يمكننا أن نجد بين آراء علماء الاجتماع الكلاسيكيين أو الجيل الأول منهم
مثل : سان سيمون، أغوست كونت، كارل ماركس، إميل دوركهايم، ماكس فيبر
وآخرين، قرائن تشير بشكل مباشر أو غير مباشر إلى ظاهرة "توحيد العالم"،
وتعدّ هذه القرائن كلّها من أسباب زوال الحدود، أو إضعاف البلدان وعولمة
نوع خاص من الفكر والثقافة، مثل : الثورة الصناعية وعلم الاجتماع، التطوّر
الذهنيّ للبشر وتحقّق مرحلة الوضعية، الاقتصاد الرأسمالي، مراحل التطور
العقلانية والتحديث.
ولكنّنا نشير هنا إلى أشخاص اهتمّوا بشكل جليّ بظاهرة العولمة، بعد النصف
الثاني من القرن العشرين، وتكلّموا عنها. ولكي نفهم وجهات النظر المتعدّدة
المطروحة في هذا المجال ونقوم بتحليلها بشكل أسرع، قمنا بتقسيمها إلى
مجموعتين :
أ) وجهة نظر "العامل المنفرد" : 1) ماك لوهان : كتب هذا المفكّر في كتابه "مفهوم وسائل الإعلام" (1) عام
1964، عن مصطلح "القرية الكونية" وكان أوّل من استخدم هذا التعبير. وبشكل
مختصر قسّم التاريخ إلى مرحلتين تشبهان إلى حدّ ما نظرية "الوحدة
الميكانيكية والهيكلية" لدوركهايم. كانت المرحلة الأولى التي يمكن تسميتها
بالمرحلة القبلية (العشائرية) مبنيّة على تقنية اللغة الحوارية، وتقنية
دواليب الآبار، وكانت ثقافة الناس تتمّ بشكل شفويّ وتنتقل تجارب الأشخاص
على نحو سريع وبشكل جماعيّ بينهم. وقد بُنيت المرحلة الثانية، والتي
نسمّيها المرحلة الصناعية، على تقنية الكتابة والأجهزة، وانتشار ثقافة
الناس بشكل أسرع، فهي مكوّنة على نحو مكتوب وسمعيّ بصريّ، ويستطيع الأشخاص
في المناطق البعيدة أيضاً أن يشاركوا الآخرين تجاربهم.
يرى ماك لوهان العامل الأساس في هذا الأمر في تطوّر وسائل الاتصال،
استخدام الورق، الدواليب والطرق، واعتبره أنطوني غيدنز في ما بعد في فراق
الزمان عن المكان. يعتقد لوهان أنّ عاملين مهمّين للعولمة ظهرا في المرحلة
الثانية. حيث أنّ "العامل الأوّل" هو الساعة الميكانيكية، التي غيّرت مفهوم
الوقت للإنسان، وبدأ في تقسيم العمل على أساس تقسيم الوقت(2). "والعامل
الثاني"، هو استخدام النقود، حيث زادت من سرعة وحجم العلاقات بين الناس.
ولكن في العصر الجديد، يعني بداية من النصف الثاني للقرن العشرين، ظهرت
وسائل اتّصال إلكترونية تروّج الثقافة العشائرية على مستوى واسع جداً
وعالمي، بشكل تدريجي. وتعدّ السرعة من أهمّ مقوّمات هذه الثقافة لأنّ
الاتصال الإلكتروني فوريٌّ وآنيٌّ يربط الأماكن المختلفة ببعضها البعض
ويجعلها تعتمد على بعضها البعض أيضاً. تشكّل الكهرباء شبكة عالمية من
الاتصالات وهذه الشبكة هي أشبه بالجهاز المركزي لسلسلة أعصاب البشر. وتسمح
لنا سلسلة الأعصاب هذه أن ندرك العالم ككلٍّ وأن نجرّبه. لقد سبّبت الآثار
المسرّعة للاتصالات الإلكترونية والحمل والنقل السريع تشكيل نظام سمّاه ماك
لوهان "ثورة المعلومات".(3)
بالطبع هو لم يشر بشكل مباشر إلى ظاهرة العولمة، ولكنّ تطور وسائل
الاتصال واتساعها هما في رأيه عاملان أساسيان في توحيد العالم. فتأثّرت
وجهات نظر المحققين الآخرين وبالأخصّ تفسير غيدنز للعولمة بشكل كبير بنظرية
"القرية الكونية " لـ لوهان.
