علاج السرطان بالڤيروسات
(*)لدى بعض المرضى المصابين بالسرطان، تنجح الڤيروسات
التي تمت هندستها لتعمل في الخلايا الورمية عمل دواء عجيب.
والمهمة الملقاة على عاتقنا الآن هي البناء على هذا النجاح.
- -
باختصار من المحتمل أن تستطيع الڤيروسات المهندَسَة على نحو محدد أن تصيب السرطانات لدى البشر بالعدوى وأن تدمرها، بدون أن تسبب للأنسجة السليمة أذى ملحوظا. حالما تصير داخل الورم، تتكاثر مثل هذه الڤيروسات «الحالّة للأورام» oncolytic viruses على نطاق واسع، لتنتج جيشا من النسائل الڤيروسية القادرة على البحث عن المزيد من الخلايا السرطانية وإصابتها بالعدوى. إن ما يقرب من عشرة ڤيروسات تخضع للاختبار عند البشر كعلاجات منفردة أو مشاركة مع العلاجات الموجودة؛ وقد وصل العديد منها إلى المراحل الأخيرة من التقييم السريري. في البدايات، حاول الباحثون تثبيط الجهاز المناعي، كي يمنحوا الڤيروسات الوقت الكافي للتأثير في الخلايا السرطانية، قبل أن تتعرض للهجوم باعتبارها أجساما أجنبية. لكنهم الآن - وباتجاه معاكس تماما - يهندسون ڤيروسات ستثير الجهاز المناعي وتجدد نشاطه لمحاربة الورم. |
في عام 1904، واجهت إحدى النساء في إيطاليا حادثتين مهددتين للحياة: الأولى تشخيص إصابتها بسرطان في عنق الرحم، والثانية عضة كلب، فأعطاها الأطباء لقاح داء الكلَب لمعالجة العضة، فَتَلا ذلك اختفاء الورم ذي الحجم الهائل الذي كانت مصابة به (وهو ما يعبر عنه باللغة الإيطالية «لقد تلاشى الورم حتى لم يعد له وجود «il tumore non esisteva più»). وقد عاشت المرأة بدون السرطان حتى عام 1912. وبعد ذلك بفترة وجيزة، تلقت عدة مريضات إيطاليات أخريات مصابات بسرطان عنق الرحم اللقاح ذاته أيضا - وهو لقاح يحتوي على ڤيروس حي ولكنه مُضْعَف ومضاد لداء الكلب. وحسب ما ورد في تقرير <N. دي پاكو> في عام 1910، فإن الأورام انكمشت عند بعض المريضات، وإن السبب المفترض هو أن الڤيروس قتل السرطان بشكل ما. ولكن الورم نكس في نهاية الأمر، وأدى إلى موت جميع الحالات.
وعلى الرغم من وفاة هؤلاء المريضات، فإن مفهوم علاج السرطان بڤيروسات قادرة على قتل الخلايا الخبيثة - وهو ما اصطلح على تسميته في الوقت الراهن العلاج بالڤيروسات الحالّة للأورام(1) - ظهر إلى العيان لأول مرة. ولئن حقق الباحثون بعض النجاح في عملهم على حيوانات المختبر، فإن وقتا طويلا انقضى دون التوصل إلى ما هو أكثر من مجرد استجابات جزئية وإلى حالات شفاء نادرة جدا في التجارب على البشر؛ مما تأكد معه بقاء هذا المجال ضمن حدود الأبحاث على السرطان. وقد واجه علاج السرطان بالڤيروسات عدة عوائق إضافية أخرى: فكان هناك غموض وارتياب بخصوص آليات عمله وبخصوص كيفية استخدام الڤيروسات من أجل تحقيق الشفاء، وكان هناك شحٌّ في الوسائل اللازمة لهندسة سلالات ڤيروسية أكثر فعالية، هذا إضافة إلى النفور الاعتيادي لدى الأطباء من أن يُحدِثوا لدى مرضاهم عدوى بعوامل تسبب لهم المرض. وهكذا اختار الأطباء أن يستخدموا السموم (المعالجة الكيميائية) بدلا من الميكروبات، وكان سبب ذلك على الأغلب هو شعورهم بالارتياح أكثر عند استخدام هذه الأدوية، ولأنهم يفهمونها بشكل أفضل.
