د. أنطونيو داماسيوترجمة الفصل الأول (البدء من جديد) من كتاب (الذات المنبثقة عن العقل – أنطونيو داماسيو )
-١-
استيقاظة
حينما استيقظت من نومي، كانت الطائرة تهبط، وكنا نهبط معها. قضيت في النوم فترة كانت طويلة بما يكفي لتفوتني تنبيهات طاقم الطائرة عن الهبوط، وربط الأحزمة، وحالة الجو. لم أكن أشعر بنفسي، أو بما يجري حولي. كنت في حالة من اللّاوعي.
هذه السلعة، التي قد تبدو بسيطة جدا، لدرجة ألّا تثير الانتباه، ولكنها في نفس الوقت معقذة جدا، سلعة نسميها ( الوعي-consciousness)[size=10][2]. قليلة هي الأمور التي تشبه هذه السلعة بالنسبة لنا. الوعي، يعبر عن تلك القدرة الهائلة، المتمثلة بوجود عقل، له مالك معيّن، هذا المالك، بطل القصة الشخصية كاملة لكل منّا. هذا المالك أيضا، هو (ذاتٌ)[3] تتبصر بالعالم القابع داخلها والمتناثر حولها.هذا المالك: وكيل، أو مفوّض، يبدو متأهباً للعمل على الدوام.[/size]
الوعي، هو ليس “اليقظة”المجردة. حينما استيقظت من النوم، كما أخبرتك قبل الفقرتين أعلاه، لم أتطلع حولي بذهول ودهشة، لم أمتص الأصوات والمشاهد وكأن عقلي، ذلك الذي استيقظ على حين غرة، يتسكع وحده دون مالك. كان الأمر على العكس من هذا، حيث عرفت مباشرة، دون تردد على الإطلاق، أو ربما مع قدر ضئيل جدا من التردد، أن هذا الذي يستيقظ الآن:هو أنا! جالسٌ على مقد في طيارة، وأنني مسافر ذاهب إلى بيته في لوس آنجلس، مع قائمة طويلة من المهام التي تنتظر الإنجاز قبل نهاية اليوم، يدرك إحساسه بخليطٍ من وعثاء السفر، في جهة، والحماس الذي ينتظره باقي اليوم، في الجهة الأخرى، يشعر بالفضول بخصوص مدرج الطائرة الذي سنهبط عليه، ينتبه للتغيّرات في المحركات التي تحاول سحب الطائرة إلى الأرض. بلا شك، اليقظة كانت ضرورية جدا، كي أصل لحالة الوعي هذه. لكن اليقظة لم تكن المكوّن الوحيد لهذه الحالة،حالة الوعي. ما هو إذن ، المكوّن الأساسي لحالة الوعي هذه!؟ الحقيقة أن هذه المحتويات المعروضة،اللانهائية، وإن كانت غير واضحة، وتفتقد إلى الترتيب، إلا أنها مرتبطة بي، مرتبطة بـ(مالك عقلي). بخيوط لا تُرى، أحضرت كل هذه المحتويات، اللا نهائية، مربوطة، ومجتمعة، في تلك الكتلة الضخمة، المتحركة، التي نسميها: الذات. أمر آخر مهم، هذا الارتباط كان محسوسا، كان هناك شعور ما بهذه الخبرة: خبرة ذاتي المترابطة!
الاستيقاظ، يعني أنني جربت أن يعود لي عقلي الذي غاب مؤقتا،مع وجودي في داخله، دون أن تسقط منه أملاكي (العقل)، ودون أن تُنزع من المالك (أنا) صفة الملكية. الاستيقاظ سمح لي بأن أنطلق مجددا، وأتساءل عما يحدث في نطاقات عقلي، عن الفيلم السحري المعروض على رقعة بحجم السماء، جزء منه يشبه الأفلام الوثائقية، وجزء منه شبيه بأفلام الخيال، هذا الفيلم المتعارف على تسميته: العقل البشري الواعي.
كلنا لدينا تذكرة مفتوحة لندلف إلى الوعي. عقولنا مليئة بهذا الوعي، يتبرعم ويتقافز في كل مكان، دون تردد، أو توجس، نقوم بالتخلي عن هذه التذكرة المفتوحة، كل مساء، حينما نذهب إلى النوم، ونسمح لها بالعودة عند الصباح، حينما يرن جرس المنبة. نفعل هذا ما يقارب، من ٣٦٥ مرة في السنة، هذا إذا لم نقم بحساب فترات القيلولة هنا وهناك. على الرغم من هذه السهولة، التي نترك بها الوعي ونعود إليه، دون اهتمام، إلّا أن هذا الوعي، من أغرب، وأهم، وأعظم، الأمور المتعلقة بوجودنا في هذا العالم. دون، وعي، أقصد، بدون عقل له مالك/فاعل، لن تعرف أبدا أنك موجود أصلا، بغض النظر عن كونك تعرف من أنت مثلا، أو بماذا تفكّر!
