أقلام فكرية
الطريق الثالث third way يقع بين طريق الاشتراكية socialism وطريق الرأسماليةcapitalism ، بين اليسار left واليمين right .. ولقد تولد مصطلح "اليسار" ومصطلح "اليمين" عن الحياة البرلمانية الفرنسية في مستهل القرن التاسع عشر، عندما اعتاد الملكيون أو المحافظون أن يجلسوا جماعة إلي يمين رئيس الجلسة , وتجمع المصلحون الدستوريون والانقلابيون إلى يساره . وفي هذا إشارة رمزية لها دلالتها , لأن " اليسار " على وجه الإجمال يريد أن يدفع الأهداف الديمقراطية للثورة الأمريكية والثورة الفرنسية حتى تتحقق على أكملها , ويريد " اليمين " إجمالا مجتمعا أقل من ذلك ديمقراطية بدرجة كبيرة . وهذه الخطوط العريضة التى ترسم الفوارق بين هذين المصطلحين لا تكفي – بطبيعة الحال – لقياس ما في الآراء من تعقيد حتى في السياسة . وذلك لأمر واحد وهو أن الوسط الذي نقيس منه اليسار واليمين ليس نقطة محددة واضحة لأن الجذب الديمقراطي بين مثل الحرية والمساواة موجود دائما . كما أن المثل الأعلى للأمن يزيد الأمر تعقيدا .. غير أن التقسيم إلى اليسار واليمين – برغم هذا – كوسيلة للتمييز بين الجانبين قد ينفعنا وبخاصة إذا لاحظنا أن خط التقسيم منحن يمكن أن يكون دائرة كاملة فيلتقي الطرفان . ومما يلفت النظر في السنوات الأخيرة من الجمهورية الفرنسية الثالثة أن الملكيين والشيوعيين وهما في المصطلح السياسي يمين متطرف ويسار متطرف , كثيرا ما صوتوا في جانب واحد في مشكلة معينة (1) ومهما يكن من أمر فإن جيدنز يحاول عبر مؤلفاته أن يجسد التعارض القائم بين " اليسار " و " اليمين " ويدعو إلى الانصراف عن الجانبين التماسا لطريق ثالث وهو يري أن الطريق الثالث وسيلة لتحقيق التقارب بين الاشتراكية أو اليسار وبين الرأسمالية أو اليمين .
وبالنسبة للاشتراكية يري جيدنز أن أصولها ترتبط بالبدايات المبكرة لتطور المجتمع الصناعي منذ حوالي منتصف القرن الثامن عشر وحتى أواخره . وقد كانت الاشتراكية في بدايتها بمثابة بناء فكري يعارض النزعة الفردية individualism في حين ظهر اهتمامها بتطوير نقد للنظام الرأسمالي في فترة لاحقة . وقبل أن تدعي لنفسها معنى محددا شديد التخصيص بقيام الاتحاد السوفيتي اختلط مصطلح الشيوعيةcommunism بشدة مع مصطلح الاشتراكية حيث سعى كل منهما إلى تأكيد أولوية الاجتماعي أو المجتمعي . (2)
وكانت الاشتراكية تمثل في المقام الأول موقفا فلسفيا وأخلاقيا . ولكنها أخذت قبل ماركس بوقت طويل تصطبغ بصبغة المذهب الاقتصادي economic doctrine . بيد أن ماركس هو الذي زود الاشتراكية بنظرية اقتصادية محكمة . هذا فضلا عن أنه وضع الاشتراكية في إطار تفسير شامل للتاريخ . وقد شارك الاشتراكيون جميعا ماركس موقفه السياسي , بغض النظر عن مدى حدة خلافاتهم الأخرى معه . فالاشتراكية تسعى إلى مواجهة نواحي القصور في الرأسمالية بغرض إضفاء صبغة إنسانية عليها أو الإطاحة بها تماما . وتنهض النظرية الاقتصادية للاشتراكية في فكرة مؤداها أن الرأسمالية إذا ما تركت وفقا لآلياتها , فإنها – الرأسمالية – تتسم بعدم الكفاءة الاقتصادية بسبب ميلها إلى خلق تمايزات اجتماعية وعجزها عن إعادة إنتاج نفسها على المدى الطويل . (3)