وقد اختلفت القصة اختلافا كبيرا في أيامنا هذه عما كانت عليه من قبل. فابتداء من تسعينات القرن العشرين، ومع تسلح الباحثين بفهم أكثر غنى للسرطان وللڤيروسات وبأدوات تسمح لهم بالتعامل مع الجينات، فقد شرعوا في اكتشاف التفاصيل حول كيفية مهاجمة الڤيروسات للخلايا السرطانية. وبدأ الباحثون أيضا بابتكار طرائق تغير الڤيروسات تغييرا يتناول جيناتها، ويستهدف تعزيز مهاراتها في قتل السرطان، مع منعها من إحداث تأثيرات غير مرغوب بها.
وقد ابتدأت تلك الجهود تؤتي ثمارها. ففي الصين، حاز أحد الڤيروسات الحالّة للأورام الموافقةَ على استعماله في علاج سرطان الرأس والعنق في عام 2005، وهناك ما يزيد على عشرة ڤيروسات تمر الآن بمراحل متفاوتة من الاختبارات على البشر لعلاج تشكيلة واسعة التنوع من السرطانات. وقد أعطت النتائج التي ظهرت مؤخرا في سائر الاختبارات التي أجريت على الڤيروس للباحثين الأملَ بأن تمنح إدارة الغذاء والدواء (FDA)ا(2) في الولايات المتحدة موافقتها على واحد أو أكثر من الڤيروسات كعلاجات للسرطان في غضون سنتين من الآن.
وعلى وجه الخصوص، أظهرت النتائج التي أسفرت عنها دراسة تجريبية واسعة النطاق على العلاج بالڤيروسات لمراحل متقدمة للورم الميلانومي النقيلي(3) (وهو سرطان جلدي)، وقد عرضت في المؤتمر السنوي للجمعية الأمريكية لعلم الأورام السريري في الشهر 6/2013، أن 11 في المئة من المرضى «استجابوا استجابة تامة» - فاختفت علامات السرطان كلها لديهم - بعد العلاج. وكان الدواء المستعمل، اسمه T-VEC، مكونا من نسخة معدلة من ڤيروس الهربس البسيط، بعد تغيير الجينات genes فيه بحيث صار يهاجم السرطان بضربة مزدوجة: فمن ناحية يدمر الخلايا السرطانية بشكل مباشر؛ ومن ناحية أخرى ينتج بروتينا اسمه العامل المنبه لمستعمرات الخلايا المحببة والبالعة الكبيرة (GM-CSF)ا(4) يهدف إلى تحفيز الجهاز المناعي ليقوم بدوره بمهاجمة السرطان. وعلى عكس ما نجده في التأثيرات الجانبية للعديد من المعالجات السرطانية، فإن أسوأ التأثيرات الجانبية التي أحدثها ڤيروس الهربس البسيط في الدراسة المذكورة لم تكن تزيد على أعراض شبيهة بالإنفلونزا مثل التعب والارتعاد والحمى. وقد نشرت الشركة Amgen التي صنعت الدواء البياناتِ حول النسبة الإجمالية للبقاء على قيد الحياة في الشهر 11/2013 وفي ربيع عام 2014. فظهر أن المرضى التي تلقوا الدواء T-VEC كسبوا أربعة أشهر إضافية مقارنة بأولئك الذين تلقوا بروتين العامل المنبه GM-CSF وحده.
وقد تبدو البيانات المتعلقة بنسبة البقاء على قيد الحياة مخيبة للآمال، لكن مما شد في عزيمة الباحثين أن واحدا من كل عشرة مرضى حصل على استجابة تامة. ومعدلات الاستجابة التامة التي حققها الدواء T-VEC تجاوزت تلك التي حققتها الأدوية كلها التي حصلت مؤخرا على الموافقة للاستعمال في علاج الورم الميلانومي النقيلي، بما في ذلك دواء يدعى ڤيمورافينيب(5)، تمت الموافقة عليه في عام 2011 لعلاج ذلك النوع من السرطانات بعد دراسة نشرت في مجلة New England Journal of Medicine، وذكر فيها أن جميع علامات السرطان اختفت لدى نسبة من المرضى أصغر بكثير من النسبة المذكورة أعلاه (أقل من 1 في المئة).
