فتى الشِعر الأزرق
محمد علي شمس الدين
مثلما هذه الكلمات لأيام عشناها، هي ايضاً لأيام لم نعشها بعد.
الزمن طفل، والشاعر كالزمن طفل. نصف قرن من الزمن مضت كأمس الذي كان. لقد
كان سعيد عقل أستاذي من خمسين عاماً خلت. كان ذلك في الأعوام 1958 – 1959 –
1960. يوم كنّا طلاباً في دار المعلمين في بيروت. كان سعيد عقل يومها
ملكاً، وكان أستاذنا في اللغة العربية. وما رسمتُه له يومذاك، هو صورة ما،
مكوّنة من خطوط لم يستطع أن يطمسها النسيان، مع ما طمس من ذكريات وأيام. ما
يبقى من ذكرياتنا هو الذي يخضّ مخيلاتنا كما تخضّ الرياح مياه البحر،
فتتوالد فينا الأمواج الى ما لا نهاية. سعيد عقل كان يومها في عينيه بحر.
أزرق كالهذيان. ما كان هادئاً، ذلك الرجل الطويل الأزرق، أُسمّيه فتى
الشِعر الأزرق. كان كمن هو في نشوة مستمرة. يتدافع يتماوج يترنّح يمشي كما
لو هو يرقص، ويتطاير فوق جبينه الشاسع شعرُهُ الذي مثله يتماوج وينتشر.
أول
ما دخل علينا بقامته المديدة، وجبينه المقطّب، وقفنا له متهيبين. وكان
مسبوقاً بهالة الشعر قبل أن يحضر الى صفّ اللغة، ولا أذكر، ولو لمرّة
واحدة، أنه سرّب إلينا سوى الشعر. جلس على الكرسي، في الغرفة تلك، الى
الطاولة. جلس طويلاً، وساكتاً، وينظر كما لو الى لا شيء. عيناه الزرقاوان
كانتا تلتهمان فراغ الصف. بل فراغ المكان بكامله. أخذتا تتسعان وتتسعان.
بدأ الأزرق يتسع. ظهرنا كالمسحورين، الهمس القليل الذي بدأ خافتاً ما لبث
أن اختفى. صمت شاسع وعينان زرقاوان باتساع الصمت. فجأة دقّ الأستاذ بجمع
يده على الطاولة، دقّات، كدقّات عصا المسرح وقال:
"دقّيتْ.../ طَلّ الورد عَ الشبّاكْ"
هكذا
كان بالضبط. هكذا حفر الرجل خطاً أول في الذاكرة، لا يُمحى. كان ثمة في
غرفة الصف، شبّاك أعلى من يد الأستاذ. لعله لم يكن شبّاك. لعلنا رأيناه في
شِعره. وكان ثمة ورد في مزهرية في الشبّاك. ولعله لم يكن ثمة لا مزهرية ولا
ورد. بل خُيّل لنا كل ذلك. وبدأ الشاعر يطل. وكالساحر، سمعنا منه، قبل أن
تصدح فيروز بالأغنية، الأغنية: "…/ إنتِ وأنا/ يا ورد/ بيهلكون رح نبكي".
أذكر
من سعيد عقل نكهة الكلمات. أصواتها، روائحها، أشكالها وهي تجري كخيول على
الأفق السائل. أذكر ذاك الزواج الهائل لحروف اللغة بين يديه. كان عاقد زواج
اللغة العربية الكبير. أذكر منه عطف الزاي على الهاء على الراء على الجيم
على الميم على الراء... وأذكر "زهر الجمر" وشولوخوف وحيرته بينه وبين
النهر. أذكر عطف اللام على الياء، وقسوة الدال الساكنة بعد الحاء.
أذكر
من الأستاذ حبّه وعلياءه، واجتاحتني منه مذذاك، ولا تزال، غريزة اللغة. كما
أذكر أساطيره التي لا تُحدّ. فإلامَ كان يهدف فتى الفصاحة العربية الأخير،
وآخر صنّاجات العربية الكبار، في مشروعه العجيب ذاك، في اللغة والوطن
معاً؟
ليست لديَّ الإجابة الدقيقة عن هذا السؤال.
