في السلطة اللغوية
أحمد بيضون
July 19, 2014
يحسب العرب من ذوي الاختصاص، على اختلاف الحقول، أن في وسعهم تجديدَ المصطلح، كلٌّ في حقل اختصاصه، أو الزيادةَ فيه من غير حاجةٍ إلى استشارة اللغوي. وقد يشاركهم هذا الظنّ صحافيون تبيح لهم مهنتهم تجوالاً حرّاً بين حقولٍ عدّة فيروحون يقترحون على العربية مصطلحات جديدة في أكثر من حقلٍ واحد. يَجْمع الأوّلون، على الأغلب، معرفةً حسنة بحقل الاختصاص إلى نقصٍ في الكفاءة اللغوية التي يفترضها هذا النوع من المقترحات. ويقرن الأخيرون، على الأغلب أيضاً، نقصاً في الأخيرة إلى نقصٍ في الأولى. هكذا تمتلئ حقول الاصطلاح المختلفة، من علميّةٍ وفنّية، بطحالب لغوية يصبح الخلاص منها غايةً في الصعوبة.
ويزيد من حدّة هذه المشكلة ما يلازم السلطةَ اللغوية من ضعفٍ في مجال العربية. وما نسمّيه السلطة اللغوية يتمثّل في مجامع اللغة، أوّلاً، وفي مراكزَ صَرَفَت وأفرادٍ صَرَفوا جهوداً مركّزة لوضع المعاجم الفنية ومسارد المصطلحات على اختلافها. وقد يتمثّل الجهد المبذول في تآليف قائمةٍ برأسها، مكرّسةٍ للمصطلح. وقد يُقْتصر على مسردٍ للمصطلحات يُلْحقه المترجم بكتابٍ نقله عن لغةٍ أخرى. ولا يجوز أن نجعلَ التقصير عنواناً لتقويمنا حصيلة هذه الجهود، في كلّ مجال. بل الأرجح أن التقصير، إذا وُجد، فهو يتفاوت بين مجالٍ وآخر ولا يُبْطل القيمةَ العظيمة للجهود المبذولة في كلّ حال. وهذا مع العلم أن بين المترجمين أنفسهم من لا يُحْسن الأصول الضابطة لوضع المصطلح أو لتعريبه ويبدي تساهلاً غير محمود في حقّ اللغة حين يقترح مقابلاً لهذا أو ذاك من المصطلحات التي وقع عليها في النصّ غير العربي.
على أن مشكلاً عويصاً يستوقف الناظر في هذا الحقل هو ذاك المتعلّق بتفتّت السلطة اللغوية أي بوجود مراكز لها، مؤسّسيةٍ وفردية، تكاد لا تحصى. ولكانت هذه الكثرة تُعدّ نعمةً لو وُجد قدْرٌ من تراتب السلطات يمنح واحداً من المراكز أو عدداً محدوداً منها قدرةً على التحكيم عند وقوع الخلاف الذي يقع فعلاً في كثرة من الحالات. وهذا إلى القدرة على التصويب عند وقوع الخطأ اللغوي الصريح وهو غير نادر الوقوع أيضاً.
هذه السلطة يفترض أن تكون منوطةً بواحد من مجامع اللغة (ومجمع
القاهرة هو الأَوْلى بتوّليها) أو بهذه المجامع كلّها (التي بات اتّحاد المجامع يضمّ عشرةً منها) على أن ينشأ بينها تنسيقٌ منتظم تصل نتائجه إلى الجمهور. والواقع أن مسألة الوصول إلى الجمهور هذه أي مسألة المنظورية هي المسألة العويصة التي تبدو الجهود المبذولة لحلّها قاصرةً للغاية حتى الآن. فإن حصاد مجمع
القاهرة، على التخصيص، من المعاجم الفنيّة التي هي ثمرات جهودٍ متّصلةٍ من عقود كثيرة، حصاد وفير يستحقّ التحية. وهذا ناهيك بقيمة المعجم اللغوي الكبير الذي ينكبّ المجمع على وضعه ولو ببطء يجده المهتمّ ممضّاً. ولكن هذا كلّه يوشك أن يكون غير متاحٍ لأصحاب الحاجة إليه، باستثناء «المعجم الوسيط « الذي عرف انتشاراً ولكنه لا يفي بما يستوقفنا ههنا من حاجات. وما يدعو إلى مزيد من الأسف أن ما تتيحه الشبكة العنكبوتية من إمكانات النشر وتيسير الوصول بالأعمال إلى الجمهور والتوسّع فيه يستثمر استثماراً ضيقاً وكثير الثغرات من جانب المجامع. فإن مواقع المجامع لا تفي بشيء يذكر ممّا يؤمّل منها. فتبقى أزمة المنظورية على حالها تقريباً ويبقى باب الارتجال مشرعاً أمام من يعتقدون في أنفسهم كفاءةً هم بعيدون عن حيازتها.
ما أنواعُ الخطأ والفوضى التي يتوجّب على السلطة اللغوية أن تواجهها؟ هي تلك التي يقع فيها مرتجلو المصطلحات ثم تشيع وتذيع. وتقتضي المعالجة استباق هذا النوع من الخطأ أو مواجهته قبل ان يستقرّ. ويفترض النجاح في أداء هذه المهمّة توفّر ما نسمّيه «السلطة» على الصوت المسموع. ولإسماع الصوت وإذاعة الكلمة وسائل معلومة. ولكن الثقة بأصحاب الصوت، أي حيازتهم ما يكفي من رأس المال الرمزي المتمثّل في ثقة الجمهور بهم وأنسه إلى آرائهم، هي الشرط الشارط لجعل الصوت المسموع نداءً مجاباً فلا يبقى جعجعةً بلا طحن.
ولنا إلى الأخطاء التي ألمحنا إليها وإلى مقتضيات علاجها عودة في العجالة المقبلة.
كاتب لبناني
أحمد بيضون