وأكثر تشجيع على استعمال الدواء T-VEC هو تقرير ظهر عام 2009، وبين أن نسبة تقارب التسعين في المئة من المرضى الذين استجابوا للعلاج ظلوا على قيد الحياة بعد مرور أكثر من ثلاثة أعوام على ذلك. وعلى سبيل المثال، هناك سيدة من نيوجيرسي تدعى ، لم يحالفها الحظ في الاستجابة للعلاجات الاعتيادية لورم الميلانوم المصابة به، فكان السرطان يواصل انتشاره في جسمها، لذلك قررت الانخراط في تجربة سريرية على الدواء T-VEC. وبعد ثلاث سنوات من المعالجة بذلك الدواء، لا تزال <بوهلين> - التي أصبح عمرها الآن 61 سنة - خالية تماما من السرطان. وهي تقول: «لقد كنت واحدة من المحظوظين، وكان دواء عجيبا بالنسبة إليّ.»
ومن الطبيعي أن يكون الهدف هو جعل ما حدث مع <بوهلين> هو المستوى المعياري، بحيث يرى أكثر من 11 في المئة من المرضى ورمهم السرطاني يختفي من الوجود. وفي الحقيقة، استطاع عدد من الڤيروسات أن يفعل ذلك بشكل جيد في التجارب السريرية. وفي هذه الأثناء، يتابع الباحثون (وبينهم اثنان مِنّا: <ستوجدل> و<ماهوني>) استكشاف الطرائق القادرة على زيادة فعالية المعالجة بالڤيروسات لدى عدد أكبر من الناس.
آلات بيولوجية قابلة للبرمجة(**)
توفر الڤيروسات عددا من المزايا الجذابة في معالجة السرطان، ويواصل العلماء الآن محاولاتهم إدخال تحسينات في عدد من الڤيروسات كي يحسنوا من قوتها ومن سلامتها. وكأحد الأمثلة على ذلك، فإن ڤيروسات معينة تصيب - إما من تلقاء نفسها أو مع بعض الاستثارة - الخلايا السرطانية بالعدوى بشكل انتقائي؛ بينما تتجاهل الخلايا الطبيعية، أو تنمو بشكل جيد في الخلايا السرطانية فقط؛ تاركة الخلايا السليمة بدون أذية نسبيا. وهذه الانتقائية مهمة من أجل تقليل التأثيرات الجانبية إلى الحد الأدنى، حيث إن تلك التأثيرات تنجم بشكل رئيسي عن تدمير الأنسجة الطبيعية.
وما أن تدخل الڤيروسات في خلية سرطانية، حتى تتمكن من التحول إلى آلات فتاكة. وفي حين أن أي ڤيروس لا يستطيع أن يتكاثر وحده، فإنه إذا وجد الظروف المناسبة في خلية ما، يصبح بإمكانه أن يستولي على الآلات الناسخة للجينات والصانعة للبروتينات في تلك الخلية، ليقوم باصطناع نسخ جديدة عن نفسه. وإذا سارت الأمور كلها على ما يرام في معالجة السرطان، فإن الڤيروس سيولد جيشا من النسائل أو الذراري التي ستخرج من الخلية السرطانية المصابة لتسعى إلى عدوى الخلايا السرطانية المجاورة أو حتى البعيدة. وأحيانا، تفجر الڤيروسات الهاربة الخلية التي تفر منها، بكل ما تحمله كلمة التفجير من معنى، فتجعلها أشلاء متناثرة أثناء خروجها منها - وهي عملية تعرف بانحلال الخلية(6) - ومنها جاء اسم العلاج بالڤيروسات «الحالّة للأورام». وفي حالات أخرى، تقتل الڤيروسات الخلايا الورمية بشكل أكثر خفاء، حيث تبرمجها بشكل حاذق كي تنخرط في سلسلة التدمير الذاتي، وهذا ما يدعى انتحار الخلية(7) أو الاستماتة(8). ومن ناحية المبدأ، فإن الڤيروسات التي تُعطى كدواء علاجي، تُحوّل الخلايا المصابة إلى مصانع تعمل داخل الجسم، وتنتج بغزارة كميات متزايدة من الدواء، وفي موقع قريب من مكان عملها.
