تحديات المعضلة السورية د. أحمد يوسف أحمدظلت سوريا عبر التاريخ رقماً مهمّاً في سياسيات المنطقة، ويكفي أن نتذكر
الدولة الأموية ودورها في التاريخ الإسلامي، وفي التاريخ المعاصر يعتبر
كتاب «الصراع على سوريا» للكاتب الشهير باتريك سيل علامة على الدور
المحوري الذي لعبته سوريا في المنطقة في النصف الثاني من القرن العشرين.
ولقد تسبب عدم الاستقرار المتزايد في سوريا وصراع القوى الإقليمية والكبرى
في إنجاز الوحدة المصرية- السورية في عام 1958 حين رأت القوى القومية
السورية أن المخرج الآمن من هذا الصراع يتمثل في الارتباط بمصر التي كان
دورها الإقليمي القيادي في المنطقة قد بلغ ذروة غير مسبوقة في أعقاب
العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 والانتصار السياسي الذي حققته ضد هذا
العدوان، فضلاً عن بزوغ نجم قائدها عبدالناصر الذي صار الرقم الأول في
سياسات المنطقة بعد هذا العدوان وقبله معركته الناجحة ضد الأحلاف الغربية
وكسر احتكار الدول الغربية الكبرى لتوريد السلاح للمنطقة، وتأميم شركة
قناة السويس رداً على محاولات الولايات المتحدة كسر الإرادة الوطنية لسحب
عرضها تمويل مشروع السد العالي الذي كان يجسد آمال مصر الثورة في التنمية.
ثم كان الانفصال السوري بعد انقلاب عسكري في عام 1961 دليلاً على تأثير
الوحدة في الساحتين الإقليمية والعالمية، ولعبت السياسات المتطرفة لفريق
حزب البعث الحاكم في سوريا في مجال الصراع العربي- الإسرائيلي في منتصف
الستينيات دوراً أساسياً في التفاعلات التي أفضت إلى العدوان الإسرائيلي
على مصر وسوريا والأردن في عام 1967، خاصة بعد التحالف العسكري المصري-
السوري في عام 1966، وارتباط السياسة المصرية بالسياسات البعثية المتطرفة.
واعتباراً من عام 1970 وتولي حافظ الأسد السلطة في سوريا نجح في أن يجعل
منها بؤرة لتفاعلات المنطقة عامة وفيما يتعلق بالصراع العربي- الإسرائيلي
خاصة، ومثل تحالفه مع مصر في حرب أكتوبر عام عام 1973 دليلاً على الدور
السوري الجديد في عهده، واعتباراً من ذلك التاريخ بدأ هذا الدور القائم
على ما عرف لاحقاً بسياسات الممانعة يمارس تأثيره في المنطقة، وهو دور ظل
فاعلاً حتى تردت سوريا في تداعيات حركة المعارضة المسلحة في إطار ما عرف
بـ«الربيع العربي»، وعلى رغم أن النظام السوري قد امتنع عن استخدام الأداة
العسكرية في سياساته فإنه امتلك من أدوات التأثير الفاعلة ما جعله صاحب
دور في سياسيات المنطقة، وجاء على رأس هذه الأدوات تحالفه مع «حزب الله»
الذي استطاع بدوره أن يكون رقماً في تفاعلات الصراع العربي- الإسرائيلي
خاصة بعد نجاحه في إجبار القوات الإسرائيلية على الهروب عام 2000 مما سمي
بالشريط الحدودي الآمن الذي ظلت إسرائيل تحتله منذ عام 1978. وكذلك كان
تبني النظام السوري فصائل المقاومة الفلسطينية المتطرفة أداة مهمة للتأثير
الإقليمي في يد النظام السوري، وكانت السياسة الجديدة للرئيس المصري حينها
أنور السادات فيما يتعلق بالتسوية السياسية مع إسرائيل مناسبة لتعزيز هذا
الدور السوري الفاعل، ومثلت السياسة السورية ضد سياسة السادات الجديدة منذ
ذلك التاريخ حجر عثرة حقيقية ضد امتداد سياسات التسوية إلى المنطقة. ولم
تتراجع فاعلية هذه السياسة إلا بسبب المتغيرات الإقليمية والعالمية الكبرى
في ثمانينيات القرن الماضي، فمن ناحية مثل الانتصار التكتيكي للعراق في
الحرب مع إيران في عام 1988 سقوطاً للرهان السوري على بروز الدور الإقليمي
لإيران حليفة سوريا، كما مثل وصول جورباتشوف إلى سدة الحكم في الاتحاد
السوفييتي والسياسات التصالحية التي اتبعها على الساحة العالمية، وتداعيات
هذه السياسة على حلفائه الإقليميين وعلى رأسهم سوريا -مثل ضربة قوية
للسياسة السورية التي كانت تعتمد على الدعم السوفييتي القوي لسياستها
الإقليمية خاصة تجاه إسرائيل. وترتب على هذه التطورات اضطرار النظام
السوري للتصالح مع مصر وقبول سياسات التسوية السلمية، وتراجع تأثير هذا
النظام إلى حين. ومع تدهور الدور المصري الإقليمي على نحو غير مسبوق في
عهد مبارك، وفقدان هذا الدور أي تأثير بعد أن أصبحت السياسة المصرية تابعة
تماماً للسياستين الأميركية والإسرائيلية بدأ النظام السوري يستعيد
تأثيره، ويعود من جديد رقماً مهماً في سياسيات المنطقة عامة، والسياسة
العربية-الإسرائيلية خاصة.