لو لم تبدأ الشخصانية [size=10][4] والتعبير عن الذات، ولو كان ذلك بطريقة متواضعة في البداية،[ في وقت ما من تاريخ عالمنا]، وفي كائنات تكوينها أبسط بكثير من تكويننا، لو لم تبدأ هذه الشخصانية، لكانت فرص وظائف الذاكرة والمنطق في التوسّع الفظيع-الذي حصل لهما بالفعل- توشك أن تكون معدومة. لو لم تبدأ الشخصانية، لكان من المستحيل تعبيد طريق اللغة، و طريق الوعي، الذي نمتلكه الآن.لم يكن بالإمكان للإبداع، والابتكار، أن يزدهر. لم يكن ليوجد أغانٍ، أو رسومات، أو أدب وكتابة. كان الحب،لن يكون كالحب الذي نعرفه، سيكون جنسا فقط. و الألم،في المقابل، لن يكون معاناة كما نعرفه، بل ألم متجرد فقط، ليس أمرا سيئاً، أليس كذلك؟ – لكن هذا الأمر في المقابل له مزايا عظيمة، لأن اللذّة لم يكن لها أن تصبح سعادة وبهجة [لولا هذه الشخصانية]. لو لم تظهر الشخصانية، بهذه الطريقة الطاغية، لم يكن لأحد أن يعرف، ولا لأحد أن يلاحظ أن أحدا لم يعرف، وهكذا، لن يصبح هناك تاريخ لما فعلته المخلوقات خلال الأزمنة المختلفة، ولن تصبح هناك ثقافة لأية حضارة على الإطلاق![/size]
على الرغم من أنني لم أقدم أية تعريف حتى الآن، لمعنى “الوعي”، أرجو أنني لم أترك مجالا لنا لنشكّ بما يعنيه، عدم امتلاك الوعي[size=10][5]: حينما لا يوجد الوعي تكون نظرتنا الشخصية للأمور معلقة؛ لن نعرف أننا موجودون على سطح هذه الأرض، ولن نعرف بوجود أي شيء آخر. لو لم يتطور الوعي خلال رحلة التطور ويتّع ليشمل النسخة البشرية منه، لكانت بشريتنا المألوفة لنا الآن، بضعفها وقوتها، لم تكن لتطور بدورها. حريّ بنا أن نصاب بالقشعريرة، حينما نفكر، كيف أن منعطفا كهذا، لو لم يسلكه قطارنا، لكان ذلك يعني، أن نفقد هذه البدائل الحيوية التي تجعلنا بشرا بحق. ولكن، كيف كان يمكن لنا أن نعرف عن هذا الفقد على أية حال ؟![/size]
نمرر فكرة الوعي، دون تفكير، لأنه متوفر دائما، وسهل الاستخدام، ومتلطف جدا في ظهوره وغيابه اليومي [عند النوم]، وبالرغم من كل هذا، حينما نفكر به، سواء كنا باحثين أو لم نكن، نجده أمرا مُلغزا محيرا! مم يتكون الوعي؟ بالنسبة لي أشعر أنه عبارة عن (عقل، مع خدعة)، خدعة: لأننا لا نستطيع أن نكون واعين بدون أن يوجد لدينا عقل، لنعيه! ولكن، مم يتكون العقل؟ هل يأتي العقل من الهواء حولنا أم أنه يأتي من الجسد؟ بعض العارفين يقولون أنه يأتي من الدماغ، أن العقل موجود في مكان ما، داخل الدماغ، ولكن هذا ليس جوابا مرضياً، كيف يخرج هذا الدماغ، كساحر، العقلَ من قبعته!؟
من الأمور الغامضة: كيف يستطع أحدنا رؤية عقول الآخرين،بغض النظر عما إذا كنا نتحدث عن رؤية عقولهم الواعية، أو غير ذلك. نستطيع أن نتفرج على أجساد الآخرين وأفعالهم، ماذا يقولون وماذا يكتبون، لكننا لا نستطيع الفرجة على عقولهم. فقط نستطيع أن نتفرج على عقولنا الخاصة، من الداخل، ومن خلال نافذة ضئيلة جدا، للأسف. خصائص العقول، تبدو مختلفة بصورة فظيعة، عما نستطيع أن نراه من الموادّ الحيوية، ولهذا السبب يتساءل بعض من يتحلون بالحصافة من الناس، كيف يمكن لعملية ك: عقل واعٍ يعمل، أن تتقاطع مع عملية مختلفة ك: خلايا حيوية تعيش في تجمعات نسميها أنسجة!.