ولقد كانت النظرية الاقتصادية للاشتراكية تتسم دائما بالقصور وعدم الكفاءة، من حيث تهوينها من قدرة الرأسمالية على التجديف والتكيف وزيادة الإنتاجية باضطراد . كما أخفقت الاشتراكية أيضا في فهم أهمية الأسواق باعتبارها آليات للمعلومات تزود الباعة والمشترين ببيانات أساسية . ولم تنكشف هذه النقائص إلا مع تعاظم عمليات العولمة والتغير التكنولوجي التى بدأت منذ السبعينات . فطوال الفترة من منتصف السبعينيات وقبل انهيار الاتحاد السوفيتي بزمن طويل، أخذت الديمقراطية الاجتماعية تواجه بصورة متزايدة تحدي فلسفات السوق الحر وعلى وجه الخصوص مع نشأة التاتشرية والريجانية التى يمكن وصفها بشكل أدق بتعبير الليبرالية الجديدة . ولقد كانت فكرة تحرير السوق تبدو في فترات سابقة، وكأنها تنتمي إلى الماضي، إلى عصر تم تجاوزه . وهكذا عادت أفكار كان ينظر إليها الكثيرون باعتبارها خارجة عن المألوف , مثل أفكار فريدريك فون هايكfriendrich von hayek - الداعية البارز للسوق الحر – ونقاد آخرين للاشتراكية من دعاة السوق الحر، عادت فجأة لتصبح قوة يعتد بها. وقد مارست الليبرالية الجديدة قدرا ضئيلا من التأثير في أغلب دول القارة الأوربية بالقياس إلى التأثير الذي مارسته في المملكة المتحدة والولايات المتحدة واستراليا وأمريكا اللاتينية . وإن كانت فلسفات السوق الحر قد أصبحت مؤثرة في القارة الأوربية، شأنها شأن أماكن أخرى . (4)
وتتسم مقولات الديمقراطية الاجتماعية والليبرالية الجديدة باتساع نطاقها واشتمالها على جماعات وحركات وأحزاب ذات قناعات وتوجهات سياسية مختلفة . وتستند الليبرالية الجديدة إلى تيارين أساسيين، أكثرهما أهمية هو التيار المحافظ ( أصل المصطلح هو اليمين الجديد ) . وقد أصبحت الليبرالية الجديدة بمثابة الرؤية الفكرية للعديد من الأحزاب المحافظة في كافة أنحاء العالم . ومع ذلك فإن ثمة نمطا هاما من التفكير يرتبط بفلسفات السوق الحر التى تتبنى، على خلاف التوجه المحافظ، موقفا تحرريا فيما يتعلق بالقضايا الأخلاقية والاقتصادية في نفس الوقت. فعلى العكس من المحافظين التاتشريين يميل أنصار التحرر علي سبيل المثال إلى دعم الحرية الجنسية أو عدم تجريم المخدرات . (5)
ويقصد جيدنز بتعبير " الديمقراطية الاجتماعية " الإشارة إلى الأحزاب والجماعات الإصلاحية اليسارية الأخرى، بما في ذلك حزب العمال البريطاني british labour party . ويري أن النظم الديمقراطية الاجتماعية تتباين فيما بينها بدرجة كبيرة، ومع ذلك فإن الديمقراطية الاجتماعية الكلاسيكية والليبرالية الجديدة يمثلان فلسفتين سياسيتين متميزتين ويلخص جيدنز الاختلافات بينهما على النحو التالي :
أ- الديمقراطية الكلاسيكية " اليسار القديم "
تقوم على :
• التدخل الشامل للدولة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية .
• النزعة الجمعية .
