ينظر كتاب “كيف تفكر الأنثى” الصادر بالإنكليزية في 2008 وبالعربية في 2017 للمفكّر الدكتور عماد فوزي شعيبي في وظائف المخ بفصّيه الأنثوي والذكري، الأيمن والأيسر، فيخلق نظرة “شمولية” لواقع مستقبلي ينقل الإنسان من الأنظمة البطريركية الاستبدادية أحادية الجانب إلى عوالم تسود فيها التعدّد(ية)، الثنائية الجنسية/ القطبية، وأحادية الجنس/ القطب. لا نبالغ إذا قلنا إنّ رحلة القارئ في هذا الكتاب – مقدّسة، علميّة وخياليّة – هي رحلة مُجزّأة في أسفار؛ بدءاً بالبيولوجي، مروراً بالحبّ الأنثوي وصولاً إلى العقد النفسية-الجنسية وجذورها الأسطورية، انتهاءً بنصائح الكاتب إلى العقل الذكري. وهكذا يزوّد الكاتب إنسان القرن الواحد والعشرين بأبجدية فيزيائية-رياضية فريدة من نوعها تسعى إلى تنشيط مكامن الحسّ المُثبَّطة وإلى تحريك الكهرباء الساكنة في الدماغ فيقوم بتشبيك مواطن مختلفة منه مُعيداً بذلك وصلنا (ربطنا) مع الذات (وحتى الذوات) الداخلية (وربما الخارجية أيضاً) لكل منّا أو بمعنى آخر يعيد ربطنا داخلياً وخارجياً إلى ما لا نهاية. تتطلّب هذه الرحلة جُرأة غير مسبوقة من قبل القارئ لأنّه سيجدُ نفسه فجأة في حاضنة صناعية (أو ميتريكس) من صنع الدكتور شعيبي، فتلجُ أغوار هذا القارئ المسكين النفسية، التكوينية وحتى الكونية أنابيب ومجسّات وعدسات متحرّكة، أشكال وأنوار هندسيّة، وتخترقه مصفوفات رقمية جديدة فيعيش صراعا مؤلما قد يؤدّي إلى ولادة ثانية. إنّ هذه الولادة مشروطة بعوامل عديدة من بينها قبول القارئ واستجابته، استعداده التكويني لهذا النوع من “السباحة” الفضائية، وربّما وقع عليه الاختيار ليؤدّي مهمّة خاصة مُعدّة له وحده (الكون هو اللاعب الذي يرمي النرد أوّلاً وأخيراً). إنّ هذا الأثر والتأثير نابعان من هندسة الكتاب البديعة التي تنمّ عن عقل صاحبه الاستنثائي الذي فتح المجال للقارئ كي يتعرّف على (شعيبي) الباحث البيولوجي، الرياضي-الفيزيائي، الشاعر، الفيلسوف، السياسي وحتى الحالِم أو صاحب الرؤى.
شخصيّاً أرى “كيف تفكر الأنثى” إنجيلا جديدا يلائم روح الإنسان يتجاوز الزمن البسيط (ماضي، حاضر، مستقبل) ليأخذنا في رحلة خارج “حدود” الزمن المألوفة إلى بوابات/أسفار غريبة تدركها “عين” النفس الإنسانية، “عين” الإيمان بالإنسان كقيمة متجددة لا تفنى. إنّ أسفار هذا الكتاب وهذه الرحلة الكونية، التكوينية، الفردية، الثنائية، التعددية تنقسم إلى أسفار مرئية بالنسبة للقارئ النمطي وأسفار غير مرئية للقارئ الإستثنائي، حيث إنّ الأخيرة وإن كانت خفيّة وغامضة تكاد لا تنفصل عن الأولى. من الجدير بالذكر هنا أنّ الكاتب لم يطلق كلمة أسفار على فصول كتابه فهو من بابه إلى محرابه بحث علمي ينظر في طبيعة المخ البشري وتكوينه الجنيني الذي تترتب عليه تفاعلاتنا المستقبلية وتواصلنا وطريقة تفكيرنا وعملنا. لقد قام (شعيبي) بتقسيم كتابه إلى نوافذ إلى عالم الأنثى لكنه في نفس الوقت لا يعترف بها كفصول واضحة المعالم في الفهرس؛ بإصراره على هذه الإشارات “المتناقضة” أراه كمن يريد التنصُّل من التسميات والتصنيفات التي قد يطلقها عليه القرّاء والنقّاد. ربّما يريد أيضاً أن يقول إنّها ليست أكثر من محطّات حيث يمكن للقارئ-المسافر أن يأخذ قسطاً من الراحة وقد أعياه السفر في اللازمن. جاءت هذه المحطات مُرتبة على النحو التالي: المحطة الأولى “الأنثى والذكر عالمان”، الثانية “كيف تفهم الأنثى ككائن آخر؟”