هناك عنصر آخر مفيد يتميز به العلاج بالڤيروسات، وهو اتباعه الأسلوب المتعدد الجوانب في مهاجمة للسرطان. فالكثير من أدوية السرطان تتدخل في جانب واحد فقط من جوانب أداء الخلية لوظائفها، الأمر الذي يعتبر من العيوب الشائعة فيها، لأن الخلايا الخبيثة غالبا ما تجد في نهاية الأمر طرائق للالتفاف حول هذا التأثير والاستعاضة عنه. إضافة إلى ذلك، فإن السرطانات هي في حقيقة الأمر منظومات بيئية(9) تضم الخلايا التي تنحدر جميعها من خلية سليفة واحدة أصيبت بالاختلال، ولكنها صارت الآن تمتلئ بشذوذات مختلفة في الجينات وفي جوانب أخرى غيرها. وهكذا، فإن الدواء الذي يؤثر في بعض هذه الخلايا قد لا يؤثر في غيرها. وهذان هما السببان لاكتساب السرطانات صفة المقاومة للعلاج، وقدرتها على النكس ومن ثم قتل المرضى. ومن أجل مثل هذه الأسباب، يهاجم الأطباء السرطان في غالبية الأحيان من زوايا متعددة، فيستعملون أنواعاً عديدة من العلاجات. وهو ما يشبه كثيرا الطريقة التي يعالج الأطباء وفقها اليوم المرضى المصابين بڤيروس العوز المناعي البشري (HIV). كما أن العلاج بالڤيروسات هو بحد ذاته أقرب إلى المعالجة المشتركة منه إلى المعالجة المفردة، وذلك لأن الڤيروسات تسبب الإخلال بالعديد من العمليات داخل الخلية في الوقت نفسه، وتقلل المعالجة المشتركة من احتمال أن تصبح الخلية مقاومة.
|
قتلة مبرمجون للفتك بالسرطان: ڤيروس الهربس البسيط والڤيروس الغدي وڤيروس الحصبة (من اليمين إلى اليسار) هي ثلاثة ڤيروسات من بين ما يقرب من عشرة ڤيروسات تتم هنْدستها حاليا لتصيب الخلايا السرطانية بالعدوى وتقتلها، ولتعزز استجابة الجهاز المناعي للمرض، في بعض الحالات. |
إضافة إلى ما يقوم به الڤيروس من تدمير مباشر للخلايا الورمية، فإنه عندما يصيب خلية ما بالعدوى، فإنه يطلق عدة آليات «متأهبة للتدخل»(10) تستطيع أن تقتل الخلايا السرطانية التي قاومت العدوى، وتشمل هذه الآليات ما يدعى ضمور الأوعية(11) [انظر للإطار "كيف تعمل"]. ومع أن أغلب الڤيروسات الحالّة للأورام تنتقي الخلايا الورمية، فإن بعض سلالاتها يُصيب أيضا الأوعية الدموية في الورم بالعدوى. وتؤدي هذه العدوى الثانوية، بدورها إلى اجتذاب الخلايا المناعية التي تخرب الأوعية الدموية، الأمر الذي يعيق مسار تدفق الدم باتجاه الورم. وتنطوي آلية أخرى مهمة على الحشد السريع للخلايا المناعية في الورم، كي تتصدى للعدوى الأولية. وكان يُنظَر إلى هذه الاستجابة المناعية لمدة طويلة على أنها أحد العوائق الرئيسية التي تقف في وجه العلاج الناجح بالڤيروسات؛ فمن الناحية النظرية ينبغي أن تؤدي الهجمة المباغتة والقوية في نهاية الأمر إلى القضاء على الخلايا المصابة بالڤيروس قبل أن تسنح الفرصة لتلك الكائنات الدقيقة بالوصول إلى عدد كبير من الخلايا. وفي الحقيقة، ركزت الجهود الباكرة على إبقاء الجهاز المناعي في حالة احتجاز من أجل إعطاء الڤيروس الوقت الكافي للارتشاح infiltrate في الورم.