وهكذا بدا المشهد السوري عشية امتداد ما عرف بـ«الربيع العربي» إلى سوريا،
وعلى رغم إخفاق النظام السوري في وأد المعارضة المسلحة له -وإن صمد في وجه
محاولات إسقاطه حتى الآن- إلا أن صمود حركة المعارضة في وجهه وتعرضه لتدخل
إقليمي وعالمي كثيف متعدد الأطراف قد قوض إمكانية استمرار الدور السوري
الإقليمي الفاعل، وثمة أبعاد محلية وإقليمية تؤكد هذه الحقيقة، فعلى
الصعيد المحلي أصبحت قوى سياسية محلية معارضة تقبل إزاء وحشية النظام في
مواجهة المعارضة بالتدخل الخارجي لنصرتها، وعلى الصعيد العربي تمثل
السياسات القطرية والسعودية دليلاً على التدخل العربي الكثيف في سوريا.
وعلى الصعيد الإقليمي يبرز الدور الإيراني باعتباره مصدر تأييد لاشك فيه
للنظام السوري، غير أن هذا التأييد من ناحية أخرى أدخل سوريا في بؤرة
التفاعلات الخاصة بالرفض الإسرائيلي والأميركي للسياسة الإيرانية خاصة
فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني و«حزب الله» الذي يمثل معضلة لإسرائيل
في المنطقة نتيجة تأييد كل من سوريا وإيران له.
وتظهر إسرائيل والولايات المتحدة قلقاً بالغاً من بعض الاحتمالات على
رأسها تحول سوريا إلى مركز للتطرف والقلاقل بعد سقوط نظام الأسد، وكذلك
عبّر وزير الدفاع الإسرائيلي عن اقتناعه بأن نظام الأسد سيخسر الحرب
الأهلية الدائرة في بلاده ولكن النظام الذي سيأتي بعده يمثل علامة استفهام
كبيرة نظراً لوجود الكثير من المجموعات المتطرفة التي لا تتحلى بأي
مسؤولية، وحذر من أن إسرائيل تراقب بدقة مخزون الأسلحة الكيمياوية لدى
سوريا ولن تسمح بتسليح «حزب الله» اللبناني رافضاً التعقيب على الهجوم
الإسرائيلي الأخير على ما يتردد أنها قافلة تحمل أسلحة سورية لـ«حزب
الله»، وكانت الطائرات الحربية الإسرائيلية قد هاجمت عدة أهداف داخل سوريا
ليلة الثلاثاء الماضي وأعلن المسؤولون الإسرائيليون لمجلة «تايم»
الأميركية أن من بين أهداف هذه الغارة مركز للأبحاث الخاصة بالأسلحة
البيولوجية تمت تسويته بالأرض خشية احتمال سقوطه في أيدي المتشددين ممن
يقاتلون لإسقاط نظام الأسد. وأضاف مسؤولو الاستخبارات أن إسرائيل تلقت
الضوء الأخضر من الولايات المتحدة لشن المزيد من هذه الهجمات. وعلى الصعيد
العالمي وعلى رغم عدم تفضيل القوى الكبرى التدخل العسكري في الصراع السوري
فإن هذا التدخل أصبح مطلباً لقوى المعارضة، وقد أكد رئيس الائتلاف الوطني
السوري المعارض معاذ الخطيب أن المعارضة السورية قد تلجأ إلى الطلب من
أطراف خارجية قصف قيادات سورية إذا فشلت محاولات تقويض النظام.
وهكذا لعبت سوريا في قوتها وضعفها دوراً محورياً سواءً على نحو إيجابي
بالتأثير الفاعل في السياستين الإقليمية والعالمية أو على نحو سلبي تصبح
فيه سوريا في حد ذاتها موضوعاً للتأثير. ومن هنا فإن تطور الأزمة في سوريا
دون جهد حقيقي وجاد للحيلولة دون انفجارها يصبح أولوية أولى لابد من
الاستجابة لتحدياتها من أجل تحقيق الاستقرار في المنطقة والحفاظ عليها.
الإثنين يوليو 01, 2013 5:28 pm من طرف حياة