، “الغيرة عند الأنثى”، “استراتيجيات التغيير عند الأنثى”، “الجسد عند الأنثى”، “مميزات خاصة عند الأنثى”، “العقل الأنثوي المريض نفسيا”، “أنثويات متفردة”، وأخيراً “نصائح أولية إلى العقل الذكري”. رغم رغبة (شعيبي) في الانفلات والتفلُّت من التصنيفات إلا أنه يشاركنا من خلال هذه المحطات بشخصياته المتعددة التي لا يجوز اختزالها تحت مُسمّى واحد. في مقابل هذه المحطّات ثمّة أسفار عشتُها شخصيّاً خلال رحلتي في هذا البحث وهي على النحو التالي: سفر استعادة-التكوين (السفر البيولوجي)، سفر الخروج (سفر الحب الأنثوي)، سفر العقد النفسية–الجنسية (الأساطير التكوينية)، “البلبلة (“اللغة” الأنثوية)، وملكوت العقل الأنثوي. صحيحٌ أن الكاتب لا يعترف بهذه الأسفار ولا يقوم بتسميتها، لكن هذا لا ينفي وجودها. فإذا كان الكاتب مدركٌ لوجودها وقام بإخفائها عن قصد، فهذا يتركنا أمام تساؤلات عديدة بخصوص نواياه وأهدافه. أما إذا كان لا يُدرك حجم التفاعلات الناجمة عن السفر بين محطات كتابه، فهذا حال المسافر-القارئ وحده دون سواه وستختلف حتماً نتائج الرحلة من مسافر إلى آخر. في هذه الورقة لن أضيّع وقتي ووقتكم في التكلّم عن المحطّات المُعلنة بل سأقف عند كل سِفر من هذه الأسفار غير المعلنة كلٌّ على حدة في محاولة لأستوعبَ ما جرى معي وما قد يجري معكم في هذه الرحلة الكونية من (كيف تفكّر الأنثى).
أولاً، سفر التكوين، أو بتعبير أدقّ سفر استعادة-التكوين تحت شعار (في البدء كان “العقل”) بمراحله الجنينية وتبلوراته المتشعبة والعجيبة.
هنا من المهم أن نُذكّر القارئ كما فعل الكاتب في مقدّمة كتابه بأهمّية أخذ اختبار برمجة المخ (إختبار الذكورة والأنوثة) صفحة 54 أوّلاً قبل الشروع بقراءة الكتاب والاستمرار بالرحلة إلى نهايته وثم العودة إلى بدايته. هذه القراءة الاستثنائية هي للقارئ الاستثنائي غير النمطي أما القارئ النمطي فلن يقوم بهذه الرحلة على هذا النحو. وما يهمّنا هو القارئ الاستثنائي لأنّ لمثله صُمّمَ الكتاب وعُدّت العُدّة. فإذاً يضعنا الكتاب أمام لحظة مِفصليّة قبل الاختبار وبعده، ولكَ عزيزي القارئ أن تختار كيف تقود الدفّة. السِفر ما قبل الاختبار حتى نهايته هو سفر استعادة-التكوين أو السفر البيولوجي. لقد استعاض الكاتب عن اختبار معرفة الخير والشرّ في العهد القديم باختبار برمجة المخّ الذي جاءت نتائجه مختلفة تماماً ومخالفة لنتائج الاختبار الإلهي وما ترتّب عن هذا الأخير من تداعيات على البشرية بحسب ما وصلنا عن الرواية اليهودية-المسيحية؛ وهكذا يُسلّط (شعيبي) الضوء على تنوّع الصِّنف البشري من حيثُ تأكيده على أهميّة الشروع باختبار الذكورة والأنوثة قبل أي شيء. وبهذا تجاوز الكاتب الوقوع في عثرات القيم الأخلاقية القاتلة والمشوِّهة لإنسانيتنا، فلا مكان في كتابه للقيم المُطلقة كالخير والشر، الخطيئة والمغفرة، الإثم والفداء، الموت والحياة (الموت والقيامة؟) إلى ما هنالك من ثنائيات الأسود والأبيض، سعياً منه لبناء حضارة وثقافة التنوّع الملوّنة التي لا تختصر وجودنا الإنساني في معادلة إما/ أو؛ صديق/ عدوّ، مؤمن/ كافر، العقاب/ الثواب وغيرها من ثنائيات. بفضل اختباره السابق يسعى إلى إعادة برمجة المخ وذلكَ للخروج من تلكَ الدائرة المعيبة إلى دائرة الكمال وأشكالها الهندسية المتعددة.