ابتكر سعيد عقل في
شعره وكتبه ("لبنان إن حكى"، بخاصّة)، وطناً من المخيلة، وابتكر له
تاريخاً من الماضي والحاضر، ورجالاً، لا يصمدون أمام التحقيق التاريخي،
بالمعنى العلمي للكلمة... لكن وطن سعيد عقل ورجاله من فلاسفة ومؤرخين
وشعراء وعلماء وأبطال، يجب ألاّ يُعرضوا على محكّ الحقيقة التاريخية، بل
على محكّ الحقيقة الشعرية. وشتّان بين الاثنتين، الفرق بينهما كالفرق بين
الواقع والمخيلة، بين التأريخ والشعر. لقد سعى سعيد عقل الى تأسيس وتكوين
ما نسميّه "الجبل الإله" وهو جبل لبنان تحديداً، والتأسيس معه لما يمكن
تسميته "عبادة الجبل" على أيدي مفكرين لبنانيين وشعراء بالفصحى والعامية،
والفرنسية، تلاقوا على وضع هذا الجبل في موقع بين القداسة والخرافة. فحين
صدر كتاب الجبل الملهم بالفرنسية montagne inspirée لشارل قرم في النصف
الاول من القرن الفائت، كان قد سبقه وجايله عدد من الشعراء والكتّاب
امتدحوا الجبل وظهروا كأنهم مجانين به أو عبّاده. كل ذلك ساعد على تكوين
تاريخ على هامش التاريخ وسياسة على هامش السياسة وإيديولوجيا على هامش
الايديولوجيا وجغرافيا على هامش الجغرافيا أعني أن جبل لبنان غدا وكأنه ليس
جبلاً على الأرض بل جبل في الفردوس، وقد ربطوا خلقه بخلق الجنّة، وشبّهوه،
هو المعلّق بين السماء والأرض، بكلام الله.
يقول: "أنا حسبي أنني من جبل/ هو بين الله والأرض كلام"
ويرون
أن أمام هذا الجبل المهيب، يمتد المتوسط كالأبدية، ومن تصالب الشمس
العالية فوق الجبل الأخضر الأبيض، مع لجج البحر المتوسط الممتدة كالزمان،
تولّدت أصوات الشعراء ومغامرات الارتياد والاغتراب وأحلام الحالمين، كما
يذكر صلاح ستيتية في مقدمته للمجموعة الشعرية بالفرنسية للشاعر فؤاد أبي
زيد (إصدار دار النهار للنشر). من كل ذلك وُلدت ما سمّيناها أسطورة الجبل
الإله. وتعاد تكون أشعار الشعراء بمثابة ابتهالات ودعوة لعبادته كما عبد
الوثنيون القمر أو البحر أو الشمس. والمسألة تعدّت الحدود التقليدية لمفهوم
التمسّك بالوطن الى ما يمكن أن يكون شريعة أو عقيدة جغرافية وتاريخية
ولغوية وجمالية شعرية في إطار واحد.
يقول رشيد نخلة:
"حب الوطن هيدي وصيي من الإله/ يا إبن أرز الرب لا تعبد سواه"
وسار
هؤلاء الشعراء بالقصائد على اختلاف أصواتهم، من الانطباعية الى
الرومنطيقية ومن الرومنطيقية الى الصوفية، ومن الحلولية الى البرناسية
الجمالية عند كل من سعيد عقل وميشال طراد، فالوجودية التأملية على يد إيليا
بو شديد. وتكوّنت من هؤلاء الشعراء وسواهم كوكبة شعراء بالعامية
اللبنانية، عبّاد الجبل ومجانين بلبنان. وقد تأسست نظرية لبنان العظمة، على
كتب كل من شارل قرم وسعيد عقل الذي ابتكر في شعره ونثره وطن الحلم
التاريخي والشعري بامتياز. لكن الوطن التاريخي لا يلبث أن ينكسر كمزهرية،
مرات عدة، بفعل الحروب الأهلية. صحيح أن البراءة تلوّثت والطبيعة فسدت
ومعنى الوطن التبس وصار التغنّي بالعظمة والمجد ضرباً من السخرية وحديث
العجائز، لكن بقيت الأشعار التي كتبها سعيد عقل وسواه، كيوتوبيا ضرورية،
كخيال خلاّب، كأناشيد كزمن آخر، كوطن قائم في مكان آخر. أين تفعل اليوتوبيا
الشعرية العالية لسعيد عقل عبر صور أبطال ميثولوجيين من صخر وقمم وأعالٍ
وأودية ورياح وشيح وأرز وبشراً عملوا الهمم في المنحدرات جنّات وبساتين كما
أعملوها في منحدرات اللغة الصاخبة جنوناً عبقرياً يبحث عن بطولة للبطولة
وإبداع للإبداع، وهل يحتاج الخرق الآن مواصلة للورشات العاملة؟
في منحدرات اللغة
يعمل
سعيد عقل في شعره، على الحروف والكلمات، كنوتاتٍ موسيقية أساسية للقصائد،
حتى ليكاد كل حرف من الأبجدية يكون له منها نصيب. نأخذ حرف الحاء، وهو حرف
صعب ونتأمل في إلحاحه في الشطر الآتي: "... في العلم تمرح والاحرار مُرّاح"
(من قصيدة "سكرت بالعلم" في المخترع اللبناني حسن كامل الصباح، في ديوان
"نحت في الضوء"). ولنأخذ حرف العين في الشطر الآتي من قصيدة "رنغانا": “على
بعض عريٍ عدتِ؟ يا طيب لهبة"، وفي مطلع قصيدة "أربعة...": "حرفنا يا
بَدْعَ قدموس أعْلُ نعلو/ بشعوب وعصور/ أنت إذ ألهمك العقل بصور/ وَلَدُ
العقل" إلخ. ألا يصحّ القول إن العين هنا هي مفتاح نغم القصيدة؟
مثل
العين أختها الغين. يقول: "الغرب غنّى بها أن لا لِغيِّ غَوٍ"، وللسين، كما
للشين أختها، أجراس. ولكل حرف من الأبجدية جِرْسُه. لكأن القصائد تمارين
على موسيقى الحروف. بل لعل لكل حرف عنده سلطاناً. بل لعل سعيد عقل في
الشعراء العرب المحدثين، هو أفضل من حقّق مقولة ابن عربي في حياة الحروف
"الحروف أمم".