والبعض الآخر من المنظرين لا يرون جذور التطوّر التي انتهت بتوحيد
العالم، في الخيارات العقلانية وذات معنى عند البشر. بل إنّ من يقرّر مصيرا
موحّدا للمجتمعات العالمية، في نظرهم، هو سلطة الأسلوب الإنتاجي الموحّد
على العالم. يعتبر هؤلاء، وقد تأثّروا بأفكار ماركس، العولمة توسّع النظام
الاقتصادي – الاجتماعي الرأسمالي نفسه، إلى المناطق القصية في العالم. ونجد
من بين هؤلاء المفكّرين : اسكير، والرشتاين، وفي العالم العربي سمير أمين.
ويُعدّ والرشتاين المفكر البارز بين هذه المجموعة، ونكتفي بذكر رأيه لشرح
وجهة نظر هؤلاء المنظرين.
2) والرشتاين : يربط العولمة بالتطور التاريخي للنظام الرأسمالي في إطار
نظرية "النظام العالمي"، ويقوم بتحليل القضايا متأثّراً بماركس، بالجانب
الاقتصادي بشكل عامّ وبالاقتصاد الدولي بشكل خاص. وبكلام مختصر يعتبر
والرشتاين انتشار النظام الرأسمالي وتعميمه عاملاً أساسياً في ظاهرة
العولمة. والمفهوم المحوريّ لنظرية والرشتاين حول العولمة هو "النظام
الاجتماعي". وما يعطي شكلاً وماهية للنظام الاجتماعي، هو وجود تقسيم عمل في
داخله. يضمن هذا التقسيم للعمل استمرارية حياة النظام، وأيضاً يسبب
الاعتماد المتقابل للعناصر المشكلة لهذا النظام. بعبارة أخرى، يجعل تقسيم
العمل في نظام اجتماعي الأقسام والمجالات المختلفة فيه مضطرّة إلى التبادل
الاقتصادي من أجل التلبية التدريجية والمستقرة لحاجاتها.
يصنف والرشتاين الأنظمة الاجتماعية إلى ثلاث فئات : الأنظمة الصغيرة،
الإمبراطوريات العالمية، والاقتصاديات العالمية. ويرى أنّ الاقتصاديات
العالمية تحوي عدّة كيانات سياسية ذات ثقافات متباينة (الدولة القومية).
وفي اعتقاده أن النظام العالمي الحديث أو النظام الرأسمالي هو أول نظام
اجتماعي يتوسع عالمياً. ويغيّر المنطق الاقتصاديّ الحاكم لهذا النظام
العالم بمجمله، تدريجيّا، إلى مكانٍ للتخزين غير المحدود للرأسمال ويجلب
نوعاً من تقسيم العمل العالمي.(4)
3) جيمس روزنا (Rosenau،J) : هو عالم سياسي أمريكي وأحد منظري القضايا
العالمية، ويمكن أن نقول إنّه يطرح عاملاً واحداً لظاهرة العولمة، أو
يعتبره عاملاً أساسياً ومحورياً في نظريته.
المفهوم الأساس لروزنا في هذا المجال هو الاعتماد المتبادل"تكافل - تضامن"
(Interdependence) عن طريق التطور التكنولوجي. ونظريته تتلخّص في أن تطوّر
المعلومات سبّب الاعتماد المتبادل الشامل في النظام العالمي ويسمّيه
"العولمة". في اعتقاده أنّ الاعتماد المتبادل للدول جعل السياسات فوق
الدولية تحلّ محلّ السياسات الدولية، وجعل الدول مضطرّة إلى تقبّل شركاء
جدد باسم المؤسسات الدولية، والشركات والحركات "فوق القومية" لسيادتها
الاحتكارية. ويصرّح روزنا في كتابه (السياسة فوق الدولية) (Post
international politics) حيث شرح فيه العولمة بشكل واضح، إن التطور
التكنولوجي يسبب تغيير مرحلة مهمة في العلاقات الدولية ويعد مصادر هذا
التغيير على هذا الأساس :
لقد قللت مرحلة ما بعد الصناعة وبهدف تطوير تقنية الميكرو إلكترونيك
وتوسيعها الفواصل الموجودة في كوكب الأرض، وهيّأت إمكانية النقل السريع
للأفراد، والأفكار والمصادر في العالم بأجمعه.
- ظهور قضايا متعلّقة بكوكب الأرض يكون الاهتمام بها وحلّها خارج هيمنة
كل هذه الدول وقوّتها.
- ضعف قدرة الدول على حلّ المشكلات على أساس القوة القومية.
* ظهور تكتلات فرعية جديدة وقوية جداً في المجتمعات القومية.
