تريد
هذه المقالة أن تكون وقفةً جادةً على تجربة الشاعرة و الساردة الفلسطينية :
سمية السوسي ثلاثينية العمر ، والتي حظيت باهتمام ، وتربية بالمشاركة ، من
بعض الأفراد والمؤسسات الثقافية . وقد مثّلت ، كونها شاعرة مميزة ، غير
مرة ، بلادها ، للمشاركة في عدة فعاليات ومهرجانات شعرية محلية وعربية
وعالمية . كان صدر للسوسي ، بالترتيب : " أول رشفة من صدر البحر "، عن
اتحاد الكتاب الفلسطينيين بغزة - 1998 ، وجاء الإهداء ) : إلى من علمني
كيف تكون الكتابة ) ؛ تلى ذلك : مجموعة " أبواب " الصادرة عن دار " ميريت "
بمصر- 2003 .. وقد حل مكان الإهداء موقفُ مواقف النفري : " فلكَ إلى كل
شيء باب ، وليس لشيء إليك باب " . وأما مجموعة : " وحدها وحدي " ، فصدرت
عن دار " سنابل " أيضاً ، بمصر - 2005 . وجاءت بلا إهداء ، فكان الدخول
مباشرة لنصّ : " أراكَ فيّ " . . أيضا ، هناك مخطوطة ، كما أعلم ، ولعلّها
صيرت إصداراً ، وهي بعنوان : " فكرة ، فراغ ، أبيض "، نُشر كثيرُها في
العدد22 خريف 2003 ، من فصلية " مشارف " الحيفاوية .
ولكنني أودّ أن أشرك في هذه الورقة الشاعرة صباح القلازين ، التي اختبأت في
ظرفها الاجتماعي ؛ نظراً لأهمية عنواني مجموعتيها : " اعترافات متوهجة " -
1998 ، و " نوافذ " – 2002 . تتألف هذه الأخيرة ، ذات الموضوعات
والتقنيات البسيطة فنياً ، من عشر نوافذ - قصائد وأربعة عشر قصيدة أخرى
تتراوح بين القصر والطول ؛ كلها تطلّ على مشهد رومانسي ولا تغادره ..
كالبحر والانتظارات المصحوبة بانكسارات روحية : " من يجبر كسر روحي " .
داخل هذا الحدّ والمدى تكتب القلازين عن الغياب والرسائل التي لا تصل
والأبواب الموصدة وثقوب الروح ، والحبيب الذي لا يجيء .. ولا يغادر طرحها
لشكوى الجسد بين المقدمة العامة والنتيجة العامة : " الباب يطرق في المساء /
نار الحكاية تشتعلُ " . (ص40 ، امرأة تراوح الضباب ، نوافذ ) فكما نلاحظ
الفاعل هنا مبني للمجهول ، والنتيجة نارٌ الحكاية تشتعلُ . وهنا نلمس
ابتعاد القلازين ، وهي الراوية للوعتها ، عن التجسيد ، منحازة للتجريد .