وضع سعيد عقل يده على الكيمياء المستودعة في الحروف، وراح
يلعب بها لعباً هو خطير أحياناً، بل واقف على أعلى مشارف الخطر. هو مولع
بالنحت والتركيب. يشتقّ، مثلاً من فعل "علا" فعل "اعلولى"، ومن فعل "زها"
فعل "ازهوهى" ومن فعل "عَظُم" فعل "اعظوظم" ومن "غَرَب" "اغرورب" ومن
"حَلِيَ" "احلولى"، ويدمج "ها إني" على "هاني" ويؤنّث كلمة "زمان" على
"زمانة" لأنها، على ما يقول "أجمل"، ويناطح الصعب في الأوزان والقوافي،
فتراه لاجئاً لأصعب القوافي الساكنة، وتلك التي يتوالى فيها ساكنان كقوله
"ويك يا زندي تهيأْ أنت سيف"، وسواها كثير مما يقتضي حفظ النَفَس في خاتمة
كل بيت منها لا إطلاقه. وهو يلعب في المعمار الشعري كما يلعب في المعمار
اللغوي. لعل ذلك، أي الحفر في اللغة، يقرّب بين المتنبي وسعيد عقل. ومثلما
كان العالم اللغوي ابن جنّي شديد الدراية والاعجاب بشعر المتنبي، حتى انه
نسب للشاعر قوله "ابن جني أدرى بشعري منّي"، فإن العالم اللغوي الكبير
الراحل الشيخ عبدالله العلايلي، هو من اكثر العارفين بشعر سعيد عقل
والمحتفلين به.
كتابة الشعر وتعريفه
سعيد عقل من اولئك القلائل الذين
حين كتبوا الشعر، حاولوا ان يقدموا له تعريفاً. وهو تعريف يظل على كل حال،
مبهماً، او قابلاً للتأويل. ذلك أن الشعر يظل ينطوي على مقدار من الغموض.
لا يمكن ان يجلوها ايضاح. وسعيد عقل يرى الى الشعر على أنه جِرْس، لكنه
يربطه بما هو ابعد من الكلمات، يربطه بالكون، وبموسيقى إلهية يُحدثها طنين
كف الله على الزمن:
"والكون قُلْهُ رنين الشعر قُلْهُ صدىً/ لكفّ ربّك إذْ طَنّتْ على الزَمَنِ". بل لعله يربطه بالغيب:
"وما
الشعر؟ بعض الغيب غنّى كطائرٍ/ وبعض نُهىً إن رَدَّ رَدّ يُحيّرُ" (من
قصيدته في الروائي الروسي شولوخوف/ في ديوان "كما الأعمدة"). والشعر لديه
فنّ غالب مقدَّم على كل غاية، وبه يتجوهر كل شيء: الحب والمرأة والجمال
والمدن والرجال والكبرياء والاوطان والافكار والعلوم. وكما "أن للجمال
منطقاً معصوماً" (المجدليّة)، فإن لأبيات الشاعر تموّجات تتدافع في سماء لا
محدودة.