قولنا بأن عملية الوعي في العقول غامضة – هي بالتأكيد كذلك- لا يعني أن نقول أن هذه المعضلة غير قابلة للحل!. هذا يختلف عن قول من يقولون بأننا البشر لن يتوصلوا، أبدا، لفهم كيف يمكن لكائن يدب على الأرض، ويملك دماغا، أن يكوّن عقلا واعيا! [size=10][6][/size]
-٢-
الأهداف، والأسباب، لكتابة هذا الكتاب
هذا الكتاب، مخصص لمحاولة مناقشة سؤالين. أولا: كيف يتم بناء العقل، بأحجار الدماغ؟. ثانيا: كيف يقوم الدماغ بجعل العقل واعيا؟. أدرك بالطبع، أن مناقشة الأسئلة يختلف عن تقديم إجابات لها. كما أدرك أنه، بخصوص، أمر ك: (وعي العقل)، من الحماقة أن نفترض إجابات مؤكدة. إضافة إلى ذلك، أدرك جيّدا أن دراسة الوعي، قد توسعت بطريقة تجعل الإشارة لجميع الاكتشافات والدراسات والإضافات لفهم الوعي، أمرا مستحيلا لا أستطيع فعله. ونضيف إلى ذلك، أن مشكلة المصطلحات، وزوايا الرؤية تجعل العمل على الكتابة عن الوعي، أمرا شبيها بالمرور من خلال حقل ألغام. لكن في رأيي، من المناسب، أن يعرّض واحدنا نفسه للخطر والتهلكة، مادام سيفكر مليّا في السؤال المطروح، ويتأمل في إجاباته المحتملة، وأن ينظر للأدلة المتوفرة، وإن كانت ناقصة وابتدائية، كيف يبني تخمينا يمكن اختباره، ويحلم بمستقبل يحمل الإجابات. الهدف من هذا الكتاب، هو التبصّر في التخمينات، ومناقشة بناء نظريات مناسبة. نقطة التركيز هي: كيف يجب أن يُبنى الدماغ البشري، وكيف عليه أن يعمل، كي يمكن للعقول الواعية أن تنبثق منه!
الكتب لا يتم كتابتها دون سبب. سبب كتابة هذا الكتاب هو أن نبدأ من جديد .قضيت أكثر من ثلاثين سنة في دراسة العقل البشري، والدماغ البشري، ونشرت ما كتبته عن الوعي في مجلات علمية، وكتب ألفتها[size=10][7]. ولكنني وصلت لحالة من عدم الرضا، عن فهمي ورؤيتي للمعضلة، بخصوص أمرين على وجه الخصوص: ماهو مصدر وطبيعة المشاعر في جهة، ومن جهة أخرى،ماهي الميكانيكية خلف تكوّن وبناء الذات، هذا الكتاب عبارة عن محاولة لنقاش الآراء الحالية. وهو كذلك، بشكل أساسي، للحديث عما لا نعرفه بعد، ولكننا نتمنى لو عرفناه![/size]
بقية هذا الفصل الأول مخصصة لتجهيز القاريء لفهم المعضلة، وشرح خطة العمل التي اخترتها لمناقشة الموضوع، ولإعطاء نبذة بسيطة عما ينتظرك في الفصول القادمة. سيجد بعض القراء أن هذه المقدمة الطويلة، ستخفف من سرعة القراءة، لكنني أعدك، عزيزي القاريء، بأن قراءة هذا الفصل، ستسهل من فهمك لبقية الفصول، التي قد تستعصي على الفهم بدون هذه المقدمة.
-٣-
التوجه لفهم المعضلة
قبل أن نحاول فهم الكيفية التي يبني بها الدماغ، عقلا واعيا، لابد أن نتوجه بالعرفان لإرثين مهمّين. أحدهما، كان عبارة عن محاولة لاكتشاف الأساس العصبي للوعي، في اجتهادات يعود تاريخها لمنتصف القرن العشرين. كانت هذه عبارة عن سلسلة من الدراسات الرائدة أجريت في أمريكا الشمالية، وإيطاليا، لفرقة من الباحثين أشاروا بطريقة مدهشة، لجزء من الدماغ، نعرف الآن بدون شك، بأنه يصنع الوعي. هذا الجزء، هو جذع الدماغ (Brain Stem).ربما لا يفاجئنا الآن أن نعرف أن ماقدمه هؤلاء الرواد-وايلدر بينفيلد، هيربيت جاسبر، قوسب موروزي، و هوريس ماقون- لم يكن كاملا بالنظر إلى مانعرفه اليوم عن الموضوع. أجزاء منه لم تكن بالضرورة صحيحة. لكن لا يمكن لنا إلا ننظر بعين التقدير والإجلال، ونحن نمتدح مافعله هؤلاء الباحثون، وهم يصوبون عين أبحاثهم، نحو هذا الجزء الصحيح بدقة ملهمة. كانت هذه بداية شجاعة للمجال الذي نرجو الآن أن ننتباحثه بنجاح.[size=10][8][/size]
الدراسات التي تم إجراءها على مرضى الجهاز العصبي، المصابين باعتلال في الوعي، بسبب إصابات لمناطق معينه في الدماغ، هي جزء آخر من هذه الإرث آنف الذكر. أعمال فريد بلم Fred Plum، و جيروم بوسنر Jerome Posner، أطلقت إشارة البدء في هذا الاتجاه[size=10][9]. خلال السنوات الماضية، هذه الأبحاث، إضافة إلى ما فعله روّاد أبحاث الوعي، أنتجت لنا قاعدة صلبة من الحقائق المتعلقة بتركيب الدماغ، التي تتعلق، أو لا تتعلق، بصناعة الوعي في عقول البشر. نستطيع الآن أن نبني على هذه القاعدة الصلبة.[/size]
الإرث الآخر الذي يجب علينا تقديره، يختص بالتقليد الطويل المتعلق بتكوين مفاهيم [إنسانية] عن العقل و الوعي. لهذا الأمر تاريخ غنيّ، كطول تاريخ الفلسفة، وكتشعّبه. من هذه المعروضات الغنية، وجدت نفسي أجنح لتفضيل كتابات ويليم جيمس، كمرساة، تعود لها أفكاري الشخصية حينما تبحر.على الرغم من أن هذا لا يعني أنني أقوم بتأييد موقفه بالنسبة للوعي، وخصوصا ما يتعلق بحديثه عن موضوع” المشاعر.”[size=10][10][/size]
عنوان هذا الكتاب، وصفحاته الأولى، لن تترك لديك شكّاً في أنني حينما أتوجه لمناقشة العقل الواعي، أضع (الذات) في مرتبة هامة. اعتقادي، أن العقل الواعي، ينشأ حينما نضيف (ذاتا”) إلى عمليات العقل الأساسية. حينما لا تحوي العقول ذواتا، هذه العقول ليست بالفعل واعية بطريقة لائقة. لو فكرنا في الأمر، فالبشر في الحقيقة يواجهون هذا المأزق، حينما ينامون دون أحلام، أو يكونون تحت تخدير كامل، لعملية مثلا، أو تصاب أدمغتهم بعطبٍ ما.
