يحس المرء الآن بإحساس فظيع وهو أن الحرب ليس بإمكانها حسم شيء،
وأن الانتصار في حرب مشؤوم مثله مثل خسارتها
(أجاثا كريستي)
في الصور نرى أسيرا من الجبهة الوطنية لتحرير فيتنام، يقتاده جنود فيتناميين
ثم بعدها سيتوقف الجنود، ليظهر الجنرال الذي سيسحب مسدسه ويصوبه نحو رأس الأسير دون أن يتررد في إطلاق رصاصة، ويمكن مشاهدة الحدث كما حصل إما من خلال الموقع
أو
ليُترك بعدها الأسير ملقى كجثة في الشارع مضرجا بدمائه، كما يتضح في الصور
إن الإحساس الذي سينتاب أي شخص الآن، هو كرهه وحقده على الجنرال الذي أبدى قسوة ووحشية تجاه ذلك الأسير الأعزل.
وهذا كان إحساس كل من عرفوا بالقصة بجميع أنحاء العالم، لدى انتشار الصورة التي التقطها المصور الأمريكي ادوارد ادامز الذي كان يتابع الحدث بآلة تصويره إثر المهمة التي كان في فييتنام بصددها، وهي تغطية الحرب هناك لصالح وكالة انباء أمريكية. وتلك الصورة التي سيفوز بسببها بجائزة البوليترز التي تقدمها سنويا جامعة كولومبيا بنيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية في مجالات الخدمة العامة والصحافة والآداب والموسيقى، ستحدث جدلا واسعا
الصورة ستسبب صدمة واستياء وغضب العامة الذين سيطالبون بمحاكمة الجنرال الذي حرق معاهدة جنيف حول معاملة أسرى الحرب. وكل من شاهد الصور والفيديو سيجد أنه طلب معقول، بل قد تذهب الرغبة بالبعض لو أنه يقوم هو بالانتقام من ذلك الجنرال، فالاحساس الذي سيتملك الآن أي شخص هو انعدام الشفقة أو الرحمة اتجاه منفذ الجريمة البشعة
لكن.. ماذا لو أخبرناك أن الأسير “كان هو الآخر جلادا يرأس خلية القتل والثأر في الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام، وأنه قبل أن يُقتل قام رفقة خليته بتصفية 34 مدنيا، بينهم نساء وأطفال، وكان من بين الضحايا أعز أصدقاء الجنرال، الذي طُعن هو وأسرته بالسكين”(1). وهذا ماكان يجهله الجميع بمن فيهم من التقط الصورة ! . فما هو إحساسك الآن ؟ لو عدت وشاهدت الصور والفيديو هل ستراها بنفس الطريقة السابقة ونفس الإحساس السابق ؟ أم بطريقة مغايرة ؟
هل ما عاد الجنرال يبدو كشيطان؟ هل ماعاد الأسير يبدو كبريء لا ذنب له ؟
في ظل الحرب يصعب الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، فكل طرف له قصة، له تفسير، ليبرر ما يقوم به في حق الآخرين .. “فلا تظن أبدا أن الحرب ، مهما كانت ضرورية أو مبررة ، ليست جريمة” بتعبير إرنست همنغواي. فقد يقنعك طرف فتتعاطف معه لكن لا تنسى أبدا أن الطرف الآخر يراك ضمن المجرمين والمعتدين.
