د. معن الطائي وأماني أبو رحمة
الأدائية أو نهاية ما بعد الحداثة (2/2)
11/12/2011
|
من فيلم اركضي يا لولا |
إن ما يشدنا إلى الأدائيين هو شخصياتهم التي هي خليط من شخصيات، فضلا عن
تلك الطريقة التي يرون بها (الإله) في كل مكان حولهم، على الرغم من
الأسباب الصارخة التي تحاول منعهم من ذلك. إنهم يستثمرون أنفسهم بالكلية
فيما يؤمنون به. ويتطلب ذلك منهم عملا شاقا متواصلا لتعبئتنا , ولكنهم لا
يعملون من أجلنا أو من اجل معتقداتهم إنهم يعملون لأنه يتحتم عليهم العمل
والأداء والإنجاز. وبعد ذلك يتركون لنا محاولة إدراك لماذا عملوا.
ولكن والمشكلة الأساسية في تمثيل دور الإله ـ يقول ايشلمان ـ" انك لا
تستطيع أن تخلق السعادة لك أو للآخرين بالأوامر حتى لو نصبت نفسك خالقا،
وقد عولجت هذه المشكلة مطولا في فيلم (البلهاء) للمخرج الدانمركي لارس فون
ترايير (بالدنمركية:Lars von Trier) والمنتمي إلى أفلام الدوغما 95. هناك
(في الفيلم طبعا)، مجموعة من الشبان الدانمركيين الذين يعيشون معا في
بلدة، ويجولون فيها للتظاهر من أجل أن يكونوا عاملين اجتماعيين يقدمون
الرعاية للمرضى المتخلفين عقلياً. في البداية، لا تخدم جولات المجموعة
أكثر من فضح الغرور والخوف البرجوازي الذي تمثل بالعدوان على اللياقة
الاجتماعية الأساسيةـ لازالت الحبكة متماشية تماما مع تفضيل ما بعد
الحداثية للمحاكاة والتزييف simulation الانتقادي على الإسقاطات الواثقة
حول ما هو (حقيقي)، على الرغم من أننا نكتشف، مع الفيلم، أن الهدف الحقيقي
للجماعة هو نوع من العلاج الذاتي الراديكالي. يعلن قائد المجموعة
المسيحاني المخلص أنهم لا يهدفون إلى صدمة الغرباء من خلال محاكاة التخلف
العقلي في أحرج لحظة ممكنة ـ وبالتالي تأكيد آخريتك ببساطة ـ ولكن للقيام
بذلك في محيطك الأسري والاجتماعي. وفي نهاية المطاف، فإن العضو الوحيد في
المجموعة الذي ينجح في القيام بذلك هو، شابة خجولة تعاني من انعدام الأمن
بعد أن فقدت طفلها للتو. وبوساطة الترويل والترويل مثل طفل متخلف أثناء
ساعة القهوة مع عائلتها القاسية وعديمة المشاعر، تخلق الفتاة علامة إشارية
(an ostensive sign) للتضامن مع الأطفال القتلى، في الوقت الذي انفصلت فيه
عن اللامبالاة العاطفية لعائلتها البرجوازية التي لا تطاق. هذا الأداء
السردي المتعالي الذي يهدف إلى تأسيس إحساس بالذات ـ وليس الالتزام
الإيماني الجبري في حد ذاته ـ هو ما يجعل العمل أدائي".(الكتاب:14-15).
يبرر ايشلمان تركيزه على السينما في عرضه لاشتغالات الأدائية, لأنهاـ كما
يقول ـ أسهل طريقة لشرح هذا التحول التاريخي الكبير للقارئ. ذلك أن الجميع
تقريبا يذهب إلى السينما بانتظام، وتميل الأفلام للتفاعل مع الاتجاهات
الشعبية بسرعة أكبر من أي جنس أدبي أو فني آخر. ولكنه بالطبع لا يكتفي
بذلك فهو يرصد بدأب التحولات من ما بعد الحداثية إلى الأدائية في المعمار
والأدب والفنون كافة.