إلا أن المزيد من الجهود التي بذلت مؤخرا أثبتت أن هذه الخلايا المناعية يعاد توجيهها في بعض الأحيان باتجاه الورم نفسه، وتكون في كثير من الحالات ذات دور حاسم في نجاح المعالجة. ومع أننا لا نعرف التفاصيل الكاملة عن كيفية وتوقيت وسبب حدوث هذا التحول، إلا أننا نعرف تماما أن عملية إصابة الخلايا الورمية بالعدوى وقتلها تولد حطاما خلويا يحث على إنتاج جزيئات صغيرة منبهة للمناعة تسمى السيتوكينات(12)، كما ينشط أيضا الخلايا المتغصنة(13) للجهاز المناعي. وفي الحالة الطبيعية تجوب الخلايا المتغصنة الجسم بحثا عن أي شيء ليس جزءا أصيلا منه، وتنذر الخلايا التائية للجهاز المناعي كي تطلق الاستجابة المضادة للعامل الغازي الواضح. وفي هذه الحالة، يعتقد أن الخلايا المتغصنة تعامل مكونات الورم على أنها «أجنبية»، وتنبه الجهاز المناعي إلى حقيقة وجود ورم في طور النمو.
[كيف تعمل] كيف تعمل الڤيروسات الحالَّة للأورام على تدمير الأورام(***) لا تعمل جميع الڤيروسات على مهاجمة الخلايا السرطانية، بل إن بعضها فقط يجيد بشكل خاص استهداف الأورام وتجاهل الأنسجة السليمة. ويتعلم الباحثون حاليا كيفية تعديل هذه الڤيروسات (الإطار في اليسار) كي تثير استجابة مناعية أقوى ضد الورم (في الأسفل). وفي الحالة المثالية، يترافق هذا الأسلوب مع معالجات حديثة (غير معروضة هنا) تعيق قدرة الورم على كبت الجهاز المناعي. يستطيع الباحثون إقحام جينات لمستضدات ورمية ضمن الڤيروسات (والمستضدات هي جزيئات تثير استجابات مناعية). وعندها تنتج الخلايا الورمية المصابة بالعدوى المستضدات؛ مما يعزز الفعالية المناعية ضد مثل هذه الخلايا. (1) القتل المباشر (الحلّ) للخلايا السرطانية Direct Killing (Lysis) of Cancer Cells حالما يصير الڤيروس داخل خلية سرطانية، فإنه يجبر تلك الخلية على صنع ڤيروسات عديدة إضافية. ويخرج هذا الجيش الڤيروسي الجديد من الخلية المصابة ليتسبب في قتلها، وليسعى إلى إصابة خلايا سرطانية جديدة بالعدوى، أو يمكن القول ببساطة إن الڤيروسات تعيد برمجة الخلايا الورمية المصابة كي تدمر ذاتها في عملية تُسمى استماتة(15). (2) استجابة مناعية تلاؤمية Adaptive Immune Response عندما تنفجر خلية سرطانية مصابة بالعدوى، فإنها تطلق مستضدات - ومن بينها المستضدات المهندسة - فتبتلعها الخلايا المتغصنة للجهاز المناعي. وهذه المستضدات تُعرض بدورها على الخلايا التائية في الجسم، والتي تذهب إلى اصطياد خلايا سرطانية أخرى تشترك في المستضد نفسه. (3) استجابة مناعية خلقية Innate Immune Response يحض موت الخلايا المصابة بالعدوى الڤيروسية على تحرير جزيئات منشطة للمناعة - تتضمن إشارات تنذر بالخطر(16) وسيتوكينات - تحث الخلايا القاتلة الطبيعية(17) على تدمير خلايا ورمية أخرى سواء كانت مصابة بالعدوى أم غير مصابة. (4) ضمور الأوعية Vascular Collapse تصيب الڤيروسات بالعدوى أيضا الخلايا التي تبطن الأوعية الدموية حول الورم. وعندما تموت تلك الخلايا، تبدأ بجذب انتباه كريات دم بيضاء تدعى العدلات neutrophils التي تساعد على البدء بإنتاج الخثرات الدموية؛ مما يؤدي في نهاية الأمر إلى ضمور الأوعية الدموية وإلى انقطاع التروية المغذية للورم. |
وإضافة إلى تلك الفوائد المحتملة كلها، يمكن برمجة الڤيروسات بحيث تتصرف وفق أساليب لا تتبعها الڤيروسات الطبيعية: فبالإمكان تغييرها جينيا كي تنقص - على سبيل المثال - قدرتها على التكاثر في الخلايا السليمة، وتزيد تنسخها الانتقائي في الخلايا السرطانية. ويمكن أيضا تعديل جينوم genome الڤيروس، كي يمنح الڤيروسات سمات أخرى تكافح السرطان، مثل قدرة الڤيروس T-VEC على إطلاق هجمة مناعية للجسم ضد الورم.
