهو مشروع الأدوية المضادة للملاريا(51) الذي يتخذ من جنيف مقرا له. ويعترف الموظف العلمي الرئيسي <T. ويلز> قائلا: «لقد كانت مغامرة ممتعة، فهي المنظمة الوحيدة التي رَكزت على العلاج بدلا من التركيز على الوقاية (البحث عن علاج بدلا من اللقاحات)، والموظفون فيها هم من أصحاب الخبرة الذين عملوا في شركات التصنيع الدوائي، وهي تمول مشاريع تتبع النموذج التقليدي في تطوير الأدوية.» ومنذ عدة سنوات، دفعت المنظمة أموالا للشركتين: Novartis و GlaxoSmithKline، وغيرهما من شركات الأدوية لاختبار الفعالية المضادة للملاريا لما يزيد على ستة ملايين مركب مسجل حصريا في مكتباتها، وكانت النتيجة أن عثروا على 25 ألف مركب واعد. وقد أدت الدراسة إلى رفع سوية المعيار الذي ينبغي أن يحققه مركب ما حتى يخضع إلى مزيد من الاستقصاءات، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن يكون الباحثون على وشك اكتشاف مركب جديد مضاد للملاريا.
وعندما شاهد <ويلز> البيانات التي صدرت عن الدراسة السريرية على الخشخاش الشوكي، شعر بالإرباك قائلا: «إن جودة الخشخاش الشوكي لا ترقى إلى جودة المعالجة بالتوليفات الدوائية التي تتضمن الأرتيميسينين ACT»، معللا ذلك بأنه: «لم يحظَ بأي تحسين». بينما مشتقات الأرتيميسينين، على سبيل المثال، كانت قد طورت بحيث تكون أكثر قابلية للذوبان، فإن الأدوية المشتقة من الكينين والمستخدمة حاليا قد خضعت لمحاولات متكررة لتحسين كفاءتها. ولتوجيه الأمور في هذا الاتجاه، يعكف الآن مشروع الأدوية المضادة للملاريا على تمويل المرحلة الثانية من البحث على الخشخاش الشوكي لتحديد المركبات الفعالة فيه وقياس معدل استقلابها في الجسم. وقد مولت هذه المنظمة مشروع بحث آخر حول المركبات الفعالة في عشب آخر مضاد للملاريا، وأثبت ذلك العشب نتائج مرجوة في دراسة سريرية أجريت في جمهورية الكونگو الديموقراطية.
عبور حدود(*****)
في الشهر 1/2013 سافر <ويلكوكس> إلى ميسيدوگو لتعزية أسرة المعالج الشعبي <تيموكو بينگالي> الذي توفي العام المنصرم. وتزامن ذلك مع الوقت الذي بدأ فيه الجيش الفرنسي ضرباته الجوية على الجماعات المسلحة شمال مالي، وقد أكدت هذه الاضطرابات على أهمية أن تكون لدى الأفارقة مصادر محلية للأدوية. وفي عام 2010، واستنادا إلى تهم بالفساد، أوقف الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا(52) منحا بمبلغ 18 مليون دولار أمريكي كانت مخصصة لمكافحة الملاريا. وفي عام 2012 أعلن هذا الصندوق عن إغلاق منشأة تأمين الأدوية التي كانت تقدم مساعدات مالية لمستوردي الأدوية الموثوقة بغية بيعها في الدكاكين القروية بأسعار رخيصة.
وكانت في جعبة <گراز> و< ويلكوكس> خطط لقياس تأثير توصياتهم حول استخدام الخشخاش الشوكي في الصحة العامة، إلا أن الوضع السياسي المتأزم حال دون ذلك، ولم يجرؤ <ويلكوكس> على البقاء في البلاد لمدة تزيد على أسبوع واحد. وذات صباح، بينما هو في سيارة، نظر من نافذتها ورأى ورودا صفراء تصدر حفيفا في أرض بوار ثم قال: «إنها سياسة تأمين شبيهة بسياسة سد الثغرات(53)»، بمعنى، «إيجاد شيء ما يمكنك الاعتماد عليه عندما لا يتوفر بديل آخر.»
المؤلف
| Brendan Borrell |
<بوريل> يعيش في مدينة نيويورك، ويكتب بكثرة في ساينتفيك أمريكان، ويعد التقارير حول العقاقير العشبية من موقعه كزميل لمؤسسة Alicia Patterson. | |
مراجع للاستزادة