ففي مجال العمارة يمكننا أن نختصر مقالة مطولة للمؤلف ومعززة بصور عمارات
وأبنية على الطريقة الأدائية من برلين , التي يقول عنها أنها تمثل المشهد
المعماري الأكثر ديناميكية في العالم (15).
تعمل العمارة الأدائية بوساطة افتراض أن المباني يمكنها أن تتجاوز الطبيعة
المادية لمكوناتها. ونحن نعلم أن المباني لن تقاوم الجاذبية الأرضية أو
الدمار الشامل أو عوامل الزمن ولكن الأدائية تضع ذلك ضمن حساباتها.
و الفكرة الجوهرية التي تستنبط منها العمارة الأدائية أدواتها هي ما أطلق
عليها ايشلمان الخلق الإلهي: يخلق الله العالم ثم يترك لنا حرية التصرف
لكنه يتدخل حين يجب أن يتدخل، وإذا كنا مؤمنين فإننا سنعتبر تدخلاته دليلا
على وجوده، وبالمقابل يضع المعماري الإطار ثم يتدخل جذريا حين يتوجب عليه
أن يتدخل.
يتضمن الفن المعماري الأدائي:
(1) تشريح الكتل خارج المبنى على نطاق واسع، بل قد يتطلب الأمر إضافة كتل
معمارية في أماكن غير عادية. ومن المفترض أن يشعر المستخدم بقوة البناء
وهيبته , وبأن يداً ما فوق بشرية قد أبدعته، بدلا من الأشكال الزخرفية
المألوفة في ما بعد الحداثة، أو المبادئ التقنية المفروضة قسرا كما في
حالة الحداثة.
(2) تقنية أخرى تنطوي على الشفافية والروحانية توظفها العمارة الأدائية
حين تثير إمكانية تجاوز المادية بوساطة تمثيلها في شكل سطوح شفافة رائقة
دون الكشف عن الاشتغالات المادية الداخلية للمبني فتبدو المباني كأنها
صروح من قوارير مسكوبة.
(3) عنصر آخر أساسي مميز للعمارة الأدائية هو التقسيم إلى مثلثات أو
التثليث. والمثلث هو أصغر شكل هندسي يجسد الانتقال من البعد الأحادي إلى
البعد الثنائي ومن الأفقي إلى الرأسي، بحيث يمكن التفكير فيه ـ من الناحية
السيميائية ـ باعتباره تعبيرا عن ثنائية الانطواء/ الانفراج. كما يمكن
النظر إلى رأس المثلث بوصفه علامة تشير إلى شيء خاص جداً، بينما يمكن
التفكر في الضلعين اللذين يكونان الرأس بوصفهما امتدادا نحو اللانهاية.
تجعل الأدائية من المثلثات رمزا للإيمان وليس للفاعلية. إنها تميلها
وتقلقلها لتقول لنا أن وظيفتها الأولى في توفير الاستقرار والمأوى قد ولت
ولا وجود لها بعد اليوم.
(4) توظف الأدائية المعمارية تقانة التحكم في الجمادات دون لمسها وهي ما
يطلق عليها مصطلح ((Kinesis, ومن المحتمل أن هذه هي الطريقة الأكثر جذرية
لتجسيد التفوق المعماري. تقول هذه الطريقة أن الكائن الجامد, البناء مثلا,
يفعل شيئا خلاف طبيعته الجامدة: إنه يتحرك.
(5) أما التقانة الأخرى التي تتصل بتقانة الخلق الإلهي والتحكم بالجمادات
فهو التهديد بالخطر impendency)). تكون المباني في هذه الحالة على درجة
عالية من الديناميكية لدرجة يشعر معها المشاهد أنها على وشك الانهيار،
ولكنها ترمز إلى مخافة الرب وقدرة المعماري في الوقت نفسه.