وهو الانحياز الذي يستحق الإدانة لانطوائه على افتعال من ذات ملتزمة
وكابحة للانفعال الخلاق . إن استخدام لغة التجريد واللغة الرمزية اليقظة من
قبل القلازين يكشف عن ذات محافظة وملتزمة ؛ تناكفها رغبة مقابلة تدعو على
التمرّّّّّّّد والخروج . ما يتجلى في " نوافذ " هو شغف أو شبق ذات تركن إلى
التجريد: " والنوافذ المشغولة بشبق الانتظار " (ص25) .. " أقدّ معطف
الانتظار .. " ، إذ هي ذات تُقبل على فعل التمرد والخروج وفقاً لمتنفّس
المخيلة ، مكتفية بتعيين المعطف كرمز أو قربان . ولكننا سنرى انتساب المعطف
إلي كلمة الانتظار الفضفاضة ؛ وبذلك يكون قد انتصر التجريد بحضوره على
الجسد المتخفّي أو المنكبت حَذراً وذعراً وراء الجوّ الرومانسي العام : "
أقدّ معطف الانتظار ، أدخل عباءتك المحاطة بالنورس " ( ص30 ) في حين تقبل
سمية السوسي على تجسيد ممارسة الحبّ في سيرة تبدأ بالشَقّ ، أو الانشقاق
على المكان ، وتنتهي بالبرود ، في وصفٍ جاهز لعملية غريزية سريعة وجاهزة : "
أشقّ ثوب المكان كخطيئة أولى / ترتجف اللعنة / تنطفئ المشاعل في لهفتي /
يغلفني البرود " (ص79 ، أبواب ) . وفي الغالب ، فإنّ إقبال القلازين على
التجريد نابع من التزام أخلاقي ، على نحو اجتماعي ورومانسي ، يسمح بالحلم
ولكن يقمع كل رغبة تجنح إلى الواقع : " أريد شالاً من نجوم / وقميصاً من
مطر / أريد بحراً من بنفسج / يضيئه لنا ألف قمر / أريد منك غابة من لازورد /
ومقلتين من سهر / وبعدها خذني وطر " ( ص 19) و قليلاً ، ما نصغي إلى صراخ
مباشر في نصّ القلازين ، فتسأل : " من يكسر هذا القيد المطبق حول الجسد " (
ص30 ) هنا ، بالضبط ، يتعاظم دور سمية السوسي ، لتجيب ، بدورها ، على
السؤال القارّ في كل امرأة مكبوتة ؛ مُفردةً مشروع كتابتها الخاصة لمواجهة
الذعر بالفضيحة . إنها نموذج مَحلّي ، غير مثالي ، كما سنرى ؛ نموذج لجسدٍ
تخلّص من الذعر ، جسد يتشمس بشكل مثير على سطح اللغة . إذاً ، تفارق صاحبة :
" اعترافات متوهجة " صاحبةَ : " أول رشفة من صدر البحر " ، لأن الأولى لا
تغادر الرومانسية الشفيفة ؛ في حين تركب الثانية البحر وترشف أوّل رشفاتها
الجريئة منه . مع العلم أن سنة إصدار المجموعتين – 1998- توحّد المختلفتين .
ولكن ما يعنينا هو " نوافذ " ، لوجود علاقة جوار دلالي وإشاري بينه وبين "
أبواب " . مع الانتباه للتجاور الزمني بين " نوافذ " - 2002 و " أبواب " -
2003. وأيضاً ، كاستثمار تأسيسي سوف نعمد إلى سحبِ عنوان القلازين : "
اعترافات متوهجة " على كتابة السوسي بوصفها اعترافات مثيرة للغرائز .
مع "
أبواب " السوسي ، أول خدعة يقع في إسارها المتلقي المتداول للعنوان وعبارة
الاستئناس وعناوين التقسيمات الداخلية ؛ هو الاعتقاد بأنها تفتح أبوابها
الشعرية على التجربة الصوفية والفلسفية . ما سنعلمه بالقراءة سيكون
الإجابةَ التي ستساعدنا للتحرر من خدعة الاعتقاد السريع والخاطئ . كما
سيعوزنا التحلي باليقظة والصدق والدقة خشية السقوط في خدعة اعتقاد آخر :
خدعة الكتابة المطروحة باعتبارها شعراً . لكن ، هناك هي تعلن – ربما
للإبقاء على خدعة الاعتقاد سارية – أنها تكتب نصوصاً . هي فعلت ذلك عندما
استبدلت كلمة " شعر " بكلمة " نصوص " على غلاف إصدارها الثاني " أبواب " .
ولكنها أبقت على كلمة " شعر " تماماً تحت العنوان في الصفحة الداخلية
الثانية بعد الغلاف . وهذا ضرب من ضروب الخداع ، أو هي سياسة لضمان المخرج
بجعل الباب موارباً ؛ لا هو مفتوح بالكامل على يقين الشعر ، ولا هو مقفول
بالتمام على فضاء السرد . ولعل ناقداً يعتبر المداراة صيغة ذكية للجمع بين
الأجناس ، رائياً أنها مناسبة لاختصار خدعة الاعتقاد بكلمة " حداثة النص " .
