هشام مزيان المشرف العام
التوقيع :
عدد الرسائل : 1749
الموقع : في قلب كل الاحبة تعاليق : للعقل منهج واحد هو التعايش تاريخ التسجيل : 09/02/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 25
| | عندما تفقد الخلية ذاكرتها | |
عندما تفقد الخلية ذاكرتها
طريف سردست | اصبحنا نسمع كثيرا عن " ذاكرة الخلية" ، وقد يظن البعض، خطأ، انها مثل ذاكرة الانسان. غير ان الامر لايتعدى عملية كيميائية نمطية معرضة للاخطاء تماما مثل " ذاكرة الحمض النووي". وقد تعرف العلماء على " ذاكرة الخلية " في معرض ابحاث السرطان. التغير الذي يطرأ ويؤدي الى تغيير الطريقة التي تقرأ فيها سلسلة الحمض النووي في خلايا الجسم تؤدي الى نشوء السرطان. بمعنى آخر الخلايا المتدرنة تفقد ذاكرتها على معرفة الذات، تفقد شخصيتها، فتعود من جديد الى " طفولتها" لتصبح اقرب الى خلية جذعية..
كيف حصل ان بعض الافراد لديهم قابلية اكبر على الاصابة من البقية؟ المسؤولية الرئيسية في هذه العملية يتحملها الحمض النووي الموروث عن الاباء والامهات. اي طفرة نرثها او تحدث، في لحظة التلقيح والانقسام الخلوي، تضع بصماتها على مستقبلنا، وأحيانا، هذه التغييرات الصغيرة يمكن ان تفتح الطريق للمرض.
غير ان كيفية التموضع التسلسلي للحمض النووي، وحده، غير كافي ليقدم لنا الصورة كاملة. في السنوات الاخيرة ازداد عدد الباحثين المهتمين بما يسمى عملية الابيجينيتيك epigenetics والذي يقرر طريقة قراءة الحمض النووي. الجسم يحتوي على 250 نوع من الخلايا، والتي جميعها انحدرت عن خلية بمحتويات واحدة، الخلية الجذعية. تختلف هذه الخلايا عن بعضها البعض في نوع الوظائف المنشطة او المطفئة. والعامل الذي يجعلها منشطة أو منطفئة ، بحيث يقرر نوع الخلية الذي سينشأ من الخلية الجذعية الاصلية، موجود خارج سلسلة الحمض النووي. وبعد ذلك، عندما يبدأ الانقسام الخلوي آخذا بعين الاعتبار نوع الخلية التي ستنشأ عن الخلية الام، سيحمل الانقسام في طياته معلومات جديدة من الوراثة الابيجينية، البعض يطلق عليها ذاكرة الخلية.
هناك العديد من العوامل التي تؤثر على آلية البيجنيتيك مثل العمر والتغذية والمواد الكيميائية والمخدرات والتدخين. لذلك الامر لايتعلق فقط بمحتويات سلسلة الحمض النووي وانما بطريقة قراءة محتويات السلسلة من حيث ان القراءة هي عملية كيميائية، تفاعلية بين المحيط الخلوي والسلسلة لذلك التغييرات في السلسلة النووية والمحيط الخلوي ، يؤثران في عملية تسمي methylation. هذه العملية تختلف من شخص الاخر لارتباطها بالبيئة والعوامل الخارجية الاخرى إضافة الى المورثات.
كما قلنا سابقا، يـتالف جسم الانسان من 250 نوع من الخلايا. لقد نشأت هذه الخلايا من مراحل مختلفة منذ تلقيح البيوضة حتى نضوج الانقسامات في الجنين. وفي كل مرحلة جرى اضافة الذاكرة البيجينية الى كل حمض نووي للخلية الجديدة. وظيفة هذه الذاكرة ان تحد من قدرة الخلية على اختيار نوعها. والذاكرة الابيجينية يمكن ان تنشأ ايضا لدى البالغين، مثلا عند حدوث الانقسامات الخلوية في عملية نشوء الاغشية المخاطية للامعاء لتعويض الاغشية المفقودة.
نوع الخلية الذي سينشأ يرتبط بالعوامل المتبادلة بين الخلية وبيئتها في النسيج المعني، مثلا الكبد او العضلات. على الرغم من ان جميع الخلايا تملك مكونات متشابهة او الى حد كبير متشابهة إلا انه توجد اختلافات كبيرة في " الاضافات" التي ادت الى تقرير ماسيكون منشطا وماسيكون مغلقا من وظائف، واسميناها الذاكرة الخلوية. ذلك يجعل ان خلية عضلية تملك وظائف مغلقة تختلف عن خلية الكبد، مثلا.
الامر نفسه يتعلق بالخلايا الجذعية، اي الخلايا التي لم تلوث " بالاضافات" ولازالت خلايا جنينية قادرة على ان تنمو الى اي نوع كان. بذلك يكون البيجينيتيك هو آلية تتحكم وتقرر متى واين وكيف سيجري تنشيط او عدم تنشيط للحصول على نوع معين من الخلية.