أن هذه الدراما المتسامية إنسانية وليست تقنية كما في الحداثة. إنها تعبير
عن إرادة المهندس أو عناده وليست دليلا على براعته الفنية.
(6) تُثَيّم الأدائية المعمارية الكمال والغلق. فنجد أحيانا بناية على شكل
بيضة، بدلا من الدوائر الهندسة العقلانية الحداثية. ويمكننا القول أن
البيضة تمثل نسخة معتدلة عن الأدائية ذلك أنها تقترح الغلق والوحدة ولكنها
تعرضها كما لو أنها أمرا شاذا يفتقد إلى العقلانية.
(7) وكما هو الحال في حالة التحكم في الجمادات فإن الهندسة الأدائية توظف
الإطارات بوصفها رموزا للإلهام الإلهي الذاتي. قد يفتقد الإطار إلى قطعة
بنائية ضخمة ربما ليشير إلى التقاء النقيضين: قدرة المعماري في الدنيا
وعجزه أمام الآخرة. غالبا ما يفصل الإطار نفسه عن محتوياته أو العكس
بطريقة جذرية لا ينقصها العنف.
لن تحدث القطيعة بين ما بعد الحداثة والأدائية بالضربة القاضية الحاسمة
المفاجئة. فالأدائية مثلها مثل أي مرحلة جديدة ستستعير الكثير من العهد
السابق ولكنها ستنفصل عنه جذريا في جوانب أخرى في الوقت نفسه حتى تتم
القطيعة الكاملة.
يكمن الاختلاف الأساسي بين العهدين في توظيف الشخص الكلي والمتفرد وفي
توظيف العلامة. هنا تحديدا لا تنسجم الأدائية مع فكرة ما بعد الحداثة عن
الشخص والعلامة التي تصفهما بأنهما أعراض جانبية مشوشة للتغيير المستمر في
السياق النصي. وبالرغم من ذلك فإن توظيف الأدوات الكلاسيكية ما بعد
الحداثية من اجل ابتكار مواضيع مغلقة وعلامات محددة يبدو أمرا لا يمكن
اجتنابه ,على الأقل في الوقت الحالي , وباختصار فإن العهد الجديد لا زال
يعتمد على أدوات المرحلة السابقة.
و لا شك أن نقاد الأدائية سيسارعون إلى وصف أعمال مثل الفيلم الألماني
(اركضي يا لولا اركضي) ورواية (أصبع بوذا الصغير) لفيكتور بيلفين بأنها ما
بعد حداثية لأنها توظف الحقائق الافتراضية. ولكن من المهم أن لا ننسى أن
توظيف العوالم الافتراضية في مثل هاتين الحالتين مختلف تماما عن توظيفات
ما بعد الحداثة: إنه يحقق جملة أهداف: المصالحة المطلقة بين الموضوع
وسياقه في حالة رواية الكاتب الروسي فيكتور بيلفين، والحفاظ غير المشروط
على موضوع العاشق المحب في (اركضي يا لولا). الأمران اللذان تنبذهما ما
بعد الحداثة بوصفهما تعبيرات ميتافيزيقية مبتذله عن الإيمان واليقين. وإذا
ما اختار المرء أن يتجاهل هذه الادعاءات المزعجة لتحقيق سمو تخيلي , فلن
يكون هناك أي سبب يمنعننا من قراءة العملين منفتحين على الأدائية إلى
أقصاها.
يعرض ايشلمان نموذجا آخرا لرواية تجمع ما بعد الحداثية والأدائية. إنها
رواية الأجزاء الأولية Les Particules élémentaires)) للكاتب ميشيل
أويلبيك والتي صدرت عام 1998. هنا يعرض أويلبيك الثنائية القاسية
المتصاعدة في ثقافة ما بعد الحداثة حين يبتكر شخصيتين عاجزتين تماما عن
الحب: الأولى تُحكم العقل، والثانية تحتكم إلى الجنس والمتعة المطلقة.
