0inShare
Share on Tumblrلو كان لنا أن نلخص الفلسفة الهيجيلية كلها في عدة عبارات، لكان في وسعنا أن نقول إن الحقيقة عند هيجل هي الكل، والفلسفة في رأيه لا أن تتمثل على شكل نسق علمي، والحقيقة الكلية أن الوجود الواقعي "صيرورة"، وليست الصيرورة هنا سوى عملية التناقض مع ما يقترن بها من سلب، والروح نفسها "تاريخ" والمطلق "ذات" لا مجرد "موضوع".
إن هيجل ينظر إلى الفلسفة كأنها الدين، جاءت من تمزق العالم، وفحواها كفحوى الدين هدفها التغلب على هذا التمزق، فهو بكل طيب خاطر يقارن عصره بالعصر الذي ولدت فيه المسيحية، ويتخذ مهمته كالمهمة التي اتخذها الدين المسيحي . إن ما يميز عصرا كهذا هو "وجود قطيعة في العالم الواقعي"، وكنتيجة ملازمة،انشطار الإنسان وتفككه، أي وجود قطيعة في وجوده الداخلي ووجوده الخارجي، حيث الروح لم يعد راضيا مرتاحا للحاضر المباشر .
هيجل يتصور توافقا للثورات السياسية مع ظهور الفلسفة، ليس بإقامة علاقة سبب بنتيجة بين الظاهرتين ولكن بإيجاد مصدر واحد لهما: "تمزق العالم وانقسام الإنسان".
الفلسفة الهيجيلية يمكن القول هي فلسفة العالم الممزق والبشر المزدوجين، فلسفة أصبحت في زمن غدت فيه الغايات الشخصية والغايات الإجتماعية ليست في توافق بل في تعارض دائم.
في مثل هذا العالم ليس بوسع الفرد أن يحقق فرديته، بوصفه جملة إنسانية حرة. إن عمله في أغلب الأحيان، ليس عملا حرا بل عمل تحت قسر الحاجة، عمل جزئي يقسم الإنسان ويشوهه، مما يجعل شغل الإنسان ليس هدفا وغاية في حد ذاته، بل هو مجرد وسيلة لغايات غريبة غامضة تحلق بعيدا فوق رأسه، وتسيطر عليه، كقوى لا يعرف مصدرها، كقوى من قوى الطبيعة، مع أنها مصنوعات الإنسان وانتكاراته، التي يطبعها طابع الاستلاب : مؤسسات قوانين معتقدات...، تلك هي مملكة اللاحرية التي يعطي عنها هيجل هذا الوصف الرائع: "الإنسان كفرد يجب عليه لكي يحمي فرديته أن يصير وسيلة في خدمة آخرين، وخدمة غاياتهم المحدودة الطليقة، وأن يستخدم آخرين كوسائل، كل فرد حي يجد نفسه في موقف متناقض قوامه أن يعتبر كلا ناجزا ومغلقا، وبالوقت نفسه أن يجد نفسه تحت التبعية لما ليس هو، والكفاح الذي يستهدف هذا التناقض، هي محاولات لا تفعل سوى إطالة مدة الحرب".
هذا التناقض يبحث هيجل عن وسائل لحله والتوفيق والمصالحة فيأتي لنا بوسائل الفن والدين والفلسفة التي هي درجات ثلاث للحرية، وبالأصح للتخلص من هذا التمزق.
في مستويات أعلى، الدين المسيحي والفلسفة لهما نفس الرسالة التوفيقية، ومن جهة أخرى إنه لأمر جدير بالذكر أن التطور الديني المسيحي لهيجل يرتبط ارتبطا وثيقا بتطوره السياسي.
لا يبقى للفلسفة إذن سوى أن تنقل في حدود الفكر الخالص ما يعلمه الدين المسيحي في شكل الصور الحسية والمدركة ذهنيا، الذي هو شكل التمثيل والأسطورة، ومن المؤكد أن ما يأتي به هو التوفيق، ولكن في عالم الفكر وليس في العالم المادي.