جزء صغير من الخلايا، تتراوح بين الواحد والاثنين بالمئة، تملك خصائص ابيجينية مميزة للغاية. هذه الخلايا تملك وظائف منشطة منذ وراثة الخلية عن الام او الاب في حين ان النسخة الثانية القادمة عن الوالد الثاني تكون الوظيفة فيها مقفلة. هذه الظاهرة نطلق عليها البصمة الوراثية، genomic imprinting.
مجمل الذاكرة الابيجينية، بكل تراكماتها عبر كل المراحل، يطلق عليها الابيجينوم epigenom. كون بصمة الابيجينوم، لدى شخص محدد، تتأثر بالتغيرات في البيئة جرى البرهنة عليه في احدى الدراسات الاسبانية التي جرت على التوأم بنتاج بيضة واحدة. في الوقت الذي انطلق التوأم من بيضة واحدة، منقسمة جينيا، نجد ان الأبيجينوم يختلف بوضوح بينهم، عند النضوج. التجربة جرت على توأم كل فرد منهم يعيش في منطقة مختلفة عن الاخر. لهذا السبب، الارجح ان الفروقات بين الأبيجينوم تعكس الاختلافات في البيئة ونمط الحياة.
ان الامر بهذا الشكل ليس غريبا، لكوننا نعلم المواد الخطرة على البيئة والريجيم يؤثران على طريقة التركب الميثاني لسلسلة الحامض النووي. نحن نعلم ايضا ان تعاطي فيتامين حمض الفوليك لفترة طويلة والحامض الاميني ميتيونين أو عنصر السيلينوم يقلل حلقات الميتيل. وحتى مواد اخرى مثل الزرنيخ والتي يمكن ان توجد في مياه الشرب، والمواد المعطرة المستخرجة من النفط والغاز، والموجودة في البنزين ودخان السكائر، يمكن ان يسببوا تغييرات في حلقات الميتيل.
إضافة الى ذلك يمكن لبعض الحساسيات تجاه المواد الملوثة للبيئة او التغييرات الغذائية أن تتأثر من تنوعات غاية في الصغر في الحوض الجيني. أحدى الامثلة على ذلك الجين الذي يقف خلف تحليل حمض الفوليك لينتج عن العملية المواد الكيميائية الضرورية لتتمكن الجينات من اجراء عملية methylation. توجد نسخة تجعل الجسم ينتج انزيم بوظيفة سيئة النوعية بالمقارنة مع العادة. عند الاشخاص الذين يرثون النسخة السيئة من كلا الوالدين تتدهور عملية الميثانية بغض النظر عن كمية فيتامين حامض الفوليك في الجسم.
التفاعل بين الايبيجين والبيئة والتنوع الجيني للفرد يمكن ايضا ان يرفع من مستوى المخاطرة بالاصابة بالامراض، على الاخص إذا جائوا بالارتباط مع عوامل اخرى. من حيث المبدأ ، جميع الامراض عند الانسان تملك عامل ابيجيني، مباشرة او غير مباشرة. أحيانا يمكن ان يكون الامر مجرد اغلاق لجين معين. وإذا كا هذا الجين تحديدا هو الذي، في العادة، يسبب الحاجة الى بروتين المسؤول عن ترميم dna عندما تقوم الخلية بالانشطار، يمكن للاغلاق ان يؤدي الى اضرار في الحامض النووي.
أغلب معلوماتنا، اليوم، عن دور الابيجيني في نشوء الامراض تتعلق بالسرطان. المرض يظهر عندما تتفاعل التغييرات الجينية والابيجينية وتؤدي الى ان خلية سليمة تتراكم فيها خصائص تدفعها الى الانشطار والنمو بدون توقف.
الدراسات برهنت ايضا على ان الخلايا السرطانية يمكن إعادة برمجتها في انابيب الاختبار لتصبح خلايا جذعية جنينية، بدورها تستطيع انتاج ، بما فيه، جنين طبيعي. بما ان مجموعة الحامض النووي متجانسة في الخلية السرطانية وفي " اجنتها" يشير هذا الاختبار الى مدى اهمية التغييرات الابيجينية خلال عملية السرطنة.
عندما يتعلق الامر بالتغييرات التي تؤثر على الحامض النووي بذاته يمكن للانعكاسات في الطرف البيجيني ان نقص عملية الميثانية تؤدي الى تنشيط ماهو عادة غير نشيط وراثيا او العكس، مثل جين ، عادة، يحبط نشوء التدرن. بل في احدى الحالات ظهر ان تعطيل نشاط جين p16ink, يحدث على مرحلتين: في البدء يهبط ثم يصعد مستوى عملية الميثانية.
