بعد أكثر من ثمانية أشهر على مجيئ الحكومة الحالية لا زالت تمارس سياسة
الارتجال مثل الحكومات السابقة. فـ"برنامجها" المعلن مهمش في الممارسة
الفعلية للحكومة. و عمل جدي لحل نسبي للأزمة الاقتصادية و الاجتماعية مؤجل و
يتم اللجوء إلى الحلول السهلة (الزيادة في أسعار المحروقات و الزيادة في
أسعار مواد الاستهلاك المعيشي) و رفض إقرار ضريبة على الثروة.
عبد الغني القباج
و
بالتالي يتضح أن هذه الحكومة ليست لها استراتيجية سياسية واضحة لتدبير
القضايا السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية تمكنها من التجاوز
النسبي لأزمة السياسة. لأن الأزمة الاجتماعية و الاقتصادية هي، في البداية و
في المنتهى، أزمة سياسية و أزمة افتقاد الحكومة لقرار سياسي من أجل بلورة
استراتيجية تصنيعية شاملة قادرة على بلورة خطة اقتصادية لإنتاج الثروة و
الشغل و العدالة الاجتماعية و خصوصا إعادة توزيع الثروة بشكل عادل تمكن
الطبقات الشعبية المتضررة من تجاوز وضعها الاجتماعي المأزوم و تأهيل و
توسيع سوق الاستهلاك الداخلي.
ليس خافيا أن حكومة يرأسها عبد الإله بن كيران، أمين عام الجماعة
الإسلاموية "العدالة و التنمية"، هي المعادلة السياسية التي بلورها المخزن
لمواجهة النضال السياسي الجماهيري المطالب بالحرية و بالكرامة و بالمساواة و
بالديمقراطية و العدالة الاجتماعية هو النضال الذي أطلقته و قادته حركة 20
فبراير بعد تبلور ثورتي شعبي تونس منذ نهاية 2010 و مصر بداية 2011 بفعل و
بتضحية الشهيد محمد البوعزيزي بنفسه، تضحية عبرت مأساة و معاناة الشعب
التونسي من استبداد و قمع و ظلم النظام البوليسي لبنعلي في تونس.
لكن مآل هذه الثورات و الديناميات السياسية في الظرف الراهن و التي
استفادت منها الحركات الإسلاموية خصوصا في تونس و مصر و ليبيا حيث وصلت
للحكم التيارات الإسلاموية عبر انتخابات لم تتوفر فيها شروط التباري
الديمقراطي بين القوى السياسية و لا الشروط السياسية و الاجتماعية السليمة
كي يختار الشعب بوعي و حرية و ديمقراطية من يحكمه.
انفجار ثورات الشعوب المغاربية و العربية ساهم في انبثاق "حركة 20
فبراير" في المغرب و هي حركة مطالبة تغيير ديمقراطي شامل للنظام السياسي.
لقد استطاعت السلطة السياسية بدعم من طرف أحزاب و نقابات و نخب مثقفة
"ديمقراطية" الالتفاف و التناور على مطلب التغيير الديمقراطي الشامل في
المغرب مررت طبخة تغيير الدستور و إجراء الانتخابات وصولا إلى تشكيل حكومة
برئاسة "جماعة العدالة و التنمية". و عاد بالمغرب إلى درجة الصفر في
السياسة باختزال الديمقراطية في دستور و انتخابات ينتصران مرحليا
لـ"خصوصية" النسق المخزني و الديني السائد و لمقولة الاستثناء.
و زرعت هذه الأحزاب و النقابات و النخب مثقفة "ديمقراطية" وهم عودة
الروح إلى السياسة بالدستور الممنوح و بإسناد رئاسة الحكومة للحزب الأول
انتخابيا. و لم تتطرق إلى طبيعة النظام السياسي الذي أنتج الحكومة الحالية.