تعريف عملية الذات، التي أعتبرها أساسية جداً بالنسبة للوعي، مسألة صعبة جدا للأسف، والحديث عن هذا المصطلح أسهل من نحت تعريف له. لهذا السبب بالذات، أجد أفكار ويليام جيمس نافعة لهذا الاستهلال. جيمس كتب، بطريقة أنيقة عن أهمية الذات، ولكنه أيضا، لاحظ، أنه في حالات عديدة، وجود الذات يكون دقيقا لدرجة أن لا تلاحظه وأنت تتفرج على سيل أفكار العقل، التي تستحوذ على الوعي. ليس لنا بدّ من أن نواجه هذه مراوغة الذات هذه ونقرر بشأن تبعاتها قبل أن نمضي قُدماً في هذا الكتاب. هل يوجد ذات، أم لا يوجد ذات؟ إذا كان هنالك ذاتا. هل هي موجودة دائما حينما نكون واعين، أم أنها تغيب أحيانا؟.
الإجابة واضحة، ولا شكّ فيها. هنالك بالتأكيد ذات. لكن الذات عبارة عن عملية (process) وليست شيئا. وهذه العملية موجودة دائما حينما نكون واعين. نستطيع تباحث مسألة، (عملية الذات)[size=10][11]، من زاويتين أساسيتين. الزاوية الأولى، تتعلق بجزء من الذات، يتصرف كمُراقِب، يتبصر بوجود (مُستهدف[12]) نشِط، هذا المستهدف النشط، كوّنته عمليات معينة للعقل، وصفات معينة للسلوك، وتاريخ حياة طويل، أدى في نهاية المطاف، إلى هذه الذات التي نرى. الزاوية الأخرىتتعلق بوجود جزء من الذات، يتصرّف ك(عارِف). هذا الجزء من ذواتنا الذي يركز على تجاربنا، ويتبصّر بها فيما بعد. خلط هذين الجزأين مع بعضهما، يؤدي إلى المعنى الذي أقصده كل مرة أتحدث بها عن (الذات) في هذا الكتاب. تستطيع أن تفكر بها كعملية مزدوجة، تتكون من الجزأين المذكورين للتوّ. كما سنلاحظ فيما بعد،هذين الجزأين، يتراتبان بطريقة، تتعلّق بتطوّرنا البشري. الذات، كعارف، انبثقت -تطوريّاً- من الذات-كمستهدف .في حياتنا اليومية، وما يتعلق بعمل العقل الواعي، نجد أن فكرة الذات؛ كمستهدف، أبسط في نطاقها، وتصورها ، من فكرة الذات؛كعارف. [13][/size]
من كلا الزاويتين، تختلف عملية الذات، في شدتها، ونطاقها، ومظاهرها، بحسب مايحصل. يمكن للذات، أن تعمل بشكل خفيّ، لطيف، كتلميحة، بأن هناك كائن حي، موجود. ويمكن للذات، في الجانب الآخر، أن تكون حاضرة بقوة، معبرة عن الشخصية، وعن وجود مالك واضح الهوية، يملك هذا العقل! يمكن لك الآن، أن تلاحظ وجود الذات، وفي لحظة أخرى، قد يغيب ذلك عنك، لكنك على الدوام، تشعر، بوجود الذات. هذه هي طريقتي في تلخيص الأمر!!