ڤيروسات فائقة(****)
يستثمر الباحثون مجموع تلك المعارف كي يُحسِّنوا العلاج بالڤيروسات بعدة طرائق، ويخضع بعضها للاختبار حاليا في تجارب سريرية قيد التنفيذ. ويهدف أحد تلك الأساليب إلى هندسة الڤيروسات كي تحط فوق جزيئات معينة تعرف بالمسْتقْبِلات receptors، وهي توجد بكميات أكبر على الخلايا السرطانية منها على الخلايا الطبيعية. وإن الارتباط بهذه المسْتقْبلات يساعد الڤيروسات على الدخول إلى الخلايا. وبذلك يجب أن تساعد هذه الهندسة على ضمان أن تلتقط الخلايا السرطانية عددا أكبر بكثير من الڤيروسات التي تلتقطها قريباتها من الخلايا السليمة.
وهناك أسلوب ثان أكثر تقدما يهدف إلى تعزيز ميل الڤيروسات إلى التكاثر على أفضل ما يكون داخل الخلايا السرطانية. ولما كانت الخلايا الخبيثة تتكاثر بشكل متواصل، فإنها تولد كمية كبيرة من المواد الخام. ونظرا لحاجة الڤيروسات إلى هذه المواد الخام أيضا، فإنها تتكاثر أو تنمو في الخلية الخبيثة في غالبية الأحيان أفضل مما تنمو في الخلايا الأخرى التي تنجح في الدخول إليها. ونتيجة لمعرفتهم لهذا الميل، فقد قام العلماء بهندسة ڤيروسات تستجيب استجابة فائقة إلى المواد الخام التي توجد بكميات فائضة في الخلايا الورمية. فالعلماء يستطيعون، على سبيل المثال، إحداث تغيير في جينات أحد الڤيروسات بحيث يفقد القدرة على الإشراف على إنتاج الثيميدين thymidine، وهو أحد اللبنات الأساسية للدنا DNA. وعندما يفقد الڤيروس تلك القدرة، يصير مجبرا على العثور على مصدر خارجي للثيميدين، ويجد لدى الخلايا الورمية كميات وفيرة منه. في حين أن الخلايا السليمة بالمقابل لا تُؤمِّن للڤيروس المقدار الكافي من الثيميدين اللازم لتكاثره. ولايزال هذا الأسلوب في الوقت الحاضر يمر بالمراحل الباكرة والمتوسطة للاختبارات السريرية.