* ازدياد مستوى الاختصاصات، التعليم، وتقوية إمكانية ردّ فعل المواطنين،
حيث قلّلت من تلقي الضربات أو ضعفها أمام هيمنة الحكومة.(5)
ومن بين هذه الأسباب تعتبر "ديناميكية التكنولوجيا" من الأسباب المهمة
الأخرى.
4) روبرت غيلبين (Gillpin) : من العلماء الذين ينظرون من زاوية سياسية
إلى العولمة، مع أنه لا يغفل عن المجال الاقتصادي لهذه الظاهرة، وفي رأيه
أن للعولمة جذورا في الأسباب السياسية، لأنّ الهيكلية السياسية المحدودة
تحتاج إلى إعمال سيطرة على الأنظمة السياسية للعالم، وذلك لتأكيد الحصول
المنظّم على المصالح، ويتمّ تنفيذ هذه السيطرة من قبل السلطة المهيمنة.(6)
والأسلوب الذي يفسّر هذا الأمر هو :
سيغيّر توسّع الرأسمالية العالم إلى سوق استهلاكيّ موحّد. ويفسّر وحدة
سوق الاقتصاد العالمي عن طريق تطور النظام الرأسمالي المتكئ على منافسة
السوق. ويضيف : إن تنافس السوق واهتمام المؤثرين بالتغير النسبي للأسعار
يقودان المجتمع إلى ازدياد مجال الاختصاصات، ذات فائدة وقابلية التأثير،
وأخيراً وبشكل محتمل إلى الوحدة الاقتصادية في المستوى العالمي.(7) باعتقاد
غيلبين أنّ السوق الرأسمالي، والأبعاد المسببة لهذا السوق يتقدّمان بشكل
سريع في جوّ الثبات الجيوبولتيكي. إنّ الثبات بمفهوم النطاق عملاً يضع
الاقتصاد السياسي الدولي تحت سلطة وهيمنة قوة عظمى. وإذا كان من المفروض أن
ينجح هذا السوق، ففي هذه الحالة يجب أن تكون لديه رؤية ليبرالية وليست
دكتاتورية. لهذا "وجود قوة ليبرالية مسيطرة هو شرط لازم (وليس كافياً)
لنموّ تكامل سوق الاقتصاد العالمي.(8)
لذلك فمن وجهة نظره وجود عامل القوة السياسية أمر ضروري لنمو العولمة.
وحتى على حدّ زعم ماك غيرو، فإنّ غيلبين يتقدم خطوة أخرى، ويرى المنطق
والعامل الرئيسي في أمر العولمة سياسياً وعسكرياً. وفي اعتقاده أنّ العولمة
تبرز غالباً في المجال الاقتصادي، ولكنّ قوّتها الأساسية مع ذلك تنبع من
السياسة. بعبارة أخرى تتشكّل العولمة في الأساس مع منطق سياسي، أو صعود
القوى المهيمنة في النظام الدولي وانهيارها. نرى في تاريخ النظام العالمي
وفي ظل صعود القوى المهيمنة وسقوطها، ارتقاء عملية العولمة أيضاً
وانحدارها. ومثالاً على ذلك أن أقوى مرحلة لأمر العولمة تتقارن مع أوج
القوة المهيمنة للولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية.
ب) وجهة نظر "العوامل المتعددة" : بشكل عام يشير الفكر
الحاكم في علم الاجتماع وأكثرية علماء الاجتماع إلى أنّ الظواهر الاجتماعية
معقّدة جداً ولديها أبعاد وعوامل متعددة، والقليل فقط من علماء الاجتماع
يستند في تحليل الوقائع والظواهر الاجتماعية إلى عامل واحد. هنا نكتفي برأي
اثنين من المفكرين:
1) أنطوني غيدنز: وهو من أبرز علماء الاجتماع في عصرنا، ويرى العولمة
باعتبارها أحد آثار الحداثة أصلاً (9) ، ويشير إلى أمور متعددة كأسباب
ظهورها، وهي تُلخّص في ثلاثة عوامل:
أ) سبب تطوّر وسائل الاتصالات الجماعية هو انفصال الفضاء والزمان عن
المكان، وهذا بدوره يؤدّي إلى نموّ شبكة العلاقات البشرية على المستوى
العالمي.
ب) إنّ الرأسمالية التي هي سمة أغلب الدول الأوربية بعد المرحلة
الإقطاعية، أدت إلى ظهور مجتمعات حديثة. والرأسمالية بحدّ ذاتها تميل إلى
العولمة، والنظام الاجتماعي الحديث يميل إلى النموّ والتعميم.