وتبعا لذلك فإن الوجود في نظر هيجل، لا يتطابق مع أي معطى من المعطيات، بل الأدنى إلى الصواب أن يقال إنه ليس ثمة معطى حسي ولا معطى عقلي. وأول فعل يقوم به الفكر البشري هو ذلك الفعل الذي يضطلع به حين ينكر المعطى أو حين يعمل على إلغائه سواء كان هذا المعطى هو العالم أو هو الذات نفسها.
تستطيع الفلسفة مثل الدين المسيحي أن تشحذ التناقضات الواقعية، ولكن لتتحقق بعد ذلك نحو أفضل، ومن جهة أخرى إن الفلسفة هي وسيلة غاياتها التهدئة في حضن هذا الواقع، وفي هذا التقاء العالم المثالي، إنها الهروب في الفكر، هنا ينفجر بأقصى قوة التناقض الأساسي لفلسفة هيجل: التناقض بين طريقته ومنظومته. فمن اكبر نقائض فلسفة هيجل هو التناقض بين سببين يولد عنه شيء ثالث، إن الفلسفة الهيجيلية أرادت لنفسها أن تكتمل لكنها انغلقت على نفسها فحملت في طياتها عدة تأويلات أساسية:
1- هناك من يتعلقون بمنظومة هيجل، وخاصيتهم تبرير الواقع للدفاع عنه وتكريسه، وأطلق عليها إيديولوجيا تبرير ماهو كائن .
2- آخرون حفظوا من تبريرات المنظومة إلا ما يتصل مباشرة بالمجتمع والدولة، بل ما يتصل بالتصور اللاهوتي، وهذا اتجاه بعض االاهوتيين الكاثوليك والبروتستانت.
3- أخيرا الماركسيون اللذين أخذوا كل شيء عن هيجل فبحثوا في الواقع ولم يبحثوا في التناقضات فخرجت بمنطق آخر أن تناقض الفكر لا يوجد فيما هو روحي بل فيما هو مادي واقعي، وللوصول إلى هذا التوافق الفكري تتحول الشروط المادية والتاريخية إلى مصدر للأفكار .
4-
هذا التصور للفلسفة وللنقد الفلسفي تعتبر كل فلسفة لحظة أو وجها من الواقع الكلي الجمعي، لحظة يجب أن نجردها من جزئيتها الأحادية المستأثرة لكي تستحوذ ها في حقيقة أكمل.
يبدو انه لفهم هيجل يجب التموضع في فلسفة وعي هيجل الذي هو وعي زائف لأنه أوقف التاريخ وجعل له نهاية .إذن إن التصور الذي يستبعد ويطرد الانتقائية يحكم على العصر ككل الذي هو تعبيره الروحي واعترافه بالواقع الكلي.
إن تصنيفه لأدوار التاريخ الفلسفية هو من ناحية ذو دلالة: فهو لا يستبعد فلسفات الشرق التي لا يكرس لها سوى بعض الصفحات في كتابه "الروح الظاهراتية”، باعتبارها ليست جزءا من الفلسفة بالمعنى الحقيقي، فلا يوجد في تاريخ الفلسفة سوى جزئين: الفلسفة اليونانية، والفلسفة الجرمانية. فالفلسفة اليونانية هي الفلسفة التي بدات مع طاليس . أما الجزء الثاني هو الفلسفة الجرمانية أي الفلسفة المسيحية حيث الذاتية حاضرة لذاتها، إنها تبدأ مع ديكارت، تبدأ مع الأنا المفكرة التي تشك ثم تحقق وجودها.