وقد يطلع علينا آخر ليحوّل خدعة الاعتقاد إلى جماليات " مكر النصّ الحداثي
" ، و هو ما سيبقى البابَ مفتوحاً لانتماء وتنصّل السوسي معاً ، فيما
يتعلق بالكتابة الشعرية الراهنة . في الإصدار الثالث : " وحدها وحدي " تبرز
كلمة " نصوص " في الصفحة الثانية بعد الغلاف ، تماماً تحت العنوان . وأما
مجموعتها الأولى : " أول رشفة من صدر البحر " فقد احتفلت بجدارةٍ ، وقتها ،
بكلمة " شعر " التي توسطت بين العنوان وتوقيع المؤلفة . وكان الرائع جاك
دريدا قد تحدث عن ثلاثة أنماط من التواقيع : اسم المؤلف الذي يظهر على صفحة
العنوان ، وهو يحيلنا إلى شخص الكاتب . ثم الأسلوب بالمعنى الاصطلاحي
للعبارة أي فرادة الكتابة : ( طول الجمل ، المبنى التركيبي ، استخدام
الاستعارات ..) ، وهو يسمح بالتعرف على مؤلف النصّ . وأخيراً عندما يقوم
النصّ نفسه بتسمية نفسه نصاً ( النصّ الذي يوقّع نفسه ) .. ولكي يكون
التوقيع فعالاً علينا أن نعهد للقارئ المفترض بمسؤولية قبول استلام هذا
النص ، والتصديق على توقيع النصّ ، وتوثيق التوقيع مـِن تعرّف القارئ على
جنس النص ( ص29، مشارف عدد26 ) . إذاً ، قد يتعذّر علينا ، في هذه المناسبة
، توثيق التوقيع ؛ لأننا نجد أنفسنا أمام كتابة توقّعها السوسي مرّة
بوصفها نصوصاً ، ومرّة بوصفها شعراً . لذا ، فإنني أقبل استلام إصدارات
السوسي بوصفها أبنية تسترعي المجيء على تعريف دريدا " للتفكيكية " : بإيجاز
، هي تحليل شيء مَبنٍ ، وبالتالي ليس طبيعياً ، مثل ثقافة أو مؤسسة أو نص
أدبي أو نظام تفسير للقيم . والتفكيك ليس هدماً وليس إجراءً سلبياً ، لكنه
تحليل نسبي ( خاص بسلسلة النسب ) لبنية تم بناؤها ونرغب في تفكيك طبقاتها
المتوضعة بالترسب ، وفي فهمها بفضل الطبقات التي تؤلفها من الأعلى إلى
الأسفل " ( ص25 ، أعلاه ) . في " أبواب " السوسي ، هناك مفارقة ، تتبدّى في
إفساد النصوص لبهاء وجمال العناوين الداخلية من مثل : " حين يفضي الباب
على باب " (ص23) ، " حذاء واحد في لوحة شاسعة " (ص59) ، " ما نشاء من
الغبار " (ص67) . هذا الإفساد قد يدفعنا لنعتبره خلاقاً كونه يَمُنّ ،
علينا ، بصلاحية وجمالية العناوين . مع مجافاة النصوص المدانة بالبؤس ،
والخلاعة ؛ حيث يتّسع الانفصام بين عناوين تشي بالصوفي والفلسفي الوجودي ،
ونصوص يفسدها الترهل والإسراف والدوران في حلقة الغريزة المفرغة من سمو
الروح واقتصاد الكتابة . فحتى في كتابة التفاصيل شعراً أو سرداً يحتاج
الأمر إلى الاقتصاد الفني . ! ولا شكوى من الغموض الذي هو ليس من أسباب
غربة القارئ ؛ الغربة جمالية وروحية ، لأّن النصوص نزّاعة إلى الغرق في
تفاصيل مستمدة من سيرة المكان والأشياء والحالة البائسة الساخنة ، بمعزل عن
الشعر والذعر . الشعر ليس حاضراً كما راه عباس بيضون عندما قال : " الشعر
عدوى للأشياء وليست جوهراً ، أي أن الشعر لا يوجد بحد ذاته أو ككيان مستقل ،
بل كطاقة ومحفّز "(القدس العربي ، 22/12/2006 ) . الجسد في نصوص السوسي
يستعين بوصف الأشياء لتفريغ طاقاته فما نرصده رسمٌ وتسجيل لخطوات الخطيئة
من تسلل إلى المكان : المصعد ، الكهف ، البيت المهجور .. وهناك الاسترسال
في تصوير ووصف المكان والأشياء وصفاً يمهّد لتجلي الفضيحة وإتمام الحكاية !
