وأشواك الصبار والقراّص ..والإسفلت الأسود ..
وأشجار الأرصفة الملوثة بالدخان
حتى مكبرات الصوت المعلقة داخل رأسي
وذلك الأسف الرما
عادة
ما نقتبس مَن سبقنا من مثقفين، النقديين منهم على وجه الخصوص، لتدعيم
مواقفنا من السلطة ـ أي سلطة ـ تمارس القوة أو الحكم وتمتلك السطوة ضمن
الحقول السياسية الاجتماعية التي نتواجد فيها. والنقدية، وفق مدرسة
فرانكفورت، سلوك سياسي ـ أخلاقي وممارسة فعلية دائمة تحاول صدع مركز القوة
وإن تأسس على العقل الممتد من اليسار بصيغه الماركسية المتنوعة إلى اليمين
العلماني. وهي تقرّ أن الحداثة الناتجة عن هذين القطبين انكفأت إلى
ستالينية دوغمائية وفاشية ألمانية مُطلقة خلّفتا دمارا وقتلا رهيبين قصما
ظهر التاريخ الإنساني. والجدير أنهما أسستا تطبيقاتهما على أحكام "العقل"
و"العلم"، ونظريات علمية بحتة أفضت إلى بيروقراطية مُحكمة واستثمار
التكنولوجيا لارتكاب أبشع الفظائع لا سيما الإبادة الجماعية. وذهب بعض
رموز هذه المدرسة إلى القول أن غياب نقد "العقل" بشقّيه الستاليني المؤسس
على المادية الدياليكتيكية الشمولية والنازية القائمة على نظريات علوم
الاجتماع والسياسة والإدارة إلى ذلك الحين، أفضى بهما وبالعالم إلى حيث
انعطف التاريخ وارتطم! ومن جملة ما تمّ استنتاجه في نقد ما أحدثتاه من
فظائع أن العقل العالِم والباحث والراصد محكوم بشرطه السياسي ـ الاجتماعي
ـ المعرفي. فأدواته، في العادة، اشتقاق من علوم زمانه ومنهجياته، أيضا.
وذهب بعضهم أبعد من ذلك بالقول أن نقد "الحالة" من داخلها متعذّر تماما في
بعض الأحيان بسبب من سطوة المعارف السائدة على طرائق البحث وأدواته.
ويمثّلون على ذلك بتورّط هايدغر، زميلهم في البحث والتنظير الفلسفي، في
المنافحة عن النازية ومشروعها في شوط من عمره الفلسفي، وهو الذي عاش في
لجّة تلك التجربة وفي ظلالها.
نسوق هذه المقدّمة للإشارة إلى أن "العقل النقدي العربي" قصّر حتى عن
إدراك ما أنجزته مدرسة فرانكفورت في ثلاثينات القرن الماضي، وتمهيدا
للإشارة إلى ما اعترى "النقدية" في الثقافة العربية الراهنة لا سيما في
ظلّ الثورات العربية المتدحرجة. وأمكننا القول أنّ هذه الثورات كشفت بضوء
قوي هذا النسق وفككته أكثر مما استطاع هذا النسق ـ المنخرطون فيه ـ قراءة
هذه الثورات وشرحها. فقد رأينا قافلة من "المثقفين" العرب تتورّط في مواقف
غير نقدية قطعا منكفئة نحو المنافحة عن أنظمة دموية مثل النظام السوري
مثلا. وهو مشهد صحيح الآن، لكنه صحيح قبل مدّ الثورات العربية، أيضا،
عندما ارتمى مثقفون أو مشتغلون في "ورش نضالية" في أحضان القذافي مرة،
والأسد الأب والإبن مرة أخرى، أو في ساحة "حزب الله" أو ديوان علي عبد
الله صالح. بمعنى، أن أجيالا من هؤلاء مختلفي المشارب والمذاهب، فهموا
النقدية على أنها نسبية ومحدودة على مقاسات الموقف السياسي أو العقيدة أو
تخوم مجموعة الانتماء. بل، قضى بعضهم العمر وهو ينقد السلطة السياسية دون
أن ينبس ببنت شفة حيال السلطة الدينية أو الاجتماعية أو الجنسية أو سلطة
الحزب أو القائد الزعيم! ولعلّ أكثر المشاهد حضورا في حقل النقدية العربية
هو تلك المواقف المتشددة في نقد "سلطة الآخر" كاحتلال أجنبيّ أو هيمنة
خارجية، والانضواء نفرا أو برغيّا صغيرا ضمن ماكنة سلطة الذات! ولا يقلّ
حضورا ذاك المشهد النقيض من مناهضة سلطة في الوطن والاشتغال مقاولا دعائيا
لدى السلطة في الدولة المجاورة! أو قد يهلك المثقف في نقد هيمنة إمبريالية
مفترضة رمزية، ويهلك على الطريقة ذاتها في الذود عن هيمنة إقليمية حقيقية.