قامت مجموعة <J. بيل> [من معهد بحوث مستشفى أوتاوا (حيث كان <ستوجدل> يجري بحوث ما بعد الدكتوراه)] ومجموعة <G. باربر> [من جامعة ميامي] بتمييز سبب آخر يمنح الڤيروسات القدرة على التكاثر داخل الخلايا السرطانية: فعندما تصاب الخلايا بتبدلات في الجينات وبتبدلات أخرى تدفعها باتجاه الخباثة، فإنها غالبا ما تفقد بعضا من دفاعاتها ضد هجوم الميكروبات، مثل قدرتها على إنتاج جزيء مضاد للڤيروسات يدعى الإنترفيرون interferon. وقد استفادت المجموعتان المذكورتان أعلاه ومجموعات غيرها من نقطة الضعف هذه في تصميم ڤيروسات لا تنمو في أي خلية باستثناء خلايا الأورام التي تعاني قصوراً في دفاعاتها المضادة للڤيروسات - مثل النسخة المُهندَسة من ڤيروس التهاب الفم الحويصلي (VSV)ا(18)، ويتم في الوقت الحاضر تقييم أحد الڤيروسات VSVs هذه لدى مرضى سرطان الكبد.
وسنحصل على أعظم المكاسب، نحن والكثيرون من زملائنا، إذا استطعنا أن نعزز قدرة الڤيروسات على إطلاق استجابات مناعية ضد الأورام. ففي التجارب المجراة على الڤيروس T-VEC، وجد الباحثون أن الڤيروس لا يصل إلى كل خلية من خلايا النقائل السرطانية التي سبق لها الانتشار بعيدا عن الورم البدئي. ومع ذلك، حدثت لدى 11 في المئة من المرضى استجابة كاملة، وهي غياب أي علامة للسرطان في أي مكان من الجسم، ومن المفترض أن يعود سبب ذلك إلى أن الڤيروس المهندس حرَّض الجهاز المناعي كي يسعى وراء الخلايا التي لم يصلها الڤيروس ويدمرها. ومما يؤيد هذه الإمكانية، أن الباحثين عثروا على خلايا تائية T cells مفعلة في أماكن النقائل.
وضمن استراتيجية أخرى ذات صلة بالمناعة، كانت الريادة فيها لزملائنا في جامعة ماك ماستر بأونتاريو. وفي مايوكلينك بمدينة روشستر في ولاية منيسوتا، يقوم <ستوجدل> بهندسة جينات ڤيروسات علاجية تكود encode جزيئات تدعى المستضدات الورمية(19)، وهي تستطيع إطلاق استجابة مناعية عندما تكون موجودة على الخلايا الورمية (ومنها على سبيل المثال، المستضد المرتبط بالميلانوم(20)، أو MAGE). وفي حيوانات التجارب التي تتم معالجتها، تُعرَض المستضدات على الجهاز المناعي، لتحريضه على استهداف الخلايا السرطانية وقتلها، ويتم ذلك في الوقت نفسه الذي يقوم فيه الڤيروس الحالّ للأورام بعمل مزدوج هو قتل الخلايا السرطانية مباشرة وتغيير البيئة الميكروية(21) للورم بطريقة تستثير استجابات مناعية أخرى مضادة للورم. ومن المتوقع أن تبدأ الدراسات على البشر هنا عام 2014.
إن فكرة تنشيط الجهاز المناعي هي فكرة واعدة. لكننا تعلمنا درسا مهما عبر عقود من البحوث على المعالجة المناعية: لقد طورت الأورام عدة طرائق من أجل التملص من الهجوم المناعي، وقد تدعو الحاجة إلى معالجة المرضى أيضا معالجة تشاركية بعوامل أخرى تزيل التثبيط المناعي ضمن الورم. وليس لكمية دعمنا للجهاز المناعي أهمية عندما يكون الورم على درجة عالية من التمرس في إضعاف الاستجابة.