سلامة قراءة السلسلة النووية تعتمد ايضا على درجة انفتاح او انغلاق السلسلة الحامضية على الكروموسومات. في المنطقة الفضفاضة القراءة اسهل بالمقارنة مع المنطقة المتكدسة بقوة.
الدراسات اليوم تعمل على تفهم مااكتشفناه مؤخرا من ان الحامض النووي "يتكلم" معه بعضه في الواقع. بذلك نعني انه عندما تكون الكروموسومات موضبة في نواة الخلية يمكن لاجزاء من مختلف الكروموسومات ان تتصل وترسل معلومات ابيجينية الى بعضهم البعض. هذه الشبكة تشمل اقسام مميزة للجينوم يبدو انها تتواصل مع بعض فقط إذا كانت موروثة عن الام. من المثير انه قد ظهر انه إذا ضاع هذا التميز الجينومي في مكان ما سيؤدي ذلك الى نشوء اضطرابات في مناطق كثيرة اخرى من الكتلة الجينية. نحن نعتقد ان هذا النوع من التغييرات في المناطق التي تتحكم بنمو الخلية يساهم في تحول الخلية الى خلية سرطانية. بالانسجام مع ذلك سبق وان اشرنا الى ان مخاطر الاصابة بالسرطان تتزايد مع إضاعة التمايز الجينومي.
فريق بحث علمي امريكي بقيادة Andrew Feinberg من جامعة يوهانس هوبكينز للدراسات الطبية Johns Hopkins University School of Medicine أظهر عام 2009 ان الخلايا السرطانية تفقد شخصيتها الخاصة (بصمتها الخلوية)، على الاقل اذا نظرنا الكتلة الجينية من خلال الصورة التي تقدمها عملية الميثانية. عند مجموعة من المصابين بالسرطان قارن العلماء خلايا من الدرنات السرطانية قادمة من الامعاء الغليظة مع خلايا امعاء غليظة سليمة. لقد ظهر ان الكتلة الجينية في خلايا الامعاء الغليظة التي اصيبت بالسرطان عملية الميثانية فيها اقل بوضوح بالمقارنة مع الخلايا السليمة. واكتشفوا ايضا ان بصمة عملية الميثانية الروتينية لنوع محدد من الخلايا يمكن ان يقتبس من قبل خلايا سرطانية على الرغم من انها من نسيج مختلف. في هذه التجربة ظهر ان خلايا سرطان الامعاء الغليظة تشبه اكثر خلايا الكبد السليمة منها لخلايا الامعاء السليمة.
يونيو من عام 2010 أستعرض Andrew Feinberg فكرة لتفسير اسباب وجود تغيرات ابيجينية يقول:" نزوع وراثي أفضلية تساعد على سرعة التفاعل مع التغييرات البيئية. أخذه موروثا يرفع القدرة على سرعة التفاعل مع بيئة جديدة وهو افضلية تراكمية من تاريخ الانسان القديم يسمح بأنجاب المزيد من الاطفال. الان عندما اصبحنا نعيش فترة اطول ونتعرض لتأثيرات بيئية اطول واكثر، يمكن ان يكون ثمن هذه القدرة على التغير المزيد من مخاطر الاصابة بالسرطان".
نحن لانعلم بالضبط متى تحدث التغييرات الابيجينية والتي يترافق معها تحول الخلية السليمة الى خلية سرطانية. احدى الافتراضات الاكثر شعبية ان جميع انواع السرطانات تحدث كنتيجة لاضطرابات ابيجينية في مرحلة الخلايا الجذعية. هذا الاضطراب يؤسس بدوره لتغييرات جينية ومشاكل عندما تنضج الخلية. إذا صدقت هذه الفرضية، يمكن للكثير من انواع السرطان، يحتمل جميعها، ان يكون له اصل مشترك.
وعلى الرغم من التقدم الكبير الذي جرى في العشر سنوات الاخيرة في مجال علم الابيجين لازال الطريق طويل لربط الامر بتحسين الرعاية الصحية. الخلفية الابيجينية لأعراض مرضية معينة تختلف للغاية بين الافراد. الاختلافات الجينية بين اثنين من البشر تصل، كحد اقصى، الى 0,8%، ولكن بالنسبة للابيجين يصل الاختلاف الى 10%. لاسباب مشابهة يمكن ان يصبح من الصعب الوصول الى الاسباب في الخلفية الابيجينة للمرض. إذا فكرنا ان سبب السرطان يعود الى اضطرابات في الابيجين عند الخلايا الجذعية فالادوية وحدها لن تكفي لمعادلة التغييرات. وحتى اذا تمكنا من التعامل مع الخلايا فإن خلايا اخرى ستأتي محملة بباقة اضطرابات اخرى سينمو عنها بسرعة خصائص مشابهة. من جهة اخرى يمكن تحسين التشخيص وتحديد الخلايا الجذعية المصابة قبل ان تصل التغييرات الابيجينية الى الخلية المرشحة | |
|