إنّ إقراراً يَتسرّب ، عفواً ، من الكاتبة في أثناء توجهها بهذه السطور
إلى الآخر الماثل أو المحفوظ في الذاكرة أو المتخيل : " أهي الغربة ؟
تعريفك لها يشبهك / هي لا تشبه اثنين / تسرقها أبجدية أخرى / لا تعجبها
التراكيب / تعيد تذوق الحروف " (ص77 ، وحدها وحدي) هذا الآخر على تنويعاته ،
بنظرنا ، هو القارئ الذي يعاني من الغربة الروحية والشعرية التي يشعر بها
تجاه النصوص . هنا نجد الإجابة على سؤال : " أهي الغربة " ، وقد تجلت في
التشابه بين الآخر القادم من الكتابة أو النص ، وبين تعريف الغربة الذي
بادرت به السوسي : " تعريفك لها يشبهك " ، فكلاهما: الآخر والتعريف متورطان
في حالات متشابهة من الغربة . من هنا الكتابة لا تشبه اثنين لا الصوفي ولا
الفلسفي ، لا هي عدوى ولا هي جوهر ؛ لأن أبجدية أخرى تسرقها .. وسوف نأتي
على تفصيل هذه الأبجدية ، لنتحقق من حالة الإخفاق المتسببة في غياب عدوى
الشعر لأشياء النصوص ؛ سيرافق ذلك الإخفاق اهتزازٌ في اليقين والسمعة ..
وعندها سيسقط النص مجلوّاً عن خدعة الاعتقاد التي تنسبها السوسي للحداثة ،
والنص المفتوح . لو كان يجوز للقديم أن ينسخ الجديد ، لكانت : " أول رشفة
من صدر البحر " نسخت الكلام اللاحق في إصدارات السوسي ، ولكن من الممكن أن
تشفع البدايات ، وأن تظل بينما هي كذلك ، تسدد البؤس للشاعرة التي تلام حدّ
الإيلام ، لانزلاقها عن المستوى الجيد . كانت البداية على مستوى الفن
وتذوق القارئ مقبولة ومهضومةً وقريبة . وسيعاد الاعتبارُ للتجربة ، عندما
نقرأ في أول رشفة ، أو أوّل رعشة من صدر الشعر .. هناك كانت اللغة أكثر
انسياباً وارتفاعاً وملامسة لأسئلة الشعر الفنية ؛ أكثر نضجاً وأنوثة ، لا
أكثر جسديةً . فقصيدتها : " نبوءة الخريف " المكونة من ثلاثة مقاطع معنونة
بالأحرف الثلاثة ( أ ، ب ، ج ) هي برأينا " نبوءة الربيع " ، بالنسبة
لتجربة الشاعرة وتجربة القارئ . لقد نمت عن أبجدية شعرية لو قدر لها التمسك
بنبوءاتها لكان الوضع أفضل مما هي عليه صراحة وخلاعة " أبواب " وما
يتبعها . ولنتأمل هذا الشاهد من نصّ : " نبوءة الخريف " ، وقد امتلكت
الشاعرة قدرة على إعطاء الكلمة طابع الأنوثة والشعرية ، فيما الرغبة
والكلمة في تنادٍ ارتقى ؛ ليكون الصوتُ كتابةً ترفع الجسد شعرياً لمستوىً
جيد : " حين يبدأ الحديث / تفكفك الغريبة أزرار شهوتها ، ترتدي إزارها
المرمري / تحلم بنصف حكاية / بصياد يلقنها أنوثة المعاني / وبعض التفاصيل
اللازمة لاجتياز النهار / ما أصعب تفسير الكلام / حين يكون أول ما يميزها
الرغبة في الغرق " (ص 53 ) كذلك ... " لماذا أحبكَ ؟ / أعطيك نهدي / تعلمه
كيف تكون الأنوثة / كيف يكون امتلاك المساء / أو تظل وحيدا / كسلّم أعياه
السحر في عيون / الجرار الممتزجة بطعم الحريق " (ص56 ، ما لم تقله الجدة ) .
