عندما بدأت بقراءة كتاب (كيف تفكر الأنثى) للدكتور عماد فوزي شعيبي المُترجم عن الانكليزية في 2017 لم أكن أعرف أنّ هذا الكتاب سيغيّر حياتي. لم تكن لديّ أية معلومات عن المفكّر الدكتور عماد فوزي شعيبي ولا عن كتبه وأبحاثه ولكني أدركتُ مذ قال للقارىء في الصفحات الأولى من كتابه أنه عليه أن يتركَ ما يقرأ ويقفز إلى صفحة 54 من الكتاب بأنّ الرحلة اللازمنية ستبدأ باختبار الذكورة والأنوثة. فعلتُ بالضبط ما طلبه الكاتب، قمتُ بالاختبار أولاً (اختبار برمجة المخ) وجاءت نتائجه مفاجئة لما أعرفه عن نفسي وعن جسدي، مخالفة لما يخبره كلّ أب وأمٍّ لإبنتهما أو لولدهما بأننا نولدُ ونكون ذكوراً أو إناثاً وانتهى، فالأمر لم ينته ولم يكن بهذه البساطة ولا بهذا السُخف لواقع حياتي الجنسية والعاطفية والنفسية. جاءت النتائج مُخالفة لما أصرّح به عن رغباتي الجنسية التي نشأتُ عليها في عائلة محافظة كمعظم العائلات “العربية” – العائلة النمطية التي تعتبر الدين موروثاً اجتماعياً لا يقبل المُساءلة – التي لا تعترف أصلاً بالتوجّه الجنسي ولا بالحرية الجنسية. كانت نتائج اختبار الذكورة والأنوثة موافقة لعقلي الباطن وما كان يصرّحُ به لي سِرّاً من خلال الشِعر والنكات ولغة الجسد. لستُ هنا في صدد أن أبوح للعالم العربي عن ميولي الجنسية وإن كان هذا في صُلب رحلتي في ثنايا الكتاب لأني أعتبر الأمر إلى الآن مسألة شخصية. أحترم كل من يمتلك الجرأة ليقف أمام الشاشات ويعلن من خلال وسائل التواصل الإجتماعي عن توجّههم الجنسي فما أحوجنا اليوم في العالم العربي خاصةً أن نهزّ عروش البطاركة من رجال دين إلى إعلاميين وأكاديميين وأطباء وغيرهم من الذين امتهنوا وأهانوا العِلم والدين علّنا نبدأ بقيامة تليق بنا، قيامة من الموت المتفشّي والسائد لثقافة التطرّف الديني والسياسي. هذه المستنقعات التي أكلت وتأكل عقولنا وعقول أولادنا لا بدّ أن تنتهي لنصل إلى حضارة وثقافة تليق بإنسانيتنا وهويّتنا، ثقافة تقوم على الحوار المفتوح، تدعم الحريات بأشكالها وترسّخ المواطنة بدلاً من التصنيفات الخانقة التي نستنتسخها من جيلٍ إلى جيل تحت أسماء مختلفة (من بينها الأقليّات، التكفير، الشذوذ، “الشرف” الملوّث بدم العذارى وغيرها). لقد فتكت هذه الممارسات السرطانية في جسد العالم العربي إلا أنني في رحلتي بين صفحات (كيف تفكّر الأنثى) تنشّقتُ هواءً مُنعشاً ملء رئتيّ بنورٍ ونارٍ من حدائق الدكتور شعيبي الخاصة حدائق عائمة فوق”حقيقة” هذا العالم تُنبئ بزوال الأنظمة البطريركية السائدة وتبشّرُ بولادة حضارة جديدة تقدّس الإنسان وتُعلي من شأن العقل بنصفيه الأيمن والأيسر، الأنثوي والذكري. في هذه الحدائق تنعدم الجاذبية ويختلّ التوازن، يصبح للأصوات أبعاد جديدة لا يسمعها سوى من يتمكّن من السفر مع القراءة، السفر عبر بوابات أقامها (شعيبي) خفيةً عنّا ليسترق السمع لبكائنا الداخلي وليتفحّص البريق الملوّن السابح في عقولنا. هنا حيثُ اللاجاذبية يصبح المستحيلُ ممكناً وقد يتمكّن المرء من سماع ورؤية مخلوقات أسطورية كما لو كان في فيلم من أفلام الخيال العلمي (science-fiction).إنّ ثمرة هذا الكتاب العجائبي هي التكامل فالتكامل بنظر شعيبي يكمنُ في كلٍّ منّا ذكراً وأنثى ويتحقق فينا أوّلاً وأخيراً. بمعنى آخر وكما يقول المثل الفرنسي “cherche la femme” أي “ابحث عن الأنثى” وهذا ما يقوم عليه كتاب شعيبي (كيف تفكر الأنثى)، فهو يخاطب الأنثى في أعماقنا فيدغدغ ويحفّز فينا مواطن الشعور لكي نرى ونشمّ ونسمع ونتذوّق ونلمس ونستكشف بأعين جديدة. لذا يأخذ (شعيبي) بيد القارئ في رحلة كونية ليهمسَ في أذنه أسراره الغريبة كما همس روح القدس في أذن العذارء مريم فولدت المسيّا أي المخلّص. هكذا يهمسُ فينا (شعيبي) لينثرَ النار المقدّسة دون خوف أو تردد فيُشعل فينا ما انطفأ، فهل ستقبل همسَ (الروح)، عزيزي القارئ أم ستتشبّث بالأساطير والتابوات القديمة خوفاً من المجهول؟ لهذا الغرض يزوّدنا (شعيبي) بأبجدية فيزيائية-رياضية فريدة من نوعها، تسعى هذه الأبجدية إلى تنشيط مكامن الحسّ المُثبَّطة وإلى تحريك الكهرباء الساكنة في الدماغ فيقوم بتشبيك مواطن مختلفة منه مُعيداً بذلك وصلنا (ربطنا) مع الذات (وحتى الذوات) الداخلية (وربما الخارجية أيضاً) لكل منّا أو بمعنى آخر يعيد ربطنا داخلياً وخارجياً إلى ما لا نهاية. تتطلّب هذه الرحلة جُرأة غير مسبوقة من قبل القارئ لأنّه سيجدُ نفسه فجأة في حاضنة صناعية (أو ميتريكس matrix) من صنع الدكتور شعيبي، فتلجُ أغوار هذا القارئ النفسية، التكوينية وحتى الكونية أنابيب ومجسّات وعدسات متحرّكة، أشكال وأنوار هندسيّة، وتخترقه مصفوفات رقمية جديدة فيعيش صراعا مؤلما قد يؤدّي إلى ولادة ثانية. إنّ هذه الولادة مشروطة بعوامل عديدة من بينها قبول القارئ واستجابته، استعداده التكويني لهذا النوع من “السباحة” الفضائية، وربّما وقع عليه الاختيار ليؤدّي مهمّة خاصة مُعدّة له وحده دون سواه (الكون هو اللاعب الذي يرمي النرد أوّلاً وأخيراً). إنّ هذا الأثر والتأثير نابعان من هندسة الكتاب البديعة التي تنمّ عن عقل صاحبه الاستنثائي الذي فتح لنا المجال لكي نعيش رحلة تتجاوز البعد الزمني إلى اللازمني. فنعيش من خلال أسفاره وفصوله رحلة كونية-تكوينية عجيبة مخالفة لمقاييس هذا العالم فنستعيد ما تمّ سلبه منا بدءا من قصّة الخلق انتهاءً بلغتنا (المحكيّة والجسدية والكونية) وصولاً إلى الملكوت الكامن فينا.