• إدارة الطلب بالأسلوب الكينزي بالإضافة إلى النزعة المؤسسية.
• دور محدود للأسواق ,واقتصاد مختلط أو اشتراكي .
• نزوع قوي نحو المساواة .
• دولة رفاهية شاملة تحمي المواطنين " من المهد إلى اللحد " from cradle to grave
• مسار تحديثي تقدمي .
• وعي بيئي منخفض .
• النزعة الدولية internationalism .
• الانتماء إلى عالم ثنائي القطبية .
ب – التاتشرية أو الليبرالية الجديدة ( اليمين الجديد )
يقوم على :
- دور محدود للدولة .
- مجتمع مدني مستقل ذاتيا .
- نزعة سوقية متطرفة .
- نزعة تسلطية أخلاقية بالإضافة إلى نزعة اقتصادية فردية.
- سوق عمل حر مثل أي سوق أخر .
- القبول بعدم المساواة .
- نزعة قومية nationalism تقليدية .
- دولة الرفاه كشبكة أمان .
- مسار تحديثي تقدمي .
- وعي بيئي منخفض .
- نظرية واقعية حول النظام الدولي .
- الانتماء إلى عالم ثنائي القطبية . (6)
وفي ضوء هذه الاختلافات لاحظ جيدنز حرص الديمقراطية الاجتماعية الكلاسيكية على ضرورة تدخل الدولة في نظام السوق (فالدولة ملزمة بأن تتيح السلع والخدمات العامة التي لا يمكن للسوق أن يقدمها , أو لا يمكنه أن يقدمها بصورة ملائمة ) وفي حياة الأسرة ( فالمزايا التي تقدمها الدولة ذات أهمية حيوية لمساعدة الأسر المحتاجة ) . وربما كان أعلى منظر في نشأة دولة الرفاه في المملكة المتحدة كعبا هو ت . هـ . مارشالmarshall والذي قدم عرضا مفحما لهذا النموذج . وفي رأيه أن دولة الرفاهية تمثل قمة عملية تطورية طويلة لحقوق المواطنة.(7)
ولقد وجدت الديمقراطية الاجتماعية الكلاسيكية من الصعب عليها أن تتوافق مع الاهتمامات الإيكولوجية ecological concerns .فتأكيدها على النزعة المؤسسية، وسعيها للتشغيل الكامل , وتأكيدها المتعاظم على دولة الرفاه جعلها غير قادرة على التعامل مع القضايا الايكولوجية بطريقة متسقة . فضلا عن أنها كانت تفتقر – من الناحية العملية – إلي نظرة كونية قوية .لقد كانت الديمقراطية الاجتماعية ذات توجه دولي , حيث كانت تسعى إلى خلق وحدة تضامنية بين الأحزاب السياسية ذات التوجهات المتشابكة , عوضا عن مجابهة مثل هذه المشكلات الكونية . ومع ذلك فقد ارتبطت بقوة نظام الثنائية القطبية حيث احتلت مركزا وسطا بين نزعة الحد الأدنى من الرفاهية الأمريكية والاقتصاد المختلط للشيوعية .(8)
أما وجهة نظر الليبرالية الجديدة ينبع من " الحكومة الكبيرة الحجم ". فلقد عبر الأب المؤسس للنزعة المحافظة في بريطانيا ادموند برك edmund burke عن كراهيته للدولة , والتي إذا ما توسعت إلى أبعد ما يلزم لابد أن تتحول إلى العداء للحرية والاعتماد على الذات . وقد كانت النزعة المحافظة الأمريكية تكن العداء منذ أمد بعيد للحكومة المركزية . واستندت التاتشرية على هذه الأفكار , فضلا عن الشكوك الليبرالية الكلاسيكية حول دور الدولة التى نهضت على مقولات اقتصادية حول الطبيعة الأعلى تفوقا للأسواق . وترتبط أطروحة الحد الأدنى من تدخل الدولة ارتباطا وثيقا برؤية مميزة للمجتمع المدني يجب أن تتاح لها فرصة النمو والازدهار، ولن يتحقق هذا إلا إذا امتنعت الدولة عن تعويقها . (9)