أما نصوص " أبواب " و " وحدها وحدي " و " فكرة فراغ أبيض " فتنطلق من
كونها حكاية لها سطح منخفض عليه مواقف وإقامات أو منامات من تتشمس عليه : "
أراكِ تتشمسين ، سطح الحكاية منخفض " (ص65 ، وحدها وحدي ) ولـِمرّات
عديدة سنرى موقف حرف ] أ [ على السطح ، الذي تأسس حضوره في " أول رشفة من
صدر البحر " ، في " نبوءة الخريف " النص الأول ؛ عندما اختارت السوسي
الأبجدية بدلاً من الرقمية لعنونة مقاطع نصوصها : " تتملكك لذة انسياب
الفكرة / ومذاق الحرف الأول الملتف حول برودة الصفحات النائمة " (ص18 )
اختيار الحرف الأول ، إذاً ، ينطوي على أوالية حاضرة على هذا السطح أو
الصفحات النائمة . وهو ما يُصعّد الجسدية ، وينشر الكتابة على السطح
المنخفض . وفي هذا المتسع الخطر بين " الاختلاف " بوصفه ذريعة السوسي
اللفظية للتمرّد والتحرر ، وبين سقوطها المتكرر ، نجدها " كالعادة تختلق
أعذاراً لتسقط " (ص62 ، مشارف ) ومنذ السطور الأولى لنصّ : " فكرة فراغ
أبيض " الفكرة هي السقوط والتيه في عبودية المذاق . هناك : " الحكاية أكبر
من روايتها " ، وهناك إشارة إلى خسارة الجسد ، اللعبة : " أسقط ككرة عاندت
مداراتها " (ص81 ، أبواب ) ، يصاحبه إصرار على التواصل . بين التواصل
والسياق يحتد صراع بين الداخل والخارج يفضي بالسوسي إلى تمثّل صورة الضحية .
ولا تخجل أن تفاجئنا بمعاناة تسرّها في نفسها ؛ وهي تَطلّع الكرسي العتيق
إلى النساء بوصفهن أشياء عليه . ولعمري هذا إظهار غير متسق مع عبودية الجسد
لواحدية الحرف والشمس . وهنا نشير إلى أن الكاتبة ، ربما ، هي ، الأكثر
استخداماً ، وعلى نطاق واسع في نصوصها ، لكلمة " السياق " . وربما حتى
تتساوى باستخدامها ، للكلمة ، مع خمسة نقاد مدعويين للتحدث حول " السياق " !
فهي تستخدم تراكيب نقدية من قبيل خارج السياق ، خارج الإطار ، خارج النص ،
داخل السياق .. والسؤال ما درجة الوعي النقدي ؟ لا توجد درجة قدر ما أن
السطح الذي يتشمس عليه الجسد يهيئ لها الرموز الصوفية والمفاهيم الفكرية
لإفراغها من دلالاتها الكبرى وإشباعها بدلالاتٍ الإيلاج . الجنس لديها هو
العبودية ، هو الأيديولوجيا التي تنتسب لها . وهي تجافي اللغة = المجتمع .