ج) النظام العالمي الذي هو نتاج اقتصاد الرأسمالي العالمي وتقسيم العمل
الدولي، يسود شيئاً فشيئاً على أنظمة الدولة القومية (10).
يستنتج مالكوم واترز بعد تحقيق في نظريات غيدنز عن أسباب العولمة
وماهيتها بأن "العولمة بوصفها آخر فكرة لغيدنز ليس لها أية استمرارية، وهي
عملية لها أسباب متعددة وعدّة طبقات ومليئة بالاحتمالات وعدم الجزم. يبدو
أن العولمة ظاهرة لا يمكن اجتنابها ولكن بما أنّ العوامل الملحّة التي تقود
العالم في طريق التحديث، تنحصر في أربعة مجالات مستقلّة نسبياً، فإن
النتائج الخاصة للعولمة لا يمكن التنبؤ بها. إنّ العولمة هي عملية تغيير
غير منسجمة، تجلب الاستمرارية والانسجام وتؤدّي أيضاً إلى الانفصال"(11).
2) رونالد روبرتسون: هو أيضاً يربط مثل غيدنز العولمة إلى تحديث العصر
الجديد، ويعتقد أن للعولمة ماهية ذات أبعاد متعددة وتميل إلى التعددية، وهي
ظاهرة يحتاج فهمها إلى رؤية متعدّدة الجوانب، ولها مجالات اقتصادية
وسياسية وثقافية (12). ويهتم هذا المفكر بمسألة الاطلاع على نهج العولمة
كثيراً، ويعد عامل الثقافة أساسياً في ظهور هذه الظاهرة.
وتم مناقشه ظهور ذلك الشيء الذي يسمّيه البعض النظام العالمي الحديث، في
الإطار الاقتصادي أو السياسي. أنا أريد أن أرتقي عن هذه النماذج، وأهتمّ
بالديناميات المستقلة للثقافة العالمية، وعامل الثقافة المعقّد الموجود في
قسم من نظريات النظام العالمي.
وخلافاً لجميع المحققين الذين يرون العولمة تتّجه إلى الاتحاد والتوحيد
الثقافيين، فإن روبرتسون يعتقد أنّ العولمة مقترنة بالتنوع والتعددية. وحتى
أن التعددية الثقافية هي أحد الأنماط المصححة للوضعية العالمية المعاصرة.
وفي رأي روبرتسون أن نهج التحقق والظهور التدريجي للعولمة مع النموذج
الذي يرسمه هو، يشمل خمس مراحل : المرحلة الجنينية – مرحلة الشروع – مرحلة
النهوض- مرحلة التعارض لقيادة العالم – وأخير مرحلة عدم القطعية. (13)
ويشير في هذا المنهج إلى قضايا تطوّر العلم والتكنولوجيا، السياسة،
الدين، الثقافة والاقتصاد، ويعد مفاهيم مثل "الفردية"، "البشرية "، " فعل
وردّة فعل بين أمر عالمي وأمر محلي"، ذات أهمية قصوى. «إن العلاقة بين أمر
عالمي وأمر محلي في العصر الحاضر يجب أن تندرج في مركز المباحث المتعلقة
بمرحلة العولمة وفهمها. هنا، حتى هذه المسألة هي بشكل مباشر استمرارية
وتوسعة موضوعية الثقافة العالمية والثقافات العالمية» (14).
ومن بين المفكرين العرب الذين يقولون بعوامل متعددة لظاهرة العولمة،
نكتفي بتقديم وجهة نظر محمود أمين العالم :
" يستعرض محمود أمين العالم الأسباب الفعلية لبروز ظاهرة العولمة، فيرى
أنها تحققت نتيجة ثلاثة عوامل موضوعية أساسية أولها : الطبيعة التوسعية ذات
التوجه الاحتكاري المتنامي لنمط الإنتاج الرأسمالي، والعامل الثاني : هو
فشل التجربة الاشتراكية السوفيتية وتفكيك المنظومة الاشتراكية العالمية
المناقضة للقطب الرأسمالي العالمي، والعامل الثالث: هو الثورة العلمية
الثالثة المتنامية منذ الحرب العالمية الثانية، والتي حققت منجزات
تكنولوجية في مجال الاتصالات والمعلومات وأزالت حدود المسافات المكانية
والزمنية، وضاعفت من قوى الإنتاج، وأدّت إلى اكتشافات معرفية ثورية
وتغييرية" (15)
الجمعة يونيو 25, 2010 2:22 pm من طرف بن عبد الله