- هل يؤلّه سعيد عقل الشعر، كما يعصم الجمال؟ نسأل ونجيب:
الشعر عند الرجل أقرب الى اللاهوت. بل لعله هو، لاهوتي. يرى "أن اجمل ايام
الشرق، ولا بد، يوم يروح فيه اللاهوت يتعرض الى كل خاطرة ويحكم على كل بشر"
(من كتاب "كأس لخمر"، مقالة "فنّ ولاهوت"). "والشعر سلطنة نغم وتآخٍ مع
الكون" وهو نخبوي "لسُراة العقل، لطبقة مصطفاة" ("المجدلية"، مقدمة في
الشعر). كثيرة هي كلمات سعيد عقل وابياته التي كتبها مرّة والى الابد. لا
نقول ان سعيد عقل بلغ اليوم المئة. نقول فقط "ولد الشاعر"، ولا نؤرخ له
بسوى ولادته. مئة مئتان، ألف الفان... الدهر كله ميدان هذا الفارس. ونسأل:
أهو كلاسيكي، حديث، ام غداً؟ ابياته اقرب الى عنوان ديوانه "نحت في الضوء".
لماذا في الضوء وليس في الحجر، مثلا؟
- لأن النحت في الضوء أكثر بلاغة
في الإيحاء والبقاء. فالضوء مادة اثيريّة خالصة والكلمات كذلك في ما هي
اصوات، والنحت إنما يكون اصلاً نحتاً في المادة الصلبة: الحجر أو الشجر.
اما النحت في المادة الأثيرية كالضوء فعمل مفارق وَسَم به الشاعر شعره، وهو
في العربية أقرب ما يكون لشعر أوجيني غييفيك في الفرنسية. ولو ذهبنا في
الحفر على بعض الأصول اللغوية لسعيد عقل في العربية، لوجدناها في البحتري
وأبي تمام، ذاكين اللذين اختصّا في التراث النقدي العربي بتسمية "الشاعر"
تبعاً لصنيعهما في اللغة والصورة، في حين قيل في المتنبي إنه "الحكيم"
لكونه كان يستخرج الحكمة من أعماقها المرّة، وهذا الحكم في المتنبي مجتزأ،
لأنه كان غواصاً على المعاني وعلى اللغة في وقت واحد، فيقدّم الحكمة في ما
يشبه الحفر والتنزيل في آياته الشعرية، تلك التي سمّاها ابو العلاء المعرّي
"معجز احمد"، في ما اختاره له من أشعار.
سعيد عقل محافظ شعرياً، لكنه
مع أمس، الآن وغداً. في صفّه في دار المعلمين، كان يقول لنا: اقرأوا أمين
نخلة. اقرأوه. انه اعظم ناثر في العربية. وحين يقدمه لنا في "صلاة العنز في
الريف" في "المفكرة الريفية"، تكاد تنبت لديه قرنان وهو يجسدهما لنا "من
فرط الخَشْية". سألناه عن المتنبي قال: له ابيات. سألناه عن محمود درويش
قال له ابيات. سألناه عن... وعن... وعن... كان ممتلئاً بذاته امتلاء لا
مزيد عليه. وكان يستخرج اسباب العظمة من تواريخ وأرقام وحكايات يتدفق بها
ينسبها الى بلاده... وهي له في اغلب الظنّ.
كان سعيد عقل، في صفّذاك،
يستهزئ ببيكاسّو. يقول فيه "مشعبذ" ويشبّهه مع جملة الفنّ الحديث، بما في
ذلك الشعر الحديث، بالبزيمة. و"البزيمة" كما شرحها لنا صفّذاك، هي نجمة
المعدن الزائفة على حافز الحصان، في حين أن الفن الكلاسيكي هو النجمة
الحقيقية.
كان يرى أن "الكلاسيكية رقعة تتوسع دوماً، ودقائقها محالات ما
لها نهاية" (ينظر كتابة "كأس لخمر"، مقالته: الكلاسيكية لا الى انتهاء، في
أربعين الرسام مصطفى فروخ، الجامعة الأميركية، بيروت، آذار 1957). وقوفه
ضد الحداثة بكل اشكالها، لا يزال هو هو، لم تعدّل فيه اضافات قرن من هذا
الزمن، في الغرب والشرق وفي العالم... في الرسم والموسيقى والسينما والمسرح
والشعر، قيد أنملة. اما ولعه بفينيقيا الأعماق فلا يزال مشتعلاً كنار
الشعراء. دعوته الى المحكيّة المدوّنة بحرف لاتيني هي هي. "يارا" ما زالت
"يارا" ولو وحيدة. أما حكايته مع العربية فلها يوم آخر. هو أكبر شاعر عربي
حيّ حتى اليوم. عاشق علي بن ابي طالب، هو، وعاشق فينيقيا، والمجدليّة