يكشف أويلبيك على مدى 340 صفحة مشاهد من اللامبالاة النفسية، والفظاظة،
والممارسة الجنسية الآلية، والوحشية المفرطة التي قصد بها رصد الخواء
المطلق عند أبطاله , وفقط في الصفحات العشر الأخيرة يبدأ المؤلف في وضع
فكرة طوباوية عن نوع اجتماعي جديد أنتجته الهندسة الجينية يتصف بالمسالمة
والإيثار.
إن رواية أويلبيك أدائية من ناحية قدرتها على تجاوز صورة الجنس البشري ما
بعد الحداثية تخيلياً. وفي الوقت نفسه، فإنه لا يزال ـ بالنسبة للجزء
الأكبر من الرواية ـ ملتزما بالميتافيزيقا التشاؤمية ما بعد الحداثية التي
تدور حول الموت. فقد جاء على لسان حال أويلبيك ما نصه:"في النهاية، تحطم
الحياة قلبك بعد كل شيء.... وبعد ذلك لا أحد يضحك.... كل ما تبقى هو
الوحدة، البرد والصمت، وكل ما تبقى هو الموت" (16).
يتمرد أويلبيك على ما بعد الحداثة موظفا ما بعد الحداثة نفسها لدرجة أنه
يبحث عن الخلاص من خلال التحول الجيني للموضوع القديم الذكوري الشرير، بل
أن المؤلف نفسه يجد صعوبة في كتابة سطر واحد من قصته مستقلا عن هذا النوع
الاجتماعي المستنسخ الجديد.
يحدد ايشلمان الملامح الخمس الأساسية لأدائيته على النحو التالي:
(1) لا مكان بعد اليوم للاقتباسات والاستشهادات التي لا نهاية لها ولا
للأصالة أو الموثوقية، بدلا من ذلك هناك تأطير يهدف إلى السمو والارتقاء
بما هو موجود فعلا أو تجديده جذرياُ، وتوظيف الطقوس والعقائد أو الأطر
الكابحة المشابهة من أجل تحويل أو السمو بحالات الوجود، وعودة التاريخ في
مظهر الموضوع المؤطر تجريبيا. وفي السرد عودة التأليفية والإطار التأليفي
الملزم الذي تدلل عليه الطرق المختلفة لأسلبة التجاوز: رأسيا العبور إلى
مستوى أعلى وأفقيا التهرب إلى إطار مختلف أما الكلي فهو الوصول إلى توافق
صحيح بين الإطار والموضوع.
(2) بدلا من نظام العلاقات العائمة والمشوشة بين أجزاء العلامات فإن
العلاقة الكلية بين الموضوع والعلامة والشيء ستكون قاعدة التواصل والتفاعل
الاجتماعي بكل أنواعه. إن توظيف علامة ما يكون عن قناعة ويقين وهو نشاط
بدلا من كونه اضطراب سيميائي أو دلالي. قد يبدو الموضوع صلبا أو مبهما،
ويمكن أن يكون غبيا، ساذجا، مذهلا، محدود التفكير، بسيط، جاد وبطولي ولكن
ليس ساخرا أو تهكميا إلى ما لا نهاية.
(3) التحول من صيغة الإرجاء الزمني (عملية الاختلاف المرجأ) إلى الربط
المحدود بين المتضادات في الحاضر ولمرة واحدة. الصيغة السيميائية الأساسية
في الأدائية هي الواحدية. التي تتطلب تكامل الشيء أو الأشياء مع مفهوم
العلامة. ويقول ايشلمان"أن أفضل مفهوم للعلامة يتوافق مع مفهوم الأدائية
هو نموذج إيريك غانس عن الإشارية (ostensive)(17). يُقرب ايشلمان مفهوم
الإشارية (تعريف الشيء بوساطة الإشارة إليه) من الأدائية حين يقول:"أن
الإشارية تكون حين يحاول شخصان على الأقل , إرجاء العنف في موقف يحاكي
الصراع , فيتفقان حدسيا على علامة حاضرة تمثل وتؤل وتجمل انجازها الذاتي
في تأجيل العنف. وبالطبع فإن هذا المشهد الإشاري المزعوم الذي حضر فيه
الإنسان، واللغة، و الدين والجمال في وقت واحد وللمرة الأولى، هو حالة
افتراضية" (18).