ويليام جيمس-المذكور أعلاه-، كان يفكر بأن الذات-كمُستهدف-،أي الذات المادية، هي مجموع ما يستطيع الشخص أن يقول عنه: هذا يخصنيّ/ هذا من ممتلكاتي، ولنقتبس بعضا من كلامه هنا: ” ذاتك ليست فقط جسمك وقواك النفسية،بل ملابسك، وزوجتك، وأولادك، أجدادك، وأصدقاؤك، سمعتك، وعملك، الأراضي التي تمتلكها، وأحصنتك، ويختك، وحسابك في البنك.”[size=10][14] حينما أنحي جانبا ما قد نلاحظه هنا، من تجاوزه الأدبي[15]، في هذا النص، فأنا أتفق معه في رأيه. ولكن ويليام جيمس كان يفكر في أمر آخر، أوافقه عليه بشكل أكبر: ما يمكّن العقل من معرفة وجوده في ماضيه، وحاضره، ومستقبله، هو إدراك المشاعر المتعلقة بهذه المواضيع. وهذه المشاعر بدورها تعمل كحد فاصل، يفصل بين المحتويات التي تخص الذات، وتلك التي لا تخصها. من وجهة نظري، هذه المشاعر تعمل ك:علامات. هذه العلامات هي إشارات معتمدة على المشاعر،أُفرِدُ لها هذا الوصف: علامات جسدية. حينما تتدفق هذه المحتويات، المتعلقة بالذات، في مجرى العقل، تؤدي إلى ظهور علامة، تتدفق في مجرى العقل، كصورة، مجاورة للصورة التي أثارتها. هذه المشاعر، تتوصل إلى فصل، بين ما يكون متعلقا بالذات، وما لا يتعلّق بها. لو جاز لي أن أختصر هذه المشاعر في عبارة، ستكون: أن تشعر بأنك تعرف. ْ[/size]
سنرى فيما يلي، في بقية هذا الكتاب، بأن بناء العقل الواعي، يعتمد، في مراحل مختلفة، على إصدار هذه المشاعر. لو رغبت في معرفة تعريفي الخاص، لما يمكن أن تسميه: أناي المادي- the material me-، وهو ما عنيته، بالذات، كمُستهدَف، فتعريفي له كما يلي:
مجموعة، ديناميكية، من عمليات عصبية، متكاملة، تحاول أن تمثّل، بشكل رئيسي، الجسد الحي، وهذه المجموعة الديناميكية من العمليات العصبية، تعبر عن نفسها، بمجموعة ديناميكية متكاملة، من العمليات الذهنية.
في المقابل، الذات- كعارف، -الذات كتعبير عن الضمير، أنا- تمتلك حضورا مراوغاً محيراً! للأسف، لم يجمعها أحد بعد، في وحدات، ذهنية، أو حيوية. هي مشتتة على رقعة واسعة، وتذوب عادة في نهر الوعي الجاري. وهي أحيانا، رقيقة الحضور، بشكل فظيع، فهي موجودة، ولكنها توشك أن تكون غير موجودة! الذات-كعارف صعبة الالتقاط، بلا أدنى شك، مقارنة بالذات المباشرة سالفة الذكر (الذات-كمستهدف). لكن هذا الحضور المراوغ، لا يقلل من أهميتها بالنسبة للوعي. الذات، كعارف، موجودة بشكل واضح، وهي ليست موجودة فقط، ولكنها كذلك، من أهم نقاط التحول في وجودنا وتطورنا. يمكننا أن نتخيل أن الذات كعارف، وهي تتراكب فوق الذات- كمستهدف، وكأنها طبقة جديدة من العمليات العصبية، لتمنحنا ، طبقة جديدة من العمليات الذهنية. لا يوجد فصل واضح، بين الذات؛ كمستهدف، والذات؛كعارف، بل يوجد استمرار وتقدّم. الذات؛كعارف، تقوم كبناء على أساسات الذات؛ كمستهدف.
الوعي لا يتعلق، بمجرد خيالات وصور في العقل.أقل ما يمكن أن نقوله عن الوعي، هو أنه: جهة تنظيمية، لمحتويات العقل، تتمحور حول الكائن، الذي يُنتج ويحفّز هذه المحتويات. ولكن الوعي، بالصورة التي أستطيع أنا وأنت، أن نجربها كما يحلو لنا، هي أكثر من عقل مرتب في خزانة الوظائف الحيوية، لهذا الكائن الحي (نحن). هو أيضا عقل، يتمكن من معرفة أن هذا الكائن الحي [نحن] موجود. وأيضا، جزء هام، من عملية : أن تكون واعياً أن الدماغ ينجح بتكوين أنماط عصبية، تقوم برسم خريطة لتجاربنا الحياتية، عن طريق تحويلها إلى صور. ترتيب هذه الصور بما يتناسب مع منظور هذا الكائن الحي، هو جزء من هذه العملية أيضاً.ولكن من المهم أن ننتبه أن هذا الترتيب، لا يعني بالضرورة وجود معرفة جلية، بأن هذه الصور تخصنا، وأنها داخلنا، وأنه يمكن لنا التصرف بشأنها. الوجود المجرد لصور مرتبة، تجري ضمن تيار ذهني، قد يُنتج لنا عقلاً، لكن لا بد من بدء عملية إضافية لهذا، وإلا فسيبقى العقل، لا موعيّاً[size=10][16]. إذن، مايحتاجه الدماغ ليصبح واعياً، هو أن يحصل على هذه الخاصية الجديدة، ألا وهي:الشخصانية (Subjectivity). ومن أهم مايعبر عن هذه الشخصانية، هو الشعور الذي يتخلّل تجاربنا الذاتية. كي تحصل على معالجة معاصرة لأهمية الشخصانية، من منظور فلسفي، أنصحك بقراءة كتاب جون سيرلز، “غموض الوعي.”[17][/size]
تماشياً مع هذه الفكرة، الخطوة الأهم في (بناء الوعي)، ليست في خلق الصور، وصنع أساسيات العقل. الخطوة الأهم، هي في جعلنا نمتلك هذه الصور. وأن تكون صورا خاصة بنا. هي في جعل هذه الصور تنتمي لمالكها المستحق، المتفرد، الذي نبعت هذه الصور ابتداءا من داخله.