فالنظام السياسي المغربي هو نظام الملكية المطلقة بالرغم من تنصيص
الدستور الجديد على مبدأ فصل السلط. و هو دستور لم يضع حدودا واضحة لسلطات
الملك السياسية و الدينية المطلقة كما تم تحددها فصول هذا الدستور (من
الفصل 41 إلى الفصل 59). و بالتالي فمجلس الوزراء الذي يٍرأسه الملك يحتكر
أهم الصلاحيات و القرارات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية التي تبلور
التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة... و الدستور يسمح للملك بممارسة
صلاحياته التي يخولها له الدستور بمقتضى ظهائر.
و منذ تنصيب الحكومة ساد الارتجال و السجال في قضايا هامشية و تافهة
بالنسبة للقضايا الديمقراطية التي يطرحها واقع التخلف السياسي و الاقتصادي و
الاجتماعي الذي يعانيه الشعب المغربي. إنه تعبير عن وصول السياسة في
المغرب إلى درجة الصفر. لأن السياسة الحقيقية هي التقرير في القضايا
السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية للشعب و للمجتمع و تدبيرها و
الصراع من أجلها وفق سياسة استراتيجية ديمقراطية واضحة الأهداف القصيرة و
المتوسطة المدى في انسجام مع الأهداف السياسية الاستراتيجية.
إن السياسة الحقيقية، بعد النضال الذي قاده شباب حركة 20 فبراير قبل
تمرير الدستور و انتخابات 25 نوفمبر2011، هي سياسة العمل الديمقراطي من أجل
مهمة انتقال المغرب إلى الديمقراطية الشاملة هنا و الآن. لأن أي تأخر عن
النضال من أجل هذه المهمة و أي تهاون بشأنها أدخل المغرب مرة أخرى إلى
مرحلة إعادة تكريس نفس النسق السياسي المخزني الذي أسسه الملك الراحل الحسن
الثاني و أساليب حكم الملكية المطلقة التي لا زالت تحتكر القرار السياسي
رغم الادعاء، بمنطوق الدستور، أنه تم اقتسام سلطة القرار السياسي بين الملك
و الحكومة و البرلمان.
في السياسة من الطبيعي في الأنظمة الديمقراطية وقوع اختلاف و خلاف بين
وجهات نظر رئيس الدولة، الملك في المغرب، و رئيس الحكومة أو رئيس البرلمان و
الأحزاب السياسية. فهي مسألة عادية، و الغير عادي و الغير ديمقراطي أن
تكون علاقة الملك بالحكومة أو بالبرلمان و بالنخب السياسية علاقة خضوع و
إذعان. و علاقة الخضوع و الإذعان للمؤسسة الملكية هي التي أعاقت تطور
المغرب نحو التحرر من التخلف الديمقراطي و الاجتماعي و الثقافي و السياسي و
الاقتصادي.
لذلك فإن استمرار حكومة ابن كيران رئيس و استمرارها في تأكيد خضوعها و
إذعانها للمؤسسة الملكية يؤشر بالملموس على أن لا سياسة في المغرب ما لم
تتبلور و تتقرر دواليب القصر. و ما جرى مع دفتر تحملات قطاع السمعي البصري و
ملف إصلاح القضاء أمثلة على ما نذهب إليه.
كما أن سياسة القمع و الاعتقالات و المحاكمات التي تواجه بها الدولة و
الحكومة نضالات و احتجاجات المواطنين و حركة 20 فبراير السلمية (مؤخرا قمع
الاحتجاج السلمي البيضاء و في إفني و مواجهات بني مكادة في طنجة و محاكمات
الشباب المعطل...) ليست إلا تجسدا لهامشية الحكومة و البرلمان.
و لا يخفى كون جماعة العدالة و التنمية، و هي ترأس الحكومة، تقوم بدور
الوساطة بين المؤسسة المخزنية و بين مكونات الحركة الإسلاموية كجماعة العدل
و الإحسان و التيارات السلفية. إذ يفتح وصول جماعة العدالة و التنمية إلى
عدد مهم من مقاعد البرلمان و ترؤسها الحكومة أمام مكونات الحركة الإسلاموية
طريق الوصول إلى البرلمان و الحكومة عبر الانتخابات. و هذا ما نلحظه في
محاولات فتح جسور الحوار بين جماعة العدالة و التنمية من جهة و العدل و
الإحسان و تيارات السلفية الجهادية.