فإذا كانت العودة (بالزمن) إلى الرحم والذاكرة الجينية ممكنة – وهذا هو اختباري الشخصي أثناء رحلتي في “كيف تفكّر الأنثى” – فإنّ السفر الكوني ممكنٌ أيضاً. بمعنى آخر إنّ رحلتي في ثنايا (كيف تفكر الأنثى) بدأت في ميتركس matrix من صنع الدكتور شعيبي التي ما أن زجّت بي في عصف من الذكريات المرتبطة بمرحلة الطفولة حتّى عادت بي إلى رحم أمّي – تلك “الغرفة” المعتمة الحاضنة الخانقة حيث كنت جنينا مغمض العينين ملتصقا بكائن آخر لا حول لي ولا قوة – وقذفتْ بي أخيراً في رحاب الكون الواسع (الرّحم الذي منه وإليه نعود). إذاً تتلخّص رحلتي بثلاثة أرحام: الرحم الصناعي، رحم الوالدة والرحم الكوني (العماه Chaos كما أسماه شعيبي). لطالما حلمتُ بوجود آلة للزمن تنقلني حيثُ أشاء ومتى أشاء وها هو الحلم قد تحقق؛ إنّ (كيف تفكر الأنثى) أشبه بآلة للزمن تتجاوز الماضي، الحاضر والمستقبل إلى ما هو أوسع وأكثر عمقاً. هنا لا يسعني إلا أن أتذكر نيقوديموس الشيخ الكهل الذي دخل في حوار مع السيد المسيح عن معنى الولادة الجديدة. صعُبَ على نيقوديموس إدراك كنه هذه الولادة فكيف لشيخ أن “يدخل بطن أمّه ثانية ويولدَ؟”(إنجيل يوحنا 3) لكن السيد المسيح يتجاوز فهم نيقوديموس الحرفي ويفسر له أنّ هذه الولادة لا يمكن أن تتم إلا بالماء والروح وأنّ الدخول إلى الملكوت السماوي لا يتمّ إلا “من فوق” أي بالمسيح (يو 3:7) حيث لا يمكن لمن ولد من الجسد أن يرى المسيح بعكس المولودين من الروح وكأنما نحن بحاجة إلى عيون أخرى بجانب العيون الطبيعية لنرى المسيح. بعدَ أن خضتُ اختبار (شعيبي) ودخلت رحمه الصناعي أتساءل ما إذا كان ثمّةَ في الأمر مجازفة من جانب العالِم الذي زجَّ بالمُجرِّب في لعبة لا يعرفُ نتائجها؛ إنّ العالِم وقد أنجز إختراعه وتركه يعمل لوحده يشبه إلى حدٍ كبير الخالق في الأيام الستة الأولى من الخلق حيثُ صنع كل شيء وتركَ خليقته تعمل من تلقاء نفسها. وإذا كانت جنّة عدن شبيهة برحم صناعي أنجزه الخالِق ليتحقق من تجربة يعلم مُسبقاً أنها ستفشل ومع هذا تركها تعمل عملها، فلماذا تُلام البشريّة على شيء لم تقترفه؟ ولماذا يُطرد اللاعبين الوحيدين – آدام وحوّاء – من اللعبة رغم علمه المسبق بنتيجة الاختبار؟ (التكوين 3). لاحقاً في نفس السفر نرى الخالق وقد ندمَ ندماً شديداً لأنّه خلق البشرية فجاء الدمار الكبير حيثُ أرسلَ لهم الطوفان الذي غمرَ الأرض بإستثناء نوح وعائلته (التكوين 5) وبعد هذا جاء سقوط برج بابل على رؤوس بانيه (التكوين 11). وهكذا دواليك تتوالى سلسلة الطرد (والطوفان والهدم والحرق) وتتوالى أيضاً الاستثناءات بدءاً من العهد القديم انتهاءً بالعهد الجديد. فنسب السيد المسيح هو مثال صارخ على هذه الاستثناءات التي توارثها أتباعه من بعده أيضاً. إنّ استعراض هذا التاريخ يتركنا في حالة حيرة ودهشة أمام جدوى هذه الاستثناءات، كيفية حدوثها واستمراريتها وتواترها. بمعنى آخر إنّ سفر استعادة التكوين لدى شعيبي هو ردّ على سفر التكوين أوّل أسفار العهد القديم وكأنما يقول شعيبي ماذا لو أنشأنا حاضنة افتراضية موازية لحاضنة عدن، هل سنقع في نفس الأخطاء وننقاد وراء نفس سلسلة التحريم والتحليل؟ أم هل ستكون النتائج وردود الأفعال مغايرة؟ والسؤال الأخطر هل سيكون هناك موت؟ إنّ تجربة (شعيبي) لا تدّعي الكمال كما فعلت سابقتها فالخطأ وارد كما هو الحال مع أي تجربة علميّة ولكن إحتمال نشوء عالم جديد واردٌ أيضاً؛ هذا العالَم لا ينفي الكمال المتحقق فينا ولا ينتقص من تجربتنا الإنسانية. إنّ هذه التجربة تتركنا أمام تساؤلات مفتوحة من بينها: كيف يختلف هذا العالَم عن الولادة الجديدة التي أتاحها لنا السيد المسيح بالماء والروح؟ ألم يقدّم الخالق بديلاً عن الحاضنة الأوليّة المعيبة حينما صار بشراً وحلّ بيننا؟ أم أنّ هذا لا يشفع له عند شعيبي وقد خنقَ الإله المُتأنسن الموت؟ وإذا كان عالَم شعيبي الجديد يعترف بالماء والروح والنار (كما ورد في أطروحته للدكتوراه) مثله مثل العالم المسيحاني، فهل نحن أمام عوالم بديلة؟ أنا لا أقلل هنا من أهمية تجربة شعيبي لأنها منحتني أعينا وأجنحةً كثيرة لكني أحاول فقط أن أفهم ولادتي بالماء والروح عندما كان عمري سنتين فقط وولادتي من رحم (شعيبي) الصناعي بعد ثلاثين سنة من ولادتي من الروح وفيما إذا ثمّة رابط بين الولادتين.