من منظور التطور، ومن منظور تاريخ الحياة الشخصي للفرد: الذات العارفة ، جاءت في عدة خطوات: الذات الأصلية، ومشاعرها البدائية؛ ثم الذات، التي تحركها رغبة العمل والفعل، وأخيرا، الذات صاحبة السيرة الذاتية، تلك التي تدمج الأبعاد الاجتماعية والروحانية. لكن هذه جميعها، لو لاحظت، عمليات نشطة، وليست مجرد أشياء جامدة، وباختلاف الأوقات، تختلف مستويات هذه العمليات، لتتراوح بين البساطة والتعقيد ، وما بينهما. ومن الممكن أيضا، لهذه العمليات أن تعدّل نفسها بسرعة حسب ما تمليه الظروف المحيطة. العارف- سمه ما شئت: ذات، نفس، مجرّب، بطل القصة- هذا العارف، لا بد من أن ينبثق من الدماغ، كي يصبح العقل واعياً. حينما ينجح الدماغ في عملية دسّ عارفٍ في العقل، تبدأ محركات( الشخصانية) بالدّبيب على الأرض.
هل يتوجب على القاريء أن يتساءل هنا، إذا كان هذا الدفاع عن الذات، ضروري، دعني أخبره، بأنني أراه دفاعا مبرراً. وذلك لأنني أرى أن المشتغلين بعلوم الأعصاب حاليا، الذين تهدف أعمالهم وأبحاثهم، إلى توضيح الوعي، وفهمه، لديهم نزعه مختلفة عن هذه النزعة، بخصوص الذات. هذه النزعة، لها عدة مستويات، وأشكال، وهي تتدرج من اعتبار الذات، كموضوع لا يمكن فصله على الإطلاق عن أجندة البحث في موضوع الوعي، وتنتهي بنزعات محتلفة، اطلعت عليها، حيث رأيت من كتب حرفيا: الوقت لم يحن بعد لنتعامل مع موضوع الذات!!رأيي في الموضوع: بما أن المخرجات البحثية، لمعتنقي أحد هاتين النزعتين،مازالت تنتج أفكارا مفيدة، ،لا حاجة لنا، في الوقت الحالي، لاتخاذ قرار بشأن أي الفريقين سيقدم فهما مُرضيا. لكن، من المهم أن ندرك ونستوعب هذا الاختلاف، وأن ندرك أنّ مخرجاته مختلفة.
في الوقت الحالي، من المهم أن نلاحظ، أن هذه النزعات المختلفة، قامت بتخليد اختلافات الرأي، التي فرقت بين ويليام جيمس، وديفيد هيوم. هذه الاختلافات، التي قام البعض، بغض الطرف عنها عند مناقشة هذا الموضوع. جيمس ويليام، أراد التأكد من أن يكون لمفهومه عن “الذات” أساس حيوي. “الذات” التي حاول أن يقدمها في طرحه، ليست ذاتا ميتافيزيقية عارفة! ولكن ذلك لم يمنعه من إدراك وظيفة “أن تعرف” بالنسبة للذات، وإن كانت وظيفة خفية متلطفة. في المقابل، ديفيد هيوم، كان يبدو وكأنه يحاول أن يسحق الذات، إلى الدرجة التي تصبح فيها وكأنها ذرّات لا ترى. الفقرة التالية قد تعبر عن وجهة نظر ديفيد هيوم، وهي مقتبسة من كتاباته، يقول: “لا يمكنني أن أقبض على (نفسي) في أية لحظة وهي لا تقوم بالإدراك! ولا يمكن ملاحظة أية شيء عدا هذا الإدراك!” ويستمر بالقول: ” من الممكن أن أغامر، وأقول مؤكدا لباقي البشر، بأنهم ليسوا سوى مجموعة أو حزمة، من الإدراكات المختلفة، التي تتعاقب بسرعة خارقة لا يمكن تصوّرها، في تدفق إدراكي، وحركة لا تتوقف!.”