إنّ : " النصوص تأتي رغماً عن أنف اللغة " . إنها تفتح أبواب جسدها على
لغة الكتابة : " إليك أعود مرتاحة مني . كم كان مرحا هذا النهار ، لم يحتمل
صرختي ، جدران الحديث أصابها الخجل . وحدي كنت أعدو صوب غابات الألم . كنت
أصرخ من جديد وتردد معي نفس النشيد . هل وصلنا معا ؟ ونضحك من جهلنا
لتفاصيل الحوار ، من عجزنا اللغوي المفرط في القدم ، من صوت فراشة عشقت
ليلتها الأولى في تخاريم الضوء الجميل . لا أجيد الكلام ، أحكي ما ترغب في
سماعه أجهل لغته . (ربما يكون الخلل تربويًا ) ما من رقيب ، لكني لا أقدر
على الكلام . أحاول الكتابة ، لغة الجسد أكثر صراحة مني . لكنك في النهاية
تريد أن تسمع ، أقدر ظرفك المعرفي الذي يبدأ هنا وينتهي في غابة من
الحوارات . كيف تقاس المعرفة ؟ لن أوجه هذا السؤال لم ، من يجد نفسه في هذه
الزاوية يفضل الانسحاب " (ص65 ، مشارف ) . وهكذا تترك السوسي : " الملابس
خارج النص ، كذلك الحروف " (ص35 ، أبواب ) . أيضاً ، في نصّ " الطرف الآخر
" دعوة : " أتركي عنك هذه الملابس الغريبة / لا تخشي أن تظلّي عارية /
تخافين الغوص في بحرك الهازئ من مقاهي اللغة " (ص63 ، أبواب ) . الشعر لا
يتربع فوق الجسد = القصيدة . هناك تتربع الأشياء فوق الكرسي العتيق أو
السرير . من ذلك يجب أن ندرك الفرق الشاسع ونحدده بين أزمة الجسد داخل
الكلام عن الجسد ، وبين نضوج الشعر وكلامه عن الجسد .
نقرأ
في " أبواب " هذه البداية ، وقد أرادتها السوسي متمردة ومنشقة ، ووفية
بتحيزاتها ، للانفتاح على طقوس التدخين الحر بترميزاته وتقليعاته وتمظهراته
بين الشفتين . الأمر الذي يحجب الشعر عن القارىء بدخان السوسي الهستيري .
أو أنه لا يوجد شعر لتحجبه الهستيريا ! فقط سينصرف القارىء لإبصار الصور
إبصاراً تخيليا أو استدعائها من ليلة حمراء أو فيلم إباحي ، فيما هو يسمع
بعينيه ما يقال أو يكتب باسم الشعر . دائما نتمنى أن نرى ابن رشيق بحسّه
النقدي الرشيق ، لاسيما قوله : الصورة ما تقلب السمع بصراً . فماذا نرى غير
ما أرادت أن تنقله لنا صور النص ذات النزعة الخلاعية ؟ إن كلام ابن رشيق
في إطاره الفني السامي لا ينطبق على ما تقدّمه السوسي من صور تثير الجزء
الأوسط من كل الإنسان . وهل هذه الصور أو المشاهد الموجهة لإيقاظ الغرائز
هي ما تنتسب في جرأتها إلى قيم الانفتاح والتحرّر والارتقاء بالخروج على
السياق / المجتمع ؟ لكن ، تنجح النصوص في إحداث الجلبة ، وربما هذا النجاح
ما دفع بشاعر للتعبير عن سعادته وفرحته بالكتابة الايروسية التي وصلت إليها
المرأة الشاعرة في غزة ؟!!! نحن لا نلمس الشعر قدر ما نسمع آلة الرفع
المستخدمة لإقامة الأبنية والمؤسسات الكلامية الفارغة والعاطلة فنياً .