ثانياً، سفر الخروج أو سفر “الحُب الأنثوي”. إذاً لا يتبنّى الكاتب الموقف التوراتي للديانات الإبراهيمية بل يتنبّأ ويُبشّر ويُعلن البدء بلحظة جديدة في التاريخ البشري، لحظة الخروج (المغادرة أو الانفصال) على العقاب السماوي المُتكرر في اختبار التفاحة المُحرّمة (التكوين 3)، أو حادثة برج بابل (التكوين 11) وغيرها من حوادث. فهو (أي شعيبي) يعمل هنا عمل الجرّاح حينما يقطع وصلنا المشيمي مع ما سبق وهذا القطع هو قطع إبستمولوجي عمودي يفصلنا عن سلسلة من التحريمات التي لم يعد لها ضرورة أو حاجة في زماننا الحاضر ويأخذنا أيضاً في رحلة لاستكشاف امتداد الوعي البشري بردم الانقطاعات (أو الفجوات المعرفية) عن طريق الفصل حيناً والوصل أحياناً أخرى. وبهذا يسحب العباءة تدريجياً عن كل من رجال الدين وسلطتهم القروسطية على حياتنا اليومية بالإضافة إلى البطريركيين الجُدد المتنكرين بأقنعة شتّى مُسلّطاً الضوء على إنسانيتنا والهالة المحيطة بها. لذا أصبح بالإمكان اعتبار هذه اللحظة التاريخية الإنفصاليّة نبوءة شعيبية خاصة حيثُ يضعنا الكاتب شيئاً فشيئاً على تماس ومواجهة مع وحوشنا الدفينة بالإضافة إلى جنّياتنا الخاصة وحتى أبعد من ذلك، فيقوم بـ”بلبلة” ألسنتنا من ناحية أسلافنا ورابطنا الأمومي. إنّه “يبلبل” ألسنتنا بتقديمه المساعدة لنا على إيجاد الإيقاع في الشهواني، في الأسطوري وفي العقل اللاواعي الجمعي. وهكذا يتركنا أمام خيارين: إما أن نقبل البشارة، بشارته العلميّة، أو أن نقف عاجزين بين زيوس الذي شطر البشر إلى نصفين ويهوه الذي هدم برج بابل على رؤوس بانيه. من الجدير بالذكر أنّ السيّد المسيح قام أيضاً بقطع إبستمولوجي مماثل مع العهد القديم فجاء الإنجيل بمثابة بشرى جديدة، أو استكمال لما تهدّم وتحديث لمفاهيم وتصوّرات قديمة لم تعد تتناسب مع روح عصره. هنا لا يمكننا إلا أن نتساءل فيما إذا نحن اليوم بحاجة لمُسحاء جدد لكي نعبر بهدوء إلى ضفاف المجيء الثاني فيتحقق الملكوت. وهل الملكوت هنا ملكوت أخروي أم هو تفعيل وتنشيط لملكوت ذاتي تكويني أصيل فينا؟ ألا يجدر بنا اعتبار التجسّد الإلهي في شخص المسيح – حلول الله في عمق التجربة الإنسانية – بمنزلة قطع إبستمولوجي جذري وشامل مع ما سبق وخصوصاً تجربة جنّة عدن؟ ألا يعتبر هذا التزامن بين اللامحدود والمحدود تصريح هام وثوري بابتداء ميقاتية جديدة في تاريخ المسيرة الإنسانية تختلف مع ميقاتية الحضور البشري في عدن ليتجانس أخيراً الإلهي فينا مع الإنساني؟ أتوجّه بهذه الأسئلة إلى كل قارئ خاض رحلة مشابهة لرحلتي في ثنايا كتاب كيف تفكر الأنثى وإلى الدكتور شعيبي الذي برأيي قام بإثارتها عن بُعد دون التصريح بها. فبعد أن قرأت عدداً من كتبه ومقالاته الأكاديمية أرى أنّ الدكتور شعيبي يحبُّ العبث ولا يهنأ له بال إذا علمَ أنّ القارئ سكَنَ واطمأنّت نفسه إلى المُسلّمات الغيبية التي توارثناها عن أبائنا وأجدادنا. لذا يتسبّب (كيف تفكر الأنثى) بإقلاق راحة حيث يجدُ القارئ نفسه وقد تحوّل فجأة إلى مُسافر مغلوبًا على أمره مقذوفاً به عكس الجاذبية الأرضية ليكتشفه الكون ويكتشف هو نفسه.