كثيرون من مثقفينا يناهضون سلطانا ويضربون بسيف سلطان آخر!
وكلّ هذه المشاهد ترتسم الآن أمام ناظرنا فيما نحن نبحث عن مساحات
مفتوحة لتسجيل الأسماء المتهافتة التي ضُبطت وتُضبط في "نقدية معطوبة".
وهي لا تفعل ذلك بالغريزة فقط بل بـ"العقل" الأيديولوجي أو الديني أو
الهويتي. بمعنى، أن لمواقفها "منطقا" و"منهجية تفكير"، كما كان للذين
دافعوا عن الستالينية أو النازية أو الاحتلال ألأمريكي لفيتنام أو
السياسات الإسرائيلية العدوانية. هو "العقل" ذاته الذي احترق نفس مدرسة
فرانكفورت في نقده ونسف المطلق والدوغما اللتين انحكم لهما. وخلصت التجربة
الفلسفية إلى القول بأنّ "العقل" الذي تطوّر مًعْولا لهدم الخرافة
والأسطورة والغيبيات ينكفئ إلى دوغما عندما يصير مطلقا ويغيب نقده (ضده،
في الحكمة). بمعنى، إنه يتطور إلى "أسطورة" و"خُرافة" بنفسه! وكنتُ اكتشفت
أن النَسَق في الثقافة العربية ـ "العقل المطلق" أو "الأسطورة" ـ يُجهض
المعرفة والإدراك وينحرف بالوعي إلى زيفه. أو كما كان جزم جورج طرابيشي
بأن "العقلية" في الثقافة العربية تغتال "العقل". وإلا كيف نفسّر مثلا أن
"مثقفا عربيا مناضلا" في إسرائيل ضد سياساتها وهمينتها يتفانى في الدفاع
عن هيمنة حزب الله وعنفه وفي تبرير خطفه للدولة اللبنانية! أو كيف يُمكن
أن نفهم انتصار مثقفين عرب لثورة الشعب المصري أو التونسي والانتصار في
الوقت ذاته لنظام الأسد في سوريا ضد ثورة الشعب وتحرّكه!
من هنا، قلنا إنّ الثورات العربية الراهنة كشفت عيوب النقدية العربية
وأظهرت حقيقة ممارسيها الذي سقطوا في حبائل الدوغما أو الهوية أو العقلية
الأيديولوجية، أكثر مما استطاع هؤلاء إدراك ما يحصل من تحوّلات. ربما لأن
السؤال عندهم لا يوجّه إلا إلى مَن هو خارجهم، ولأنّ قانون النفي يسري على
كل شيء في الكون سوى عقائدهم وهوياتهم وعقلياتهم. ومن هنا، ستفني عمرك في
البحث عن موضع قالوا فيه: "ربما أخطأنا" لكنك لن تجده! ومن هنا، أيضا،
إخفاق هؤلاء في الارتقاء بالنقدية من مجرّد موقف أيديولوجي محدود إلى حسّ
أخلاقي غير محدود، ومراوحتهم البائسة في فناء "الالتزام" دون التمكّن من
الارتقاء إلى الاستنارة. ومن هنا أرى الثورات العربية الحاصلة الآن في شقّ
منها سؤالا اعتراضيا حادا يضع فصل الخاتمة لهذه "القافلة" من المثقفين
وإلى هذا الطراز المتقادم من "النقدية المثقوبة".دي والذي نسيته شفتاك على خدي
كل ما في هذا العمر المتأبط أسفاً ع