ينحدر اصل الفيلسوف الهولندي باروك سبينوزا (1632 – 1677) من عائلة يهودية مهاجرة من اسبانيا في القرن السابع ميلادي. في بداية دراسته انكب على دراسة الكتب التاريخية والدينية لبني قومه واظهر نباغة عالية في فهم مواضيعها، مما جعل كبار الكنيست اليهودي ان يعلقوا امالا كبيرة عليه، حيث توقعوا ان يصبح علامة كبيرة في تاريخ الشعب اليهودي المضطهد والمهاجر بين دول العالم في حينها. لكن بعد ان هضم الكتب الدينية اليهودية وتاريخها واطلع على افكار الفلاسفة اليهود الكبار من امثال ابن ميمون وليفي بن جيرسن وابن عزرا وكتب ابن جبريل الصوفية، تأثر اخيرا بفكرة الحلولية التي كانت عند موسى القرطبي، الذي ادعى وحدة الله والكون المادي، فرشقه مجمع الكنيست اليهودي بالحرم بعد ان فشلت كل المحاولات معه ان يعود عن ضلاله (1). طرده والده من البيت وصلى الجموع المؤمنة في الكنيست وطلبوا من الله انزال الللعنات عليه، ومقته المسيحيون من البروتستانت والكاثوليك على الرغم من ان معظم فلسفته كانت حول الله، اما ارثذوكس اعتبره هرطوقي. اما صديقه الفيلسوف الالماني لبينتز الذي كان مدين الكثير، ابعد نفسه منه ولم يذكره بكلمة من مدح له.
لكن هذا الفيلسوف لقد اظهر قوة تحمل منقطعة النظير، حيث تحمل الانسلاخ من بين قومه ومقاطعتهم له تماما، فعاش وحدة قاتلة بلا رحمة حينما وجد نفسه مطرودا حتى من بيت ابيه وعائلته، لقد لاقى ضربتين متتاليتين في وقت واحد، وهي فصله عن بني قوميه ومجتمعه وخسارته لعقيدته الدينية. فشبه الكاتب والمؤرخ الكبير الامريكي ول ديورانت حالته كمن تُجرى له عمليتين جراحيتين في ان واحد.
قضى ثلاثة وخمسين سنة من عمره في حياة بسيطة جداً، حياة متقشفة في طعامه وملبسه. يقال ان بعد رفض التراجع عن افكاره الفلسفية تمت محاولة القضاء عليه، لكنها فشلت فاضطر الى تغير اسمه من باروك الى بندكت والتنقل من امستردام الى هوكو، والعيش بقرب من عائلة مسيحية التي كانت تساعده وتعد له الطعام. اثبت طوال عمره ان المال لا يؤثر عليه على الرغم من فقره وملابسه المهلهلة احيانا.