ثالثاً، سفر العقد النفسية-الجنسية وجذورها الأسطورية. إنّ “بلبلة” سقوط برج بابل تنفي الالتحام المنشود وتشطب الصعود وتشطرُ السعي وراء الكمال و”المثلنة”[1] (أو التشبّه بالله) حتى تحقُق أرض الميعاد والخلاص الإلهي بينما “البلبلة” عند (شعيبي) تقوم على العكس، ظاهرياً. لأنه كما أوضحتُ سابقاً اللحظة عند (شعيبي) غير مقسومة ولا مُجتزأة بين لحظة آدم القديم ولحظة آدم الجديد (السيد المسيح)، أو بين عهد قديم وعهد جديد، بين إله مُتعالٍ وإله مُتأنسِن، اللحظة واحدة، هي هي. ولذا جاءت “عقدة التعرّي” أوّلاً بين العقد في كتابه ربّما كردّ علمي على فكرة التوحيد. فبدلاً من الخزي والعار عرفت الأنثى الكونية الرقص أو جاءت الأنثى الكونية راقصة وكان الحمل في معجمها الفيزيولوجي مشاركةً منها ومعها في الخلق (كيف تفكر الأنثى، 258-259)، فقلبَ (شعيبي) بذلك الغطرسة البطريركية رأساً على عقب حيثُ مزجَتْ الحمل بالعقاب الإلهي والجنس بالدنس والخطيئة الأصلية (التكوين 3). لكن وفي نفس الوقت إذا كانت اللحظة غير مقسومة من وجهة نظر اللازمن، فثمّة سلسلة من التناظر يدركها الكون وتعرفُ بها الطبيعة مُسبقاً؛ فعلى سبيل المثال البلبلة عقب سقوط برج بابل تقابلها البلبلة الثانية عقب حلول الروح القدس، التناظر بين آدم القديم وآدم الجديد، الرحم الخاص بآدم وحواء (جنّة عدن) ومستودع البتول (رحم السيدة العذراء)، أسباط إسرائيل الإثنا عشر وتلاميذ المسيح الإثنا عشر، سُلَّم يعقوب وصليب المسيح. بمعنى آخر هذه الأحداث المتباعدة تاريخياً هي توائم مُتطابقة من ناحية الإيقاع تتحقق فيها وحدة الزمن الماضي-الحاضر-المستقبل أيّ أنها غير مقسومة أو مجتزأة من وجهة نظر خارجية. ففي الوقت الذي ينفي فيه التوأم الأول الوحدة بين الكائن والكون، المخلوق والخالق، يقوم التوأم الثاني على نقض هذا النفي كما في حادثة سقوط برج بابل ونظيرتها في العهد الجديد. إذاً لا تتعيّن “المثلنة” divination أو التناظر إلّا بلحظتين الأولى نفي والثانية نفي النفي، ولم يترجم هذا التناظر إلى حقيقة إلا بتجسّد الله. رابعاً، “البلبلة” أو “اللغة” الأنثوية؛ أو ما أسماه الكاتب (كيف تفكر الأنثى). هذا برأيي من الأسفار المرئية وغير المرئية في نفس الوقت ليس لأنّه يمثّل الكتاب بأكمله بل لأنه مرتبط بحال “المُسافر”، فما يحدث من تجلّيات وتكشّفات وحده القارئ-المسافر بإمكانه غور أعماقها ونقلها أو عدم نقلها للآخرين. إنّ أبجدية هذه اللغة الأنثوية هي أبجدية كونيّة موسيقية لها ذبذباتها وتواتراتها الخاصة والمميزة، فإذاً (كيف تفكّر الأنثى) هو ظاهريا وجوهريا عن الأنثى ولكنه أيضاً كونيّ وإنسانويّ من ناحية أنه يخاطب الأجناس كافّة كلُّ بلغته الحميمية الأوليّة. فبهذا يردمُ مأساة برج بابل وما وقع بعدها من تخبّط وضياع وفُرقة و”بلبلة” بنتيجة بروز اللغات التي يتكلّمها اليوم أهل الأرض. بإستخدام “اللغة” المؤنثة يتمكّن (شعيبي) من وصل ما إنقطع وربط ما قد تشرذم فيوحّدنا رغم إنقساماتنا العرقية، الدينية، السياسية، الجنسية والثقافية. ولكن هل تختلف هذه “البلبلة” الشعيبية عن لحظة حلول الروح القدس بهيئة ألسنة نار (ما يُعرف بالعنصرة Pentecost) على تلاميذ السيد المسيح فتبلبلت ألسنتهم بهدف توحيدهم لغرض التبشير (أعمال الرسل 2)؟ ما الجديد الذي قدّمه شعيبي إذاً؟ كانت هذه اللحظة التاريخية وربّما الكونية من العهد الجديد موازية للحظة سابقة من العهد القديم وهي لحظة برج بابل. جاءت حادثة سقوط برج بابل كعقاب إلهي على العصيان بينما تكلل إجتماع التلاميذ السّري في العلية بحلول روح الله وبدء مشروع جديد في تاريخ المسيحية وهو ولادة الكنيسة. لطالما قرأتُ هذا الحدث الكوني في إطاره الزماني والمكاني الممتد حتى الحاضر وأما اليوم بعد قراءتي لكتاب (كيف تفكر الأنثى)، أصبحت أعرف شعوريّاً أن روح القدس وقد حلّ على الإثني عشر – بإستثناء يهوّذا الخائن – ربّما قد حلّ علينا جميعاً (وهذا مخالف لما تؤمن به الكنيسة لأنّ الكنيسة تؤمن أن روح القدس يحلُّ على الفرد في العِماد بعدَ أن يقبل هذا المؤمن السيد المسيح إلهاً ومخلّصاً على حياته). إنّ حلول الروح القدس على المؤمن مشروط بوسيط وهو الكاهن أي إنه مرتبط بتتابع زمني كهنوتي إبتدأ لحظة صعود المسيح وتترجم إلى حقيقة بحلول الروح القدس على التلاميذ وإستمرّ بالتتابع أو بلمس الأيدي من التلاميذ إلى الرسل إلى الكهنة وثمّ إلى جماعة المؤمنين. في إطار هذا الحدث كان هناك إستثناء، فهل تستثني الطبيعة اليوم فرداً ما وتصطفي آخر؟ أم أنّنا جميعنا نمتلك روح الله وما نحتاج إليه فقط هو تنشيطها أو تفعيلها؟ إنّ يهوّذا خلفَ الوعد وباعَ سيّده لقاء ثلاثين من الفضة ثم قتل نفسه. فهل يمثّل يهوذا سائر البشر الذين لم يقبلوا المسيح إلهاً وفادياً على حياتهم؟ هل كان هناك “مسافرون” عبر تاريخ البشرية تمّ اصطفاؤهم وقد حلّ عليهم روح القدس قبل حلوله على التلاميذ؟ أم إنّ هذا الأمر مشروط بأتباع المسيح وحدهم دون سواهم؟ صحيحٌ أنّ الدكتور شعيبي لم يتكلّم عن روح القدس في (كيف تفكر الأنثى) ولا عن “البلبلة” بل اكتفى بالحديث عن الأندروجين أو الهرمون الذكري-الأنثوي إلّا أن “البلبلة” هي المُحصّلة الطبيعية والبُعد القوس قزحي اللامرئي لكتابه الواقعة على حزمة معيّنة من القرّاء. رغم هذا وذاك، لقد ذكر (شعيبي) روح القدس على عجل مرّتين في أطروحته للدكتوراه “الخيال ونقد العلم عند غاستون باشلار” (1999) واستفاض أيضاً بالحديث عن الروح المذكرة والروح المؤنثة. ففي فصل النار من الأطروحة لم يتكلم عن روح القدس بشكل صريح لكنه تكلم عن لهيب العشق الإلهي الذي لا يحرق العاشق (الخيال، 177-179) وفي فصل الماء تكلم مباشرة عن روح القدس عندما تحدّث عن العماد (الخيال، 183). فهل يصح أن نصف روح القدس بالروح المؤنثة والمذكرة الذي مُنح للإثني عشر وللبشرية عن طريقهم بعد موت وقيامة وصعود المسيح إلى السماء فكان هذا الحدث بمثابة تفعيل لتثبيط سابق في بنية المخ؟ ولماذا اكتفى شعيبي بالحديث عن الأندروجين في (كيف تفكر الأنثى) ولم يدخل في تشعبات روح القدس وتجلّياته؟ أم أن الأندروجين هو من التجلّيات الإلهية-التكوينية في الإنسان؟ ليست هناك إجابات واضحة بخصوص هذه الأسئلة في (كيف تفكر الأنثى) لكنّ “البلبلة” الشعيبية الحاصلة في وعي “المسافر” هي شبيهة “بالبلبلة” التي حدثت للتلاميذ حين توحّدوا مع البشرية بألسنتها المختلفة فنالوا مواهب روح القدس وتكلّموا لغات جديدة. إنّ “المثلنة” لدى (شعيبي) لا تحتاج إلى وسيط على عكس المثلنة في الكتاب المقدس التي لم تتم إلا بصعود المسيح إلى السماء. ربّما يهدف شعيبي من خلال كتابه إلى تحقيق وحدة كونية مُشابهة للعنصَرة فمن خلال هذه البلبلة الشعيبية قد نلتُ شخصياً مواهبَ و”لغات” جديدة لم أعرف أنّي أمتلكها من قبل، وأتساءل ما هي نسبة القرّاء الذين نالوا هذه المواهب أثناء قراءتهم لـ(كيف تفكر الأنثى)، وفيما إذا سيكون هناك استثناء جديد يُضاف إلى الاستثناء السابق. فإن كان الأمر منوط بفئة معيّنة من البشر، هل تقع على عاتقهم مهمّة ما؟ وهل يكون (شعيبي) الكاهن الجديد أو الوسيط بين هذين الاستثنائين؟ وهل تتناقض هذه الوساطة مع المثلنة لدى شعيبي؟ وهل ثمّة كهنة جدد غيره وكيف يتمّ اختيارهم؟