إن تفسير ايشلمان، وخصوصا في جانبه التاريخي، فيما يتعلق بالإشارية هو
أنها تجسد الآلية السيميائية في توليد عهد جديد أفضل من أي مفهوم أحادي
آخر وبعبارة أخرى فإنها تمثل تكون الوعي بعهد جديد. وتبعا لذلك فإن وظيفة
الجمال الأدائي ستكون وصف المظاهر المختلفة من الإشارية في الأعمال الفنية
المعاصرة وتبيان قدرتها على جعل هذه الأعمال تروق لنا بمصطلحات الواحدية،
وليس على طريقة (المجموعات الفكرية أو العقليات المتعددة) ما بعد
الحداثية.
(4) الانتقال من التشاؤمية الميتافيزيقية إلى التفاؤلية الميتافيزيقية.
ذلك أن نقطة التوجيه الميتافيزيقية لم تعد الموت ووكلائه(الفراغ , الغياب
, وإفراغ الذات والعجز والاختلال الوظيفي) , ولكن بدلا من ذلك الحالات
المختبرة نفسيا أو المؤطرة تخيليا للسمو والارتقاء(البعث والنشور , العبور
إلى النيرفانا, الحب , التطهير , الإشباع أو طقوس الملأ , والتأليه
والعبادة)
(5) التوجه نحو إزالة الرغبة الجنسية , وتعزيز فكرة الحب والنوعية الموحدة
للرغبة سواء كانت ذكورية أو أنثوية , مغايرة أو مثلية. الأمر الذي عده
المؤلف أكثر أهمية من استمرار لعبة الأنا والآخر.
ومع نهاية الدراسة يمكننا الآن أن نلخص خصائص الأدائية عند ايشلمان كما
حددها في نهاية الفصل الأول من كتابة (الكتاب، 36-38) في النقاط التالية:
1. الصيغة السيميائية الأساسية للأدائية هي الواحدية (monist). وهي تتطلب
تكامل الأشياء (things) أو الواقعية thingness)) ضمن مفهوم العلامة. وقد
وجدت المفهوم الأحادي للعلامة الأكثر فائدة حتى الآن هو فكرة ايريك غانس
عن الإشاري. وتعني والإشارية أن شخصين على الأقل , رغبة منهما في إرجاء
العنف في موقف صراع محاكاتي، اتفقا حدسياً على علامة حاضرة أشارت إلى،
وألهت، وزينت أداؤها الإرجائي للعنف. وهذا المشهد الإشاري البدئي، الذي
كان فيه الإنسان واللغة والدين والجماليات جميعهم حاضرين وللمرة الأولى
مشهد افتراضي بطبيعة لحال. وتجسد الإشارية في تفسيري التاريخي الشخصي،
الآلية السيميائية المتولدة في الحقبة الجديدة أكثر من أي مفهوم أحادي
منافس. وبكلمات أخرى فإن الإشارية تشير إلى الوعي المتزايد بالحقبة
الجديدة. وستكون وظيفة الجماليات الأدائية، تبعا لذلك، هي وصف التجليات
المختلفة للإشارية في الأعمال الفنية وإظهار كيف أنها تجعل هذه الأعمال
ذات جاذبية بمصطلحات الواحدية وليس بعقلية ما بعد الحداثة. وقد خصص الكتاب
لتحقيق هذا المشروع.
