- اقتباس :
أي واقع نعيش فيه اليوم ، لقد أصبحنا حائرين بين عوالم عديدة يصعب الفصل بينها ، بين العالم الداخلي للإنسان، و عوالمه الخارجية المركبة و المعقدة ، وهذا التركيب و التعقيد راجع أساسا إلى اللعبة المتوحشة التي يمارسها الجنس البشري لعقود .
إن أي محاولة لفهم ما يقع ألان من تبعثر و فوضى في عالمنا الخارجي ، لا يمكن ان يفسر من وجهة نظرنا المتواضعة ، إلا من خلال مجهودات العقل البشري للسيطرة على كل جوانب الحياة من حولنا .
هنا سنطرح السؤال التالي : ما غاية الإنسان من التقنية ؟ هل من أجل الفهم والسيطرة على الطبيعة ؟ أم أن غايته منها هي السيطرة على الإنسان نفسه و توحيد سلوكه و أنماط عيشه ؟
لقد كان الهاجس الكبير الذي سيطر على المجتمع الغربي في العصور الحديثة هو السيطرة على الطبيعة في مختلف جوانبها، و تسخير خيراتها و مواردها في يد الإنسان، بعد أن كانت مصدر الرعب الذي يهدد وجوده .
غير أن هذه السيطرة ستتحول في القرون القليلة الماضية من السيطرة على الطبيعة ، إلى السيطرة على الإنسان نفسه ، فأصبح الإنسان مهددا في وجوده و ماهيته ، ليس من قبل الطبيعة فحسب ، بل من بن جنسه الذي صار يأكل الأخضر و اليابس بفضل التقدم التكنولوجي و تطور أبحاث العلم و التقنية في مختلف التخصصات و المجالات.
هذا التطور المهول في التقنية ، مكن الإنسان من فهم أكثر الأشياء تعقيدا في عالمه ، فتغيرت نظرته للكون من حوله . هنا ستندمج عوالم الإنسان ، و ستتعدد النظريات و التصورات ، سيعرف الجنس البشري تحولات جذرية في مختلف الأصعدة سواء في الأنظمة المعرفية و التصورات النظرية ، أو من خلال تطبيقات العلوم و التجارب المتعددة ، مما سيسقط الإنسان المعاصر في متاهة معقدة من الدلالات و التأويلات حول عالم يصعب الخروج منها .
هنا ، سنحاول الوقوف على عنصر مهم و هو : الغاية ، غاية الإنسان و خصوصا الإنسان الغربي، ما دام هذا الأخير هو المتحكم و لو ظاهريا في مختلف سيناريوهات و أحداث عالمنا المعاصر ، و باعتباره الموجه و المتحكم في السياسات الخارجية لمختلف دول العالم .
إن ما يحكم نظرة الإنسان الغربي في تصوراته حول العالم ، هو النموذج المادي ، و لا شيء سوى المادة ، باعتبار أن الكون في أصله مادي ، إذن، لا يمكن النظر إلى الأشياء أو للإنسان نفسه خارج هذا الإطار أو النموذج النهائي .
هذا التصور المادي للكون ،و باعتبار الإنسان جزءا لا يتجزأ منه ، سينتج عنه إنكار مختلف أبعاد الإنسان الأخرى ، الأخلاقية و الروحية و النفسية ، بل و حتى الاله نفسه ، وسينظر إلى الانسان هو الأخر جزءا من عالم الأشياء .
و بالعودة إلى النظام الرأسمالي الذي سيعمل به الغرب ، نظرا لسقوط الأنظمة الاشتراكية ، سيجد الإنسان نفسه في تحكم تام لمنطق واحد ألا و هو منطق السوق ، و سيتحول العالم كله إلى ما يشبه " سوبير ماركت Supermarchés" كبير ، تحكمه نظريات اقتصادية و مصالح الدول الأكثر تقدما.
هذا المنطق السوقي و التفكير المادي اللذان سيطرا على الإنسان الغربي ، و كدا التطور المهول في التقنية، سينتجان أنماط حياة جديدة ، و سيتخلى الإنسان في وسط هذه الفوضى عن عالمه الواقعي و الروحي طالما ألفه منذ عصور غابرة ، و سيبحث عن عالم أخر و الذي سيجده في عالم افتراضي من صنع الإنسان نفسه، عالم أو واقع أخر حسب هوكينغ محاكي في مواقع الانترنيت مثل Second Life .
إن هذا الضياع في المعنى ، و العبثية التي يعيشها الإنسان المعاصر ، سببهما حسب تصور عبد الوهاب المسيري راجع الى انهيار الأساس الأول الذي من خلاله نضفي المعنى على الأشياء، فمن خلال الضربات المتتالية التي وجهها الإنسان الغربي ، إلى الكلي المطلق (الاله) أساس كل شيء ، ومن خلال إعلان موته عبر أطروحة فلاسفة ما بعد الحداثة و الارتياب ، (نيتشه ، فرويد ، ماركس ، و صولا الى الى تفكيكية ديريدا )، و فكرة النهايات ، وبعدها موت الإنسان و نهاية التاريخ حسب طرح فوكوياما .
ليس هذا سوى غاية و رغبة أكيدة و توجه عام سار على دربه الإنسان الغربي في إنكار الأساس الذي يضفي المعنى على الأشياء ، حيث بإلغاء هذا الأساس ، يتبخر المعنى و تتلاشى فكرة الكليات و المطلقات ، و ينتشر العبث و الاصطناع، وتصبح حياة الإنسان المعاصر بلا معنى ، و تنخرط في أشكال جديدة من المعاني المصطنعة حسب طرح بودريار ، واقع أخر مختلف تماما تمت صناعته تكنولوجيا و فتراضيا ، حيث أصبحت الصور الافتراضية تحمل معناها الواقعي ، فاختلط الحقيقي بالمزيف، و أصبح الافتراضي المزيف ، يحمل معنى الواقعي الحقيقي.
إن هذه العبثية في التفكير البشري، خصوصا المجتمع الغربي ، لا يعبر في نظرنا سوى على توجه عام نحو السيطرة على العالم و توحيد المجتمعات المختلفة ، و فرض تصورات عدمية على مختلف الأجناس البشرية ، من أجل نشر قيم و أساسات زائفة لا تعبر في نهاية المطاف سوى على نوع من البربرية ، و البدائية ، و هذا ما يتضح جليا من خلال النظر إلى قيم الغرب و التي تصبح تدريجيا قيمنا، و ممارساتهم التي تلخصها شعارات الديموقراطية و الحرية ، و التقدم و الرخاء ، و حقوق الإنسان ، و ما تحمله هذه الشعارات على أرض الواقع من تفسخ مجتمعي ، وانتشار الحروب و الإبادات الجماعية للجنس البشري ، إضافة الى عودة ثقافة التعري و الجنس الإبداعي و الإباحية و الايروس الذي يعتبر أساس هذا العصر.