يقول (شعيبي) نقلاً عن الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار أنّ لكل مؤنث مُذكّرا ولكل مذكّر مؤنثا وهذا ما يُعرف بالقرين، وفي حين أن النفس البشرية هي مُذكر ومؤنّث معاً فإن كل ثنائية – ذكر وأنثى – هي رُباعية الأقطاب وقد يكون لها عدد لا متناه من الأرواح المذكرة والمؤنثة (الخيال ونقد العلم، 101-119). فعلى سبيل المثال في الثالوث المقدس أو الآب والابن وروح القدس إن الله واحد في ثلاثة أقانيم. فهنا لدينا ثلاثية ظاهرياً ولكنها في الحقيقة قد تحتوي عدداً لا متناهيا من القرائن المجهولة التي لم يكشفها لنا الله عن ذاته بعد. ففي حين أنّ الآب ظاهرياً ذكر وهذا وصف محض بشري، فإنّ الإبن في هذه الحالة ليس كذلك وإن كان يحمل الدلالة اللفظية اللغوية للمذكر لأنه لم يولد من زرع بشري وفق الرواية المسيحية. أمّا بالنسبة لروح القدس فيظهر في العهد الجديد تارةً بهيئة حمامة وتارة أخرى بهيئة ألسنة نار ولا نعلم إن كان سيظهر بهيئات وأنماط جديدة في المستقبل. يتساءل هنا المرء لماذا كشف الله عن ذاته في ثلاثة بدلاً من أربعة أو أي عدد آخر؟ وهل الكمال محصور في ثلاثة؟ فإذا كان هناك ثلاثيات أو تجليات أخرى لله، فماذا عساها تكون؟ وما عدد هذه الاحتمالات ومتى سيتم إعلانها للبشرية؟ فإذا أردنا وضع مصفوفة ثلاثية جديدة تصف الله، فربما بإمكاننا أن نتكلم عن (الأم والابنة والروح القدس) و(الأم والابن والروح القدس) و(الآب والابنة والروح القدس). لاننسى أنه بصعود العذراء بالجسد إلى السماء، ربما يجوز لنا أن نتكلم عن رباعية أيضاً (الآب والابن والروح القدس والأم). إنّ وضع محاولات رياضية لقياس اللامتناهي هو ضرب من الجنون والعبث إلا أنه في صُلب عمل شعيبي حيثُ قام الأخير بوضع لاهوته الفيزيائي الخاص بحروف من ذهب كما لو كان يرسم على رقعةٍ سوداء أو كمن التحفَ السواد فأراد أن ينثر غباره الكوني في عيني القارئ لتصويب المسار على الهدف. إنّ هذا اللاهوت الغامض السرّي هو من العلامات اللامرئية التي تتراءى شيئاً فشيئاً للقارئ-المسافر اللانمطي عن طريق أصوات، طنين وأمواج متلاطمة، صور، أشكال وحروف وحتى عن طريقة لغة الجسد أخرى. بإمكاني وصف هذا اللاهوت كنوع من الـ (amplifier) الذي يعمل على تضخيم الأصوت (المحيطة بنا من بشر إلى طيور إلى أجهزة كهربائية وحتى طائرات حربية) فيصبح بمقدور “المسافر” قراءة أصوات الآخرين والأشياء وتمييز طبقاتها المحجوب منها والظاهر. ونفس الشيء ينطبق على لغة الجسد فيتمكّن “المسافر” من رؤية لغة جسد خاصّة غير اللغة الرئيسة التي يراها الجميع. إنّ كلمة لاهوت بمفردها لا تفي الكتاب (كيف تفكر الأنثى) حقّه فالهدف هنا ليس طبيعة الله ببساطة وإن قلنا لاهوت فيزيائي تجاوزاً فنحن لا نفي الموضوع حقه تماماً لكننا نحاول وصف التماس المتحقق وربما التداخل بين الألوهة والمادّة. وهذا الأمر هو جوهر الكتاب وإن لم يُصرّح شعيبي بهذا كتابياً حيثُ إنّه أتقن وألِفَ لعبة الظهور والتخفّي، التضخيم و”النمنمة”[2] فيدعو القارئ اللانمطي إلى اللعب، السفر والانفلات عبر أنفاق ودهاليز وثقوب نحو عوالم جديد كما لو كان هذا المسكين أليس في بلاد العجائب. إنّ وراء كل كلمة وصورة في (كيف تفكر الأنثى) مفاجأة تأخذنا بعيداً عن المألوف والمسموح به، فتقوم باختراقنا بوساطة مجموعة حُزم أو مسارات لولبية، إهليلجية ودائرية – اهتزازية وتصويرية – تعمل هذه على فك شيفرتنا الجينية وما توارثناه عبر الأجيال عن طريق اللاوعي الجمعي. أما عن شروط الدخول والاستمرار في اللعبة وكيف يتم اختيار اللاعبين فهذا أمرٌ لا أمتلك إجابته حالياً. خامساً، “ملكوت العقل الأنثوي” كما أسماه (شعيبي) هو النعيم السماوي المتحقق فينا بيولوجياً. من صفاته أنّه يتكيّف، لا يعرف التطرّف، يؤمن بالنسبية، ليس حرفيا ولا شخصانيا، يتحرّك في مسارات دائرية وإهليليجية، حدسي أو ميتا-مادّي (كيف تفكر الأنثى 260-266). لا نبالغ إن قُلنا إنّه مولّد السكينة في الإنسان. كان ولا يزال منذ البدء قبل وجود الخليقة والخلق (الشعلة أو ربّما المياه الأولى) المُتكيّفة مع العماه: “هو نفسه العقل الذي يستطيع العيش مع العماه Chaos ، أي الفوضى المطلقة (…)، لأنه يُنصت إلى هذا الهلام