2. أما الأداة الجمالية الخاصة بالأدائية فهي التأطير المزدوج. ويرتكز
الإطار المزدوج على التوافق بين الإطار الخارجي (بناء العمل نفسه) والإطار
الداخلي (المشهد الإشاري من أي نوع كان). ويبنى العمل بطريقة تضمن تنقل
فرضيته الجدلية الرئيسية ذهاباً وإيابا بين هذين الموقعين: بحيث يقوي منطق
الأول الثاني بطريقة دائرية مغلقة. والنتيجة هي حشو أدائي يسمح بتداول
لانهائي لرموز ميتافيزيقية مشكوك فيها معرفياً، ولكن لا يمكن دحضها شكليا
ضمن حدوده. وبدورها فإن هذه الرموز الميتافيزيقية صالحة فقط ضمن إطار عمل
محدد وتعزز بنائيتها الواضحة عزل العمل أو الاعتراف به بوصفه مسلمات غير
قابلة للطعن كما أنها تؤسس قسراً حالته الجمالية ـ بوصفه عالما من الخبرة
الإيجابية الموضوعية والمتميزة. ولأنه من السهل تحدديها وفضحها، فإن هذه
الرموز الميتافيزيقية تجبر القارئ أو المشاهد على الاختيار بين الجمال غير
الحقيقي للعمل المغلق أو الحقيقة المفتوحة المبتذلة في سيقنتها التي
لانهاية لها. وتحاول الأعمال الفنية الأدائية أن تجعل المشاهد أو القارئ
يعتقد بدلا من أن يقتنع بالمجالات المعرفية. وهذا بدوره قد يمكنه من
افتراض مواقف أخلاقية وإيديولوجية ما كان لهم أن يأخذوها بغير هذه
الطريقة. وبمصطلحات تلقي القارئ، فإن الأدائية تكون ناجحة عندما تتمكن من
تغير نموذج اعتقاد القارئ بطريقة خاصة، وعندما يبدأ القارئ في إسقاط هذا
النموذج الاعتقادي الجديد على الواقع.
3. والمركز الإنساني في الأدائية هو الشخص الكثيف المبهم لأن المتطلب
الشكلي الأبسط للتحول مرة أخرى إلى شخص كلاني هو شخصيات أدائية مكررة أو
محشوة ـ حتى يتكون شخصا قان الشخص لا بد أن يفصل نفسه عن سياقه بطريقة أو
بأخرى ـ توطد موقفها عن طريق الظهور مبهمة وكثيفة بالنسبة للعالم من
حولها. هذه القتامة المبهمة ليست مرغوبة بحد ذاتها، ولكنها تشكل نقطة
البداية لتطور ممكن آخر. وأفضل طريقة لتقيم هذا التطور هو قياس ما إذا كان
الشخص (أو إلى أي درجة) قد تجاوز الإطار المزدوج الذي حدث أن وجد نفسه
فيه. وفي الأنواع السردية , فإن قدرة الإنسان على تجاوز الإطار هي مؤشر
معياري على الأدائية الناجحة. أما في السرد النفسي، فإن التجاوز جزئي
بالضرورة , في حين انه يمكن تحقيقه كليا في السرد الفانتازي. في الأنواع
المعمارية المصورة، التي هي بطبيعتها ثابتة، فإننا نواجه حالات مفارقة من
التشبع، أو التهديد بالخطر (impendency) التي تفرض علينا ظروف واشتراطات
التجاوز دون إظهار كيف أن التجاوز هو في نهاية المطاف كامل ومنجز.
4. تبرز الإحداثيات المكانية والزمانية في الأدائية في الصيغة المؤمنة.