لاحظ جيميس هذا التجاهل عند ديفيد هيوم لمفهوم الذات، فاستثاره ذلك، وتحرك لإصدار توبيخ علنيّ قاس، جدير بأن لا يغادر ذاكرة من قرأه، مؤكدا وجود مفهوم الذات، وموضحاً الخلطة الغريبة، للاتحاد، والتنوّع، في ثنايا الذات، وداعيا المهتمين، لملاحظة ” الجوهر المتجانس” لمكوّنات الذات الأساسية. [size=10][18][/size]
التأسيس المعرفي الذي ناقشته هنا فيما سبق،قد خضع لتعديلات، ومناقشات مستفيضة، من قبل الفلاسفة، وعلماء الأعصاب، ليشمل جوانب متعددة لمفهوم الذات. [size=10][19] لكنني حاولت جهدي، أن لا أقلل من أهمية “الذات” في بناء العقل الواعي. أشك كثيرا في أن نتمكن من الوصول لفهم كامل للأساس العصبي،للعقل الواعي، دون أن نسجل ،باديء ذي بدء، فهمنا للذات، كمستهدف، أي الذات المادية، والذات؛ كعارف.[/size]
الأعمال المعاصرة التي تتحدث عن فلسفة العقل، وفلسفة علم النفس، قامت بتوسيع هذا الإرث المفاهيمي، وفي الوقت ذاته، تطوّرُ علمِ البيولوجيا العامة، وعلم بيولوجيا التطور، وعلم الأعصاب، أدى إلى استغلال أمثل للإرث العصبي. والنتيجة: تقنيات متعددة، كثيرة،لإجراء أبحاث وتقصيّات عن الدماغ، ومخزون هائل من الحقائق. في هذا الكتاب، ما ستراه من أدلة، أو تخمينات، أو نظريات، سترتكز جميعها على هذه المساهمات الهامة.
-٤-
الذات، كشاهد
لملايين السنوات، كانت هناك كائنات لا تحصى، تحمل عقولا نشطة. لكن، فقط هؤلاء الذين تمكنوا من امتلاك ذات تعمل كشاهد، يشهد على العقل، تمكنوا من التسليم بوجوده (وجود العقل). عرفنا بعدها عن وجود عقولنا، حينما تتطورت العقول بما يكفي لتمتلك اللغة، وعاشت بما يكفي لتخبرنا عن نفسها. الذات كشاهد، هو (إضافة) لعقولنا، لتكشف لنا، في كل واحد منا، عن أحداث، نسميها أحداث ذهنية. نحتاج هنا إلى أن نفهم: كيف نشأت هذه الإضافة.
المفاهيم المتعلقة بوجود شاهد على القصة، وبطل للقصة. لم أقصد منها أن تكون مجرد صور حرفية. أرجو من هذه المفاهيم أن تساعد في توضيح الأدوار المختلفة التي تتقمصها الذات في داخل العقل. هذه الاستعارة، ستساعدنا في فهم الموقف الذي يواجهنا حين نحاول أن نفهم العمليات الذهنية. العقل، الذي لا يملك، ذاتا تتصرف كبطل شخصي لقصة العقل، يظل عقلا! لكن، بالنظر لكوننا لا نملك طريقة، سوى استخدام ذواتنا، كطريقة طبيعية لمعرفة العقل، يتسبب ذلك في جعلنا معتمدين على حضور ذواتنا،وعلى قدراتها، محدودة كانت أو وافره. وبالنظر لهذه الاعتمادية، يصبح من شبه المستحيل تخيل طبيعة العمليات العقلية، دون تدخل (الذات). وذلك على الرغم، من تصورنا بأن الأمر-من ناحية تطورية- يشير إلى أن العمليات العقلية المجردة، سبقت تطور عملية الذات (Sefl Proccess). الذات تسمح لنا بنافذة نرى من خلالها العقل. لكنها نافذة ضبابية.
جوانب الذات، التي تسمح لنا بتكوين تفسيرات تتعلق بوجودنا، وبالعالم الذي نعيش داخله،مازالت تتجدّد وتتغير، لا سيما على المستوى الثقافي، ومن المرجح، على المستوى الحيوي أيضا. على سبيل المثال،هذه المنابع المعرفية تتعرض لتعديلات، من خلال التداولات الاجتماعية والثقافية، وأيضا، من خلال الحصول على المعرفة العلمية عن عمليات العقل، والدماغ نفسها. لنوضح الأمر ببعض الأمثلة: قرن كامل من رؤية الأفلام، لا بد أنه أثر بشكل ما، على الذات البشرية، كما ينطبق هذا الأمر أيضا، على الثورة الرقمية، ووسائط الإعلام التي تنقل مجتمعاتنا المتعولمة في ثوانٍ، لزيارة بعضها. وإذا أردنا أن نفكر في أثر هذه الثورة الرقمية، ما زالت ذواتنا تحاول تقدير هذه الثورة وفهمها. باختصار، نافذتنا الوحيدة لرؤية العقل، تعتمد على جزء من ذلك العقل ذاته، هذا الجزء: عملية للذات، والتي لا تستطيع – بحسب اعتقادي- أن تقدم تصورا كاملا، يمكن الوثوق به، لفهم ما يجري بالفعل!
حينما نحيل نظرنا ابتداءا، بعد أن نستوعب، أن (الذات) هي نافذتنا نحو المعرفة، قد نبدو متناقضين- وربما قليلي خاتمة!- حينما نتساءل عن إمكانية الوثوق ب(الذات) ولكن للأسف هذا هو موقفنا المحرج. باستثناء تلك النوافذ المباشرة التي تفتحها الذات، لنشعر بالألم، أو السعادة، باستثناء هذه النوافذ، ما تقدمه لنا (الذات) من معلومات، يجدر بنا أن نتساءل بشأنه، خصوصا، حينما تحاول أن تخبرنا عن نفسها. لكن هناك أخبار جيدة هنا، الخبر الجيد، أن الذات، جعلت المنطق، والملاحظة العلمية ممكنة. ومن خلال هذا المنطق، والملاحظة العلمية، استطعنا، ونستطيع، تدريجيا، أن نقوم بتصحيح بعض المفاهيم التلقائية من ذلك النوع الذي تسوّق له(ذات ) لا تتسلح بالمنطق والعلم.