رغم أننا نرى أن قتل شخصٌ لشخص آخر، مهما كان المبرر أنه يُعتبر جريمة (بحسب القانون). أما حين تقتل جماعة جماعة اخرى، فهذا(يدخل ضمن) دفاع عن المقدسات ! ـ
فمن خلال المثال الذي أوردناه بالصور، نستطيع أن ندفع أي شخص (من المتحمسين) إلى الانتقام من الجنرال اعتمادا على قصة الحدث والصور، ونستطيع كذلك من جانب آخر أن ندفع شخصا آخر (أو هو نفسه) لتنفيد ما قام به الجنرال إذا اخبرناه عما قام به الأسير في حق أناس أبرياء (وخاصة لو ذكرنا له اصدقاء ضمنهم أو أفراد عائلته).. هذا هو ما يعرف بالتلاعب العقلي، والذي يعتمده الإعلام بأوضح صوره لدى تلاعبه بعقول المشاهدين للانحياز لطرف معين ضد آخر وذلك بسرد أحداث ووقائع مبتورة تخدم مصالحه. ـ
الأمر الذي يكشف عن سهولة خداع عقول البشر والتلاعب بمشاعرهم، نظرا لأن عاطفتهم تسبق رؤيتهم الموضوعية وكما قال هاملت لصديقة هوراشيو في مسرحية شكسبير الشهيرة : “أين هو هذا الإنسان الذي ليس عبدا لعاطفته ؟! فليسكن مهجتي، والعين وسويداء القلب كما تسكن أنت..”، فالموضوعية هي الابتعاد قدر المستطاع عن العاطفة عند اصدار الحكم بعد تكوين صورة شاملة للأمر وليس مقتطفات، هذا ما يُصعّب عملية التلاعب بعقل الإنسان.
رغم ذلك تظل “الحروب من أعراض فشل الإنسان في التفكير مثل الحيوان” كما يقول جون شتاينبك.
فصراعات البشر الخارجية ليست إلا صراع الإنسان الداخلي، صراعه مع نفسه يسقطه على الواقع ليتخلص منه ـ نجد في تعبير سيقربنا من هذه النقطة (بوضوح) لدى الكوميدي جورج كارليل يقول فيه : “نحن نحب أن نعلن الحرب على أي شيء.. إذا لم يكن هناك بلد في الخارج نحاربها فإننا نقرر اعلان الحرب على شيء داخل بلدنا.. اعلان الحرب هو الاستعارة الوحيدة في خطابنا الشعبي لحل المشاكل..” ـ . فيُستغل هذا الأمر في الإنسان أو بتعبير أوضح يُستغل المضطهون والمراهقون وبسطاء الفكر والمضطربون ـ وكل من يبحثون عمن يصارعون حتى لا يتصارعوا مع انفسهم لعجزهم عن ايجاد منفذ لتفريغ مشاكلهم التي تمزقهم (فيلقون بأسبابها على الآخر بإخلاء المسؤولية عنهم) ـ كقرابين وأحصنة طراودية بأيد أصحاب أهداف ومخططات (مضطربين ربما هم كذلك) يأكلون أدمغتهم، كما يشرح الشاعر الفرنسي بول فاليري ذلك بقوله “الحرب مجزرة تدور بين أناس لا يعرفون بعضهم البعض لحساب آخرين يعرفون بعضهم البعض ولا يقتلون بعضهم البعض”. بين “مغفلين” لحساب “ماكرين” بتعبير أدق. ـ
بالعودة لقصة الصورة، ظل الجنرال يعيش جحيم المطاردة والخوف إلى أن مات بالسرطان، و“حين علم آدامز(ملتقط الصورة) بوفاته أحس بالندم وكره أن يرحل بتلك الطريقة المذلة دون أن يعرف أحد حقيقته” فكتب عنه مقالا أوضح فيه أن الجنرال قام بقتل الأسير، لكنه (آدامز) قتل الجنرال بتلك الصورة، قتله بآلة تصوير، وأضاف فيه أن “الصورة هي السلاح الأكثر قوة في العالم، والناس يصدقونها. لكنها تكذب، حتى دون أن تتلاعب، فهي لا تقول سوى نصف الحقيقة.. هذه الصورة دمرت فعلا حياته(الجنرال) لكنه لم يعاتبني أبدا. قال لي إذا لم أكن قد التقطت تلك الصورة، فإن شخصا آخر سيفعل ذلك. لكني شعرت بالذنب تجاهه وتجاه عائلته، وظللت أتواصل معه. آخر مرة تحدثنا فيها كانت قبل ستة أشهر. كان مريضا جدا. وحين سمعت بوفاته بعثت بالورود لتعزيته وكتبت : أنا آسف. هناك سموع تملأ عيني