إن الفلسفة الهيجيلية تبدأ بتحديد مصير الإنسان بأطروحة تحمل عنوان "الصراع حتى الموت من اجل الإعتراف".. وذلك باللحظة الأولى من كتاب "الفيمينولوجيا"، وتنتهي بأخر لحظة من نفس الكتاب مع الحكيم بكتابه "الحكمة"، فالإنسان لا تكون رغبته إلا بالحياة البيولوجية فهي شرط ضروري للوجود الإنساني، هذا الشرط ضروري لكنه غير كاف يحتاج لشرط آخر، هو الرغبة في الاعتراف به من طرف الأنا الآخر لتنشب الحرب الضارية التي تنتهي في آخر المطاف باعتراف تام للأنا بالأنا الآخر لتفضيله الحياة على الموت ومن هنا تنشا جدلية العبد والسيد، فالعبد يبحث عن ما يخلصه من أوامر سيده الذي يقعد على كرسي السيادة ولا يصدر سوى الأوامر، فيصبح العبد حرا والسيد مقيدا... فهيجل يرى أن الفرق بين رغبة الإنسان والحيوان تظهر فيما يلي:
1- رغبة الحيوان هي إحساس لا يتجاوز ذاته كمعطى .
2- رغبة الإنسان وعي بالذات وليس هناك وسيط بين الإنسان وموضوعه فالرغبة تنصب على الرغبة ذاتها، أي ان الرغبة هي التحرر من الوجود.
يبدو أن الكلمة الاخيرة في ″فيمينولوجيا الروح″ هي المعرفة المطقلة التي يعبر عنها تصالح الروح المتناهي مع الروح اللامتناهي، وان من شأن هذا التصالح في إطار الدين أن يتخذ طابع الوجود في الذات.
ومن هنا فقد راح هيجل يعلن ان الفلسفة قد حلت محل الدين المسيحي بل تجاوزت هذا الدين فقد اصبح في وسع العقل الوصول إلى مرحلة الوعي بالذات من خلال التعقل الفلسفي . ومهما يكن من شيء فإن المصالحة التي كانت في حالة الدين موجودة في ذاتها، قد أصبحت الآن في حالة الفلسفة، إن لم نقل أنها قد اصبحت عملية خاصة يقوم بها الوعي نفسه وكأن الإنية الفردية هي التي تحقق حياة المطلق وهي التي تتعرف على ذاتها في صميم الوعي الذاتي الكلي.
ولو كان لنا أن نوجز القول في هذه المعرفة المطلقة التي يوصلنا إليها علم الظواهر لكان في وسعنا أن نقول هذه المعرفة هي بمثابة معرفة بالوجود والتاريخ في صميم حقيقتها الكلية بحيث تصبح الذات هنا هي والموضوع شيئا واحدا وصلا إلى درجة التماهي . إنها بعبارة أدق الفعل الذي بمقتضاه سيحدث الموضوع ذاته.
وقد لا يكون علم الظواهر في خاتمة المطاف سوى تلك المعرفة المطلقة التي تكشف الإنسان أو الفيلسوف عبر التعاقب المستمر في الزمان لأشكال الوعي المختلفة ولضروب التجربة المتنوعة، ويعني من خلال التاريخ الكلي لروح العالم.
وها نحن فد فرغنا من عرض الخطوط العريضة لسير تصور هيجل للفلسفة، إبتداءا من اليقين الحسي حتى المعرفة المطلقة، فقد بقي لنا ان نحكم على هذا الجهد الهيجيلي الضخم الذي أراد فيلسوفنا أن يقدم لنا أودية العقل البشري . ولكن مما لا شك فيه أن ظاهرية الروح فد عبرت عن طموح فلسفي هائل أراد بمقتضاه هيجل أن يستوعب كل تاريخ الوعي البشري.
أضف تعليق
يرجى ان يكون التعليق ذا علاقة بالموضوع دون الخروج عن إطار اللياقة،كما سيتم حذف التعليقات التي تتسم بالطائفية والعنصرية والتي تتعرض لشخص الكاتب.
نتمنى ان تعمل التعليقات على إثراء الموضوع بالإضافة أو بالنقد ....