يحاول واحدٌ منا (<ماهوني>) - بالتعاون مع زملاء من جامعة كالگاري - أن يوقف عمل الخلايا المثبطة للمناعة التي يعرف عنها أنها تندس ضمن الأورام في الوقت نفسه الذي يتلقى فيه المرضى الڤيروسات الحالّة للأورام. فعند تقييد عمل تلك الخلايا يصير الجهاز المناعي الذي نَشَّطه الڤيروس قادرا على الإفلات من التثبيط، وبذلك يكافح السرطانات بشكل أكثر فعالية. وإننا إذ نستهدف الخلايا المثبطة للمناعة فإننا نستفيد من ثمرات عشرات السنوات من الأعمال التي قام بها باحثون آخرون صمموا جزيئات قادرة على استهداف التثبيط المناعي وإيقافه؛ وإن مثل تلك الأدوية - ومن بينها الأضداد الأحادية النسيلة(22) - تلتصق بجزيء يدعى PD-1 - تعتبر من بين أكثر العلاجات السرطانية التي تنتمي إلى الجيل القادم تبشيرا بالنجاح. وقد أصبح في حكم المؤكد أن مثل هذه الاستراتيجيات التي تعتمد على المشاركة، إضافة إلى نشر ڤيروسات ترافق الأساليب التقليدية، ستكون بمثابة المستقبل للعلاج بالڤيروسات الحالّة للأورام، وذلك بسبب إمكان مساعدتها للمرضى الذين لا يستجيبون للمعالجة الڤيروسية وحدها.
غير أن من الواجب علينا أن نتوخى الحذر ونحن نأخذ المعالجات التي تعتمد على المشاركة بعين الاعتبار. فعلى الرغم من أنه قد تم حتى الآن إثبات أن العلاج بالڤيروسات مأمون في التجارب السريرية، حيث لم يتم الإبلاغ إلا عن حالات نادرة جدا من التأثيرات الجانبية المهمة عند المرضى، وهذا ما يتناقض بشكل حاد مع غالبية الأدوية السرطانية التجريبية الأخرى، فإننا لسنا واثقين بكيفية تصرف ڤيروساتنا عندما نضم إليها استراتيجيات تكميلية أخرى للعلاج المناعي، أو عندما نزيد الجرعة. ويقول زميلنا <S. راسل> [أستاذ الطب في مايوكلينك]: «إن العلاج بالڤيروسات الحالّة للأورام مأمون إلى حد كبير حتى الآن،» ويضيف محذرا: «لكننا عندما نعمل على زيادة قوة هذا العلاج وتوسيع نطاق استعماله - خاصة في سياق تعديل مناعة الشخص المضيف - فإننا نتعرض لخطر إحداث السمّيّة، ولابد لنا من معرفة ذلك والانتباه إليه.»
إن تسخير قوة الڤيروسات في معالجة السرطان كان ولا يزال عملا طويل الأمد. ونتيجة لعقود من البحوث في علوم الوراثة الجزيئية وبيولوجيا السرطان والمناعيات الورمية والعلاج المناعي وعلم الڤيروسات والعلاج بالجينات، أصبحت لدى الباحثين أخيرا مجموعة شاملة من الأدوات والمعارف التي كانوا يحتاجون إليها للاستفادة من أمثال تلك التفاعلات المتبادلة بين الڤيروسات وبين الجسم في علاج السرطان. ولقد تم إثبات أن العلاج بالڤيروسات الحالّة للأورام يمكن أن ينجح. وأصبح السؤال الآن كيف نجعله ينجح لدى عدد أكبر من المرضى، وفي نهاية المطاف كيف نحقق الوعد الذي حلم به <دي پاكو> منذ 100 سنة بالاستفادة من الڤيروسات في استخدامات جيدة بإنقاذها أرواح المصابين بالسرطان.
المؤلفون
<ماهوني> أستاذ مساعد في قسم الأحياء الدقيقة والمناعة والأمراض المعدية بجامعة كالگاري. | Douglas J. Mahoney |
|
| |
<ستوجدل> أستاذ مشارك في قسم طب الأطفال والكيمياء الحيوية والأحياء الدقيقة والمناعة بجامعة أوتاوا، وكبير العلماء في مستشفى الأطفال التابع لمعهد أبحاث إيسترن أونتاريو. كما أنه مؤسس مشارك لإحدى شركات علاج السرطان بالڤيروسات، وقد بيعت مؤخرا إلى Sillajen. | David F. Stojdl |
|
| |
<ليرد> كاتب تعد مقالاته وتعليقاته مصدرا للأخبار في شبكات CNN وBBC وNPR وغيرها من القنوات. وقد حاز العديد من جوائز المجلات على المستوى الوطني. | Gordon Laird |
|