لماذا يهاب الدكتاتور الاعلام؟
القذافي وبن علي.. نهاية عصر الديكتاتور
في جعبتي قصص كثيرة في كيف يهاب الدكتاتور الاعلام، وهي قصص كاشفة، كما
يقول المناطقة، سوف اسرد قصتين منها فقط، حتى أبيّن للقارئ الكريم كيف يهاب
الدكتاتور الاعلام، ومن ثم لماذا يهابه؟
القصة الاولى وقعت في الثمانينات من القرن الماضي، وقتها كنت رئيسا لتحرير
مجلة العربي الشهرية ذائعة الصيت، ونشرنا خبرا فيها في باب الكتب.. الخبر
لا يتعدى ثلاثة اسطر فقط، اشرنا فيه لاصدار الكاتب التونسي المنصف المرزوقي
كتابا حول حقوق الانسان، ذاكرين عنوان الكتاب فقط لا غير. وصلت المجلة الى
تونس فمنعت من الدخول والتوزيع، علمنا ذلك اولا من قرائنا الذين يداومون
على اقتناء المجلة، ثم جاءنا خطاب من الرقابة التونسية وقتها انه اذا ما
تكرر منكم ذلك (اي الاشارة الى اسم المنصف المرزوقي) فإن المجلة سوف تمنع
من تونس اطول فترة ممكنة!
دارت الأيام بالطبع وأصبح المنصف المرزوقي رئيسا موقتا للجمهورية! هذه واحدة.
اما الثانية ، فبعض أبطالها مازالوا أحياء وهي كالتالي. طلب مني الصديق
مازن حماد، وكان يعمل مدير تحرير مجلة تصدرها الجامعة العربية، وكنت عضوا
في هيئتها الاستشارية، طلب مني ان اكتب مقالا عن الحرب العراقية الايرانية.
كانت الجامعة العربية قد انتقلت الى تونس ابان القطيعة مع مصر، وايضا
كانت الحرب العراقية الايرانية على اشدها، فكتبت المقال حسب طلب الزميل
وضمّنته رؤيتي حول الحرب وملابساتها، ونشر المقال في المجلة، بعد نشره
استشاط السفير العراقي في تونس وقتها غضبا وذهب محتجا للشاذلي القليبي وكان
أمينا عاما للجامعة العربية مطالبا بمطلبين:
الأول أن يقال مازن حماد من إدارة تحرير المجلة (شؤون عربية) وان يرفع
اسمي من هيئة المستشارين، وهدد ثم زمجر وتوعد، كما نقل لي، فسأله الأمين
العام، على اية فقرة ظهرت في المقال يحتج، فقال إن الكاتب قد ارتكب خطيئتين
لا تغتفر – من وجهة نظره – الأولى ذكره ان احد اسباب الحرب العراقية
الايرانية الخلاف حول شط العرب، وهذا غير صحيح، لأن اسباب الحرب غائرة في
الزمن، اي منذ ان رفض كسرى انو شروان، ملك الفرس دعوة النبي محمد (صلعم)
للدخول في الإسلام!
صدام حسين
والخطيئة الثانية ذكره في مقاله (الثورة الإيرانية) وهي ليست ثورة انما لا تعدو أن تكون انقلابا قام به الملالي غير شرعي!
طبعا امام اصرار السفير الفذ، فقد الزميل مازن حماد وظيفته التي يتعيش
منها، فأقيل، وسافر إلى لبنان ولا زال هناك، ايضا تم رفع اسم كاتب المقال
للأبد من هيئة المستشارين في مجلة شؤون عربية!
ماذا يعني هذا؟
يعني في بعض من تفسير، ان اخفاء الحقائق وعدم اشهارها تعني للدكتاتور انها
غير موجودة، كما ان اشهارها يعني احتمال ان يلحق العطب بسلطة الدكتاتور
وتسلطه على الناس.
لا زين العابدين بن على موجود اليوم في السلطة ولا صدام حسين او سفيره
الغاضب موجود في السلطة ايضا، فمهما كبر الطغيان لا بد ان يزول، كل ما هو
موجود هي العقلية ذاتها التي تتصور أن كنس الحقائق واخفاءها تحت السجاد لم
تصبح غير موجودة او غير متاحة.
الحادثتان اللتان تم ذكرهما حدثتا منذ بضع عشرة سنة، ولكن اليوم، تقدمت
وسائل الاتصال المباشر والشخصي او الجماعي الى درجة لا تستطيع اية قوة ان
توقفها، مهما كانت جائرة، ومن الغريب ان يتهم بعض أهل السلطة القمعية اليوم
محطات فضائية مثل الجزيرة والعربية على انها تقوم بتأجيج الاحتجاجات في
بلدانهم، وهم في حقيقة الأمر يلومون المبلّغ عن الحريق ولا يستطيعون ان
يقنعوا انفسهم بالبحث عن اسباب الحريق ودوافعه.
يهاب الدكتاتور سلطة الحقيقة، ويوزع الاتهامات، وتقوم اجهزته بمتابعة
المجاهرين بالحقيقة كما يعرفونها، كمتابعة اهل الكفر في مجتمع مؤمن. لو
كانت للدكتاتور قاعدة محقة وعمل لا يخجل منه ان اعترف علنا به، لما لجأ الى
تكميم الافواه، بل الى اشاعة الحقائق، ومواجهة الحجة بالحجة، الا انها
عقلية الدكتاتور التي تتصف بالصلف والجهل معا.
الدكتور محمّد غانم الرميحيد.
محمّد غانم الرميحي هو أستاذ في علم الاجتماع السياسي، في جامعة الكويت
وقد قدّم كتاباتٍ عديدة تتعلق بمواضيع علم الاجتماع السياسي، وشغل مناصب
كثيرة، ومنها رئيس قسم ومساعد عميد كلية الآداب والتربية في جامعة الكويت.
كان رئيس التحرير في عدد من المجلات والصحف على رأسها مجلة (العربي)
الشهرية الشهيرة. له عدة مؤلفات.
More Posts