-٥-
عن تجاوز فهم تلقائى مضلل
من الممكن لنا تقديم الجدلية التالية: الثقافات والحضارات، لم يكن لها أن تنتعش لو كان الوعي غائباً، وذلك من دوره أن يجعل الوعي، حدثاً ملحوظا في رحلة التطور الحيوي البشري. ولكن، طبيعة الوعي ذاتها، تشكل مشكلة جادة، لهؤلاء الذين يحاولون فهمها بطريقة بيولوجية/حيوية. حينما ننظر للوعي من الزاوية التي نقف عندها اليوم، ونحن نراها كعقل واع، يتسلح ب (ذات)، هذه النظرة يمكن لنا أن نعاتبها على المشاكل -التي يمكن فهمهما بالطبع- والتشويهات التي علقت بدراسات العقل والوعي تاريخياً. حينما ننظر من الأعلى، العقل، له موقع خاص، يتميز عن باقي أعضاء الجسد الذي ينتمي له. حينما ننظر من الأعلى، العقل لا يبدو معقدا فقط – هو معقد بالتأكيد، ولكنه أيضا، مختلف، نوعياً، عن باقي الأنسجة الحيوية، ووظائف ذلك الجسد الذي أنجبه. في الحياة العملية، نستخدم عادة، نوعين من المناظير، حينما نلاحظ وجودنا: نلاحظ العقل باستخدام منظار يوجه عدسته إلى الداخل، ونلاحظ الأنسجة الحيوية، باستخدام منظار، يوجه عدسته، خارجه. بالنظر إلى هذه الظروف، لن يفاجئنا، أن نلاحظ أن العقل، يبدو وكأنه يملك، طبيعة غير فيزيائية [لا تتعلق بالنسيج ذاته-المترجم]، وأنه عبارة عن ظاهرة، يبدو وكأنها تنتمي لقائمة أخرى [قائمة غير فيزيائية-المترجم].
النظرة للدماغ، كظاهرة غير فيزيائية، منقطعة عن البيولوجيا، التي أنتجتها، وحافظت عليها، هذه النظرة، مسؤولة، عن وضع العقل حاليا، خارج أطر القوانين الفيزيائية. وفي المقابل، نجد أن ظواهر الدماغ الأخرى، موجودة داخل هذه الأطر. الظاهرة الأكثر إدهاشا، لمحاولة فهم هذه الغرابة، كانت في محاولة ربط العقل الواعي، بالخواص الفيزيائية التي لم نستطع شرحها حتى الآن، على سبيل المثال، محاولة شرح العقل الواعي، عن طريق الظواهر الكمية (quantic phenomena) ! المنطق المستخدم لهذه الفكرة يبدو كما يلي: العقل الواعي يبدو غامضاً؛و لأن الفيزياء الكمية، مازالت غامضة، ربما كان هناك رابط إذن، لتفسير الغموضين المختلفين![size=10][20][/size]
بالنظر للممعطيات هنا، المتمثلة في فهمنا الناقص، لعلوم الأحياء (البيولوجيا)، وللفيزياء، لا بد لنا من الحذر قبل أن نرفض التفسيرات البديلة. لا يمكن لنا أن ننكر، أنه و رغم كل النجاحات البارزة لعلوم الأعصاب المرموقة، مازال فهمنا للدماغ البشري ناقصاً. بالرغم من ذلك، احتمالية تفسير العقل، والوعي، ولو كان بشكل بخيل، داخل أطر علوم الأعصاب الحيوية، كما نفهمها الآن، يظل ممكنا؛ أرى أنه لا يجدر بنا التخلي عن هذا الأمل، إلا إذا استنفدنا، كل طاقات علوم الأعصاب الحيوية، و أنا لا أتخيل أن مثل هذا الاستنفاد ممكن في الوضع الحالي!
حدسنا يخبرنا أنه لا وجود لامتدادات فيزيائية، لهذا الشأن الزئبقي، المتملص، المتعلق بفهم الدماغ. أعتقد أن هذا الحدس، حدس خاطيء، وأعتقد أنه آتٍ من محدودية فهم تلك الذات التي لا تتسلح بالمنطق والعلم، التي أسلفت ذكرها. ربما مثل هذا الحدس، لا يجدر بنا احترامه، بالطريقة التي ندرك بها الآن أنه لم يكن يجدر بنا احترام الحدس القوي، الذي سبق كوبيرنكس[size=10][21]، عما تفعله الشمس بالأرض، أو الحدس القديم، القائل بأن العقل يقطن داخل القلب![/size]
الأشياء ليست كما تبدو دائما. الضوء الأبيض، يتكون من ألوان قوس قزح، رغم أن العين المجردة لا تراه هكذا![size=10][22][/size]