إن المتأمل النبيه لتطور العلاقة بين المخزن و الحركات الإسلاموية يكتشف
أن المرحلة الراهنة بالنسبة للمخزن هي العمل على احتواء احتمال تحول
الحركة الإسلاموية المعارضة و بسط شرعيته الدينية و السياسية عليها كي تصبح
نخبة من نخب النسق السياسي السائد.
إن دور النخب السياسية و الإيديولوجية و الثقافية التي اندمجت في النسق
السياسي السائد لا تتجاوز كونها خادمة و خاضعة لسياسة القصر و لسياسة القوى
الاقتصادية الكمبرادورية و للمصالح الامبريالية التي يعتمد عليها القصر من
أجل التحكم في الوضع السياسي و الاقتصادي لفرض استقرار سياسي هش و مزعوم
على حساب المصالح الديمقراطي للطبقات الشعبية المغربية.
لذلك إن صعود أسهم جماعة العدالة و التنمية في المعادلة موت السياسية
السائدة في المغرب هي معادلة بعيدة عن أن تنتقل بالمغرب إلى الديمقراطية، و
ستقوم جماعة العدالة و التنمية بمهمة معارضة شرسة لقيم الحداثة و
الديمقراطية. و لا زلنا نذكر مقاومتها لقيم الحداثة و الديمقراطية ، بدءا
بمقاومة جماعة العدالة و التنمية لخطة تنمية المرأة التي بلورها سعيد
السعدي في حكومة عبد الرحمان اليوسفي، و اعتبار هذه الجماعة السماح للمرأة
بتزويج نفسها بدون ولي خروجا عن الدين الإسلامي، و اعتبارها رفع سن زواج
الأنثى من 15 إلى 18 سنة و إلغاء قاعدة زواج الصغيرة مسا بقواعد Ø
�لشريعة... وصولا إلى التهديد بالانسحاب من الآلية الحزبية لمتابعة عمل
"اللجنة الاستشارية لتعديل الدستور" إذا لم يتم حذف الإشارة إلى حرية
العقيدة التي كانت واردة في المسودة الأولى لمشروع دستور 2011... الخ ليصل
إلى العفو عن المسئولين عن الفساد المالي و الاقتصادي و نهب المال العام و
إلى خطاب تحقيري في حق المرأة و النية في ضرب مجانية التعليم العالي في
كلية الطب و المدارس المهندسين و التشكيك في وجود معتقلين سياسيين في
المغرب... هذه الممارسات و المواقف ليست سوى ردة و تراجع عن المكتسبات
الديمقراطية الضئيلة التي حققها نضال القوى الديمقراطية.
جماعة العدالة و التنمية تتحدث عن الحرية و حرية العقيدة في الأرضية
"السياسية" لمؤتمرها الأخير و عمليا حاربت بشراسة حرية العقيدة خلال صياغة
الدستور الجديد!؟
إن هذا السلوك السياسي و نهج جماعة العدالة و لتنمية و وزرائها في
الحكومة يكشف خطابها المزيف الذي ينضح بإيجابيات التغيير (الإعلان عن لوائح
مأذونيات النقل (لاكريمات) و مأذونيات بعض المقالع، محاربة الفساد، انتقال
المغرب مع الدستور الجديد إلى الديمقراطية...). و هو الخطاب الذي سرعان ما
ارتد و تخلف لتبدأ التنازلات و العودة إلى وظيفة خدمة المؤسسة الملكية و
إرادتها السياسية كما أكد ذلك بلاغ الصادر عن رئيس الحكومة و أمين عام
العدالة و التنمية و الذي يعتذر فيه للملك و لمستشاريه عن أي إساءة غير
مقصودة يكون قد تسبب فيها٬ مجدِّداً عبارات الولاء و التقدير للعاهل
المغربي.