وهذا يعني أن تأطير الزمان والمكان بطريقة تمنح الأشخاص فرصة حقيقية
لتوجيه أنفسهم ضمن تلك الأطر ثم تجاوزها بطريقة أو بأخرى. بسبب تركيبيتها
وتصنيعها الواضح، فإن التأطير يجعلنا نفترض وجود كاتب ضمن فرض إرادته
علينا بوصفها (الإرادة) نوعا من التناقض أو الأحجية التي لها معنى حقيقي
لكنه خارج نطاق معرفتنا. وفيما يتعلق بالحبكة، فإننا نجد صراعا أساسياً
بين قهرية الإطار المؤمن المكانية والزمانية ونضال الأشخاص (بشراً أو
رموزاً) للتغلب عليه. وبالنسبة للتمثيل المكاني (في الهندسة المعمارية)،
نجد توتراً أساسياً بين محاولة المهندس المعماري إحداث تأثير التجاوز
والتفوق وبين والقيود المادية التي تفرضها المادة التي يستخدمها: بمعنى أن
الفتة المؤمنة الموسعة دائماً ما ترافق مع لفتة بشرية محدودة.
و أخيرا يقتبس ايشلمان من قصة بعنوان (قصص بسيطة) لإنغو شولز (1998) هذا المقطع التي تؤكد فيه الشخصيات غباؤها المطلق بقوة المثالية:
((شيء ما حدث معي مرة في السينما"، قال ادغار."حضرنا مُتأخرين، ولم نجد
مكانا للجلوس إلا في الصف الأمامي، بدأ الفيلم بمنظر طائر، في رحلة عبر
الأدغال. أغمضت عيني حتى لا أصاب بالدوار. ثم سمعت صوت ضحك عميق ينبعث عن
يميني، والضحكة رائعة.... وبطريقة ما كانت على حالات لم يكن أحد ليضحك
منها. وكان ساقاها متقاطعين فيما كانت تهزهز قدمها اليمنى صعودا وهبوطا،
كأنها كانت بمثابة دعوة. لمست كوعها بكوعي، لم تكن حتى لتشعر بذلك. ظننت
أن بإمكاني أن ألف ذراعي حولها ولكنها مالت علي كما لو كان الأمر طبيعيا
تماما، كما لو أنه من الواجب أن يحدث، وفي نفس الوقت أردت أن أضرب ربلة
ساقها. اضطررت إلى حمل نفسي إلى الخلف، حقا، كنا نجلس قريبين جداً... يا
إلهي، هل هي جميلة، وظللت أفكر طوال الوقت، وبعد كل ضحكة مكتومة أردت
تقبيلها.
ـ"وهل فعلت ؟"
ـ"لم أستطع أن أعرف من الذي كان يجلس إلى جوارها. رجل -- نعم، ولكن لم أستطع أن اعرف هل كان معها أم لا".
ـ" لم تكن وحدها؟" سألت جيني.
ـ"لا"، قال ادغار." لم تكن وحدها، كانت هناك مع مجموعة كاملة." وتوقف عن الكلام.
ـ"ماذا بعد ؟"
هز ادغار رأسه:"لم أكن لأفهم ذلك، كانت متخلفة عقلياً، المجموعة كلها كانت من المتخلفين عقلياُ".
ـ"سحقا"، قالت جيني.
ـ"لقد وقعت في حب معتوهة."
ـ" شيء لا يصدق".
ـ"نعم"، قال." أسوأ ما في الأمر هو، أنني كنت أريدها على أي حال."
ـ"ماذا؟"
ـ وأضاف"لقد وقعت في غرامها، وانتهى الأمر")) (19).
يعلق ايشلمان"نحن في وضع ادغار نفسه , بطريقة أو بأخرى: إننا نعيش إرهاصات
عهد جديد بالكاد نتبين ملامحه ولا ندرك منه سوى البساطة أو سذاجة
التفكير"(20).
و المهم، مع ذلك، هو أننا قد وقعنا في حبه بالفعل.
*فصل من كتاب ( الفضاءات القادمة : الطريق إلى بعد ما بعد الحداثة ) . د.
معن الطائي وأماني أبو رحمة . دار أروقة للدراسات والترجمة والنشر .
القاهرة .2011. وكنا قد نشرنا قبل اسابيع فصلا من هذا الكتاب ايضاً.