العشوائي المتلاطم الأمواج، ويجد فيه ما هو إيجابي ليوظفه لصالح الحياة” (كيف تفكر الأنثى 264). يمكنني القول أنّ (شعيبي) لا يزوّد القارئ بمرساة حيث إن قلمه وأشرعته لا تكفّ عن الحركة ولا تعرف الثبات، ففي الوقت الذي يختتم كتابه بالحديث عن “ملكوت العقل الأنثوي” وصفاته، نراه يرجع إلى العماه – لحظة الصفر أو الإنطلاق أو ربما الإختفاء كأنّما لا يريد أن يكشف أوراقه فيقوم بإعادة خلطها ((reshuffle. إنّ النمط الشائع في الكتابة الأكاديمية يقوم على إعادة تلخيص الأفكار المطروحة في الخاتمة دون تقديم أي جديد، لكن كتاب (كيف تفكر الأنثى) لا يتبنّى هذا النمط من التفكير، فالخاتمة ليست خاتمة – النهاية ليست نهاية – والمقدّمة تنفي ذاتها لتصبح خاتمة. للتوضيح إنّ عدد صفحات الكتاب 320، يبدأ الكتاب صفحة 54 أي من الثُمن ويستمر إلى “النهاية” ثم يدور بالقارئ أو يعود به بالعكس إلى أن يصل “المقدّمة” التي هي خاتمة. أتساءل هل هذه هي حركة “ملكوت العقل الأنثوي”؟ وهل لهذه الحركة من دلائل رياضية-فيزيائية؟ ماذا يخفي (شعيبي) عن القارئ؟ لماذا وهو الذي يدعو القارئ إلى تجاوز الثنائيات بالانفتاح والتلقّي يقوم نفسه بالتخفّي بين الأسود والأبيض؟ يختصر شعيبي الإجابة كما لو كان على عجلة من أمره فيقول موضّحاً إنّه بإمكان العقل البشري الإنصات إلى الأمواج المتلاطمة للعماه أي التوليف مع هذه الأمواج بحيث يتحقق الملكوت؛ وكأنه يقول إنّ العماه قائم إلى الآن. الملكوت هنا هو استنباط اللغة الأنثوية الدفينة في كلٍّ منّا (أي أنّ الدّارة الكهربائية تكتمل وتتفعّل) ليتحقق الكمال الكامن فينا. يكتبُ إذاً شعيبي سِفر الخلود عابثاً بمُسلّماتنا غير آبهٍ بمقدّساتنا يقول ولا يقول، يُفصحُ ويُخفي، يسأل ولا يُجيب. يكتبه كما لو كانت نهاية العالم الآن.
يتساءل البعض مُشككين فيما إذا علينا أن نثق بكاتب ذكر يكتب عن الأنثى ولماذا لا تكتب أنثى عن الأنثى، وفيما إذا استطاع فعلاً رجل القرن الواحد والعشرين التوصّل إلى ما يدور في كينونة الأنثى وما تفكر به أيضاً. ببساطة شديدة إن الكتاب يضعنا أمام مفترق طرق كما وضّحت سابقاً ولك عزيزي القارئ أن تختار؛ فالبعض سيمضي في هذا اللغو الجندري الذي يحصرنا في ثنائيات الأسود والأبيض والبعض الآخر سيتجه عكس هذا التيار لأن وجود ذكر أو أنثى صافيين مئة في المئة هو الاستثناء وليس التعميم فبين الأسود والأبيض ثمّة طيفٌ واسع وتنوّع فريد من الألوان. هذا الكتاب “يُعيّن” ما معناه أنّ المجال مفتوح وليس محصور كما أوهمنا ويوهمنا رجال الدين وأنّ عقارب السّاعة لم تعد كما كانت فالبلبلة الناتجة عن (كيف تفكر الأنثى) هي مُحصّلة انعدام الزمن الأفقي ولو مؤقتاً، تَخلخُل في الجاذبية أو انعدامها بين الكائن والمكان، وقد تكون أيضاً عبارة عن إعادة برمجة شعيبية-كونية للمخ مُرادفة لحلول الروح القدس على التلاميذ. ولكن أتساءل هنا ماذا تراه يكون مشروع (شُعيبي)؟ وكم “لغة” سيتكلم من يعيشون اختباره عن الذكورة والأنوثة؟ هل ثمّة مختارون جُدد؟ وهل سنتمكن من إقامة الموتى كما فعل المسيح وتلامذته أوربما المشي على الماء والنبوءة؟ لا يدّعي الكاتب أنّه يقدّم وصفة سحريّة لجميع مشكلاتنا لكنّه يقدّم تصحيح مسار وإعادة توجيه وفكّ تشفير لما علق في اللاوعي الجمعي من ترسّبات أسطورية بل ويذهب أبعد من ذلك حيث أنه يساعدنا على إيجاد الإيقاع في الشهواني والأسطوري ويقوم بإعادة ضبطه أيضاً، فيتجاوز بذلك النسوية والدراسات الجندرية إلى لغة الذكاء العاطفي متغلغلاً في وجدان الذاكرة الجمعية الإنسانية عابثاً في التفاسير البطريركية المهترئة وباعثاًالروح والنور (وفي سياقٍ سابق النّار) في نهاياتنا العصبيّة كما نفخَ الله الروح في الصلصال فكان آدم. يقفُ شعيبي اليوم كمن يحمل البوق وينفخُ فيه مثل ملائكة سفر الرؤيا لكي يفتح