كلام الغريزة ، إذاً ، هو إرادة القوة التي تدفع ذراعاتها وسيقانها لبناء
برج ما ، أو بناية نصية تَدعي الاختلاف والخروج عن السائد والماثل داخل
اللغة . وفي الوقت الذي نحن نبصر آليات البناء عبر اللغة ، نحن نسمع ،
أيضاً ، الطرق العالي على أبواب البناية أو المؤسسة النصية المنهدمة برفض
الذوق لها . لكن ، هناك مؤسسة وعنوان : " أبواب " . ولكل باب مفتاح ، فمن
شاء " فله إلى كل شيء باب وليس لشيء إليه باب " ! ودائما سنرى السقوط الحر
عن مستوى الجودة ؛ يوازيه سقوط حر وفضيحة حرة في النصوص بذريعة الاختلاف
والخروج على السياق . هذه لقطة نشاهدها تحت حرف ] ز [ ، كما لو أننا أمام
مقطع مجاني من " فيلم ثقافي " حسب تداول الشباب المصري لهذه الشفرة
الشائعة : " شتاؤك الفضي بنثر سحابته الصغيرة / أين أنت يا شفتي ؟ " ( ص15 ،
أبواب ) .. وهناك الكثير من الصور المُعلّقة أو المثبّتة بحروف أو مسامير
في " الباب الأول " من نصوص " أبواب " ! ... هكذا يبدأ الباب الأول من
أبواب السوسي بحرف ] أ [ وينتهي بحرف ] ز [. ولكن ، من أجل الحق ، يمكن
ملاحظة درجات ما من التطور الذي يصاحب " وحدها وحدي " ، على صعيد البنية
الرمزية والدرامية والسردية داخل النصوص الكبيرة ، ويبقى الخيط موصولاً
بذات المحرّك القديم ، وملتفّاً حول الحرف الأول . كما يتكرر الحال في
بداية : " وحدها وحدي " التي تشبه أو تماثل بداية : " أبواب " . نص : "
أراك فيّ " هو الشبيه أو المثيل ، لكونه يتكون من ستة مقاطع ، كل مقطع
معنون بحرف ؛ ابتداءً من حرف ] أ [ وصولاً إلى ؛ ] خ [ - وربما هو
اختصارٌ لكلمة " خلاص " . إذن ، تكتب السوسي تحت ] أ [ : " لأنني أجهلني /
ينفتح باب ضيق في حفرتي / تضيع قدماي باتجاه أرنب صغير " (ص5) مع ضرورة
الانتباه إلى أن حرف ] أ [ هو أول حروف : " أ رنب صغير " ! هل نكتفي ، إلى
هذا الحد ، ونقفل الصفحة ؟ إنّ إصرار الكاتبة على العودة لا يمكننا من
إقفال الأبواب ؛ طالما أنها تبادر بالقول - مع استدراكها ما كانت تتجاهله ،
من غياب للروح ، وهي تجرد الحروف إلا من ترميزات قارة في مذاقاتها - : "
لأقفل هذه الصفحة وأعود إليك ، نتحدث عن العشق الذي يذبح الروح ويطرق القلب
بمسماره الوحيد " ( ص64 ، مشارف ) . هذا الذي يرد على جناح الخلاعة وسرعة
الابتذال يصلح أن ترسله مراهقة عبر خدمة SMS لآخر عشوائي أو آخر محفوظ في
التمني . وإذا ما كتبته لآخر متخيل ؛ فإنها تكون قد خصّت الفحل الكامن فيها
. وهذا يمكن أن نعتبره تعريجاً على فكرة الأنيموس التي تمثل أحد اشتراطات
الكتابة الجسدية ، بهذا الشكل والمستوى : " تكتنز بي / الجرة مازالت فارغة /
أحتاجك لتملأ الحكاية " (ص83 ، أبواب ) . لقد أغوت رسائل الهاتف النقال
الشاعر العراقي أسعد الجبوري ليكتب عملاً من رسائل شعرية قصيرة نشرت في أحد
المواقع الأدبية . وأذكر أنه جاء على سبيل المداعبة الحروفية بيني وبين
امرأة على Messenger ، أنْ كُتِبَ على بياض الشاشة : " مَسجٌ جميل " ؛ ما
كان منى هو قراءتي الكلمة الأولى بالمقلوب ، فحصلت ، في التو ، على " جسم
جميل " ! وربما هذه الخبرة ما تجعلني متفهماً عالم الكتابة لدى السوسي
المفتوحة على الآخر الالكتروني المتعدد ، كتعدد الحروف . ليصبح اختيار الـ
Pass Word عنواناً لأحد نصوصها ، وأبجدية واحدة : " أجدها لعبة مسلية /
أنا أيضا / كيف نخلق حالات متشابهة / تقصدين مزاجا للهرب من اليومي اللزج ؟
/ لا تغرني بالتواصل / أبجديتنا واحدة / لنا فقط / لتكن Pass Word /
للدخول إلينا / أخطاتِ / فينا " (ص60 ، وحدها وحدي ) . وتكتب سمية السوسي
تحت حرف ] د [ سؤالاً : " هل حملتك الحمائم هذا الشبق " (ص14 ، أبواب ) هنا
تغيب خدمة SMS ، تغيب التقنية والحداثة ، وتحل الحمائم ، البديل الطبيعي
الجمالي الذي يحيل على رومانسية ونوستالجيا لبدائيةِ حَمل وإيصال الرسائل .