ولهذا يري الليبراليون الجدد أن مصدر النظام في المجتمع لا نجده ماثلا أساسا في التفكير ولا في الحساب والتخطيط العقلانيين من جانب الدولة أو أي جهة أخرى . ذلك أن المجتمع له بمعنى خاص , كيفية عضوية . بيد أن هذه الصفة وليدة تأزر عفوي غير متعمد بين أفراد كثيرين يعملون وفاء لمتطلبات دوافعهم الخاصة . وإن الأسواق التي تعمل على نحو جيد هي المثال الأول والأساسي لذلك , وهي المرتكز الرئيسي للنظام الاجتماعي العفوي. ومثل هذا النظام الاجتماعي ليس مقصورا على الساحة الاقتصادية. وتمثل نظرية النظام العفوي المصدر المباشر المقيد المنوط بالحكومة في مذاهب اليمين الجديد . إذ تقرر أن الهدف الرئيسي للحكومة ليس ( إنتاج أي خدمات أو منتجات بذاتها ليستهلكها المواطنون ) وإنما أن تراعي أن آلية تنظيم السلع والخدمات تعمل وتدار على نحو صحيح . وهنا تكون رسالة الاقتصاد التنافسي إلى الحكومة ما يلي : ابتعدوا ذلك أن تدخل الحكومة حتى وإن جاء بحافز أنبل الدوافع قابل لأن يخلق على الأقل نفوذا بيروقراطيا إن لم نقل استبدادا وطغيانا . (10)
ويذهب أنصار الليبرالية الجديدة إلى القول بأن من فضائل المتجمع المدني إذا ما ترك يعمل وفقا لآلياته " خلق الشخصية الصالحة , والأمانة , والإحساس بالواجب , والتضحية بالذات , والشرف , والخدمة , والانضباط , والتسامح , والاحترام , والعدل, وتنمية الذات , والثقة , والكياسة , والجلد , والشجاعة, والنزاهة , والاجتهاد , والوطنية , واحترام الآخرين , والاقتصاد والتوفير . والدولة، وعلى الأخص دولة الرفاه، تعمل على تدمير النظام المدني .(11)
وإن حدود دولة الرفاه , في رأى الليبراليين الجدد , فاضحة وواضحة لكل ذي عينين . وتشوبها عيوب كثيرة من بينها أنها تفيد الأكثر ثراء دون الأقل، وتخلق مزيجا غير مقدس من الوحوش البيروقراطية وتواكلية الرفاهwalfare dependency . (12) فدولة الرفاه تعد مصدر كل الشرور بذات القدر الذي كانت تمثله الرأسمالية ذات يوم في أعين اليسار الثوري . وما ينهض بعبء تقديم الرفاهية إذا ما قمنا بتفكيك دولة الرفاه هو النموذج الاقتصادى الذى يقوده السوق . فالرفاهية لا ينبغي أن تفهم على أنها منحة تقدم من الدولة بل بأنها تعظيم للتقدم الاقتصادي، ومن ثم لمجمل الثروة من خلال السماح للأسواق بان تحقق معجزاتها. (13)
وهكذا استعرض جيدنز منطلقات كل من الاشتراكية والرأسمالية او اليسار واليمين ثم نجده يقدم نظريته حول الطريق الثالث فما الذي يقصده " جيدنز " بالطريق الثالث؟
يري جيدنز أن مصطلح " الطريق الثالث " ليس خلقا جديدا في حد ذاته فقد استخدمه من قبل كثيرا عبر تاريخ الديمقراطية الاجتماعية social democracy كتاب وسياسيون ذوو مشارب سياسية مختلف كل الاختلاف . (14)
الخميس مارس 24, 2016 11:03 am من طرف نابغة