غير أن السياق الغرائزي هنا يحط من قيم الحمائم وجمالياتها ؛ كون أن
المحمول والمرسل كلام أو بلاتوث أو مقطع لفيلم ثقافي . ولنتأمل هذه الحالة
من حالات الجسد المتشابهة : " صوت عجلة المحرّك القديم المزيّتة والسوداء
أكثر مما يجب يوقظني لأشعل النار . المطر يزداد عزفاً والريح في الخارج
تتوسل للدخول ، أعاندها ، تطرق الأبواب والشبابيك ، تحت لحافي الدافئ أبتسم
، فيما تغلي المياه . البياض يملأ المكان والمياه تنزل أكثر سخونة . لا
تخجل الريح من عريي تواصل الطرق وأواصل سكب الماء . (ص65 – 66 ، مشارف ) ما
نلاحظه أن الفحولة للطاقة في كل أحوالها في المشهد : عجلة المحرك القديم ،
الريح ، النار ، المطر . والبطولة للمتخيل أو الكامن ، فيما هي وحيدة
تبتسم وتنعم بالسخونة والغليان تحت لحافها . في هذه الكتابة يتبدى فرويد
كما لو على طاولته أو أريكته المشهورة ، يمارس تحليلاته النفسية التي
أوصلته لنتيجة واحدة ، وهي أن الجنس هو المحرك الأول / القديم في هذه
الحياة . مع أن ظاهر ما جلبته السوسي في سرديتها للحالة : " عجلة المحرك
القديم المزيتة " ؛ يحيل على أجواء التقنية والاقتصاد والطاقة . وهنا نلمس ،
للوهلة الأولى ، ماركس الذي رأى أن الاقتصاد هو المحرك الأول . إذاً ، ما
دخل رأس المال والاقتصاد والطاقة في كتابة لا تقتصد ، وكل رأس مالها هو
الإسراف في بناء النصوص بلغة مفرغة من الشحنات الطاقة الشعرية ، بلغة
تنتسب لعالم الوصف والتفصيل في الروايات الايروتيكية . إنّ الأيديولوجا
الخاصة أو الأبجدية الواحدة لدى سمية السوسي ، تريد أن تشير ، أيضاً ، إلى
أنها أصداء لأصوات أو محرّكات وأبجديات قادمة من الروايات الايروتيكية من
مثل : " أحد عشر دقيقة " باولو كويلهو ، و " العطر" لباتريك زوسكيند ، "
بيت الجميلات النائمات " لـ باسوناري كاواباتا ، أو " ذكريات عن عاهراتي
الحزينات " لماركيز . هناك الحضور الكثيف لأشواط هامة وكذلك للرائحة
والامتزاج وطقوس الممارسة في النصوص التي أذابت وتذوقت رصيد لا بأس به من
الكتابات الجسدية ، وجائز أنها تنزهت في " الروض العاطر في نزهة الخاطر "
للإمام العلامة الهمام سيدي محمد النفزاوي .. ولو تأملنا هذا الشاهد التالي
لرأينا أن المخاطب هو " غرنوي " بطل رواية " العطر " : " تقنعك قبعة امرأة
بالسير ، هذا أول الطريق / تحفظ المشوار / تتورط فيها ، في كل مرة /وحدك
تتبع الرائحة . (ص23 ، وحدها وحدي ) !
نشرت
في القدس العربي 2