كارل ماركس! لم يتعرّض فيلسوف
قطّ لما تعرّض له من التشويه والاستغلال والابتذال. جاءه أكبر الظلم من
هؤلاء الذين حاولوا تطبيق فكره بشكل كاريكاتوريّ. ككلّ العظام أساء إليه
مناهضوه ومُريدوه على حدّ سواء. بينما حوّله الرأسماليّون إلى عدوّ لدود
للحرية والملكية الخاصّة المقدّسة، تحوّل على يد الأحبّاء من مفكّر التحرّر
إلى مبرّر للشمولية، ومن محلّل عبقريّ للنظام الرأسماليّ إلى مجموعة من
الشعارات الديماغوجية النضالوية، ومن مراقب دقيق للحراك الاجتماعيّ ومنظّر
لحركة التاريخ الجدلية إلى متّكأ نظريّ لمادية ميكانيكية حزينة. ومن ورشة
فكرية مفتوحة إلى ماركسية مغلقة، ومن نظرية جدلية حيّة إلى منظومة ميتة
جامعة مانعة..كان ماركس ينشد الإنسان الشامل، فلم تقدّم بلاد السوفييت
وأخواتها سوى مخلوقات مقهورة لا تفكّر سوى في التخلّص من الشمولية المفروضة
عليها بالماركسية. ذات عام، في إحدى حانات بودابست الشيوعية، قلت مازحا
لشابّ عربيّ لطيف "الحمد لله الذي جعلني أعرف ماركس قبل أن أعرف الأنظمة
الشيوعية". أجابني ماكرا ضاحكا:" أحمد الله أنني عرفت الدول الاشتراكية قبل
كل البلدان."
ملأ ماركس الدنيا وشغل الناس، لكنّ أغلب الناس لا يعلمون وإنما يجهلون
كل شيء عن فكر الرجل. يثرثر الناس عن الكاريكاتور الذي قدّم لهم بل الذي
اختلق لهم، إذ من الصعوبة أن يجد أيّ كان الوقت ولا الصبر للاطّلاع على
كلّ أجزاء "رأس المال" ويهضم ما جاء فيها ولو نسبيا، وكذا "مخطوطات1848"
و"مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي"…
لم يذهب أكثر الناس تعصّبا لأفكاره، في البلدان التي كانت تدّعي
التمركس، إلى أبعد من قراءة "البيان الشيوعي"، ذلك الكتاب السياسي العامّ
الذي أمضاه مع رفيق دربه فريديريك أنغلز، والذي تم حتى تلحينه موسيقيا.
أمّا في العالم العربيّ فحدّث ولا حرج! ففضلا عن رداءة الترجمات وضعف
المقروئية المزمن، هناك عداء دينيّ طفوليّ لأفكاره وحظر لتداول كتبه، وتلك
التي تناولت فكره حتى في الجامعات في بعض الدول العربية الأصولية ولم يقدم
للقارئ والطالب سوى تلك الكتب الدعوية الدعائية التي ترسم الــ "ماركس"
الذي تريد، فتعرّفه بما ليس فيه، ثم تنتقد وتشتم تعريفها مدّعية نقد
الفيلسوف. وهكذا تكوّنت مجموعات عداء مناضل ضدّ ماركس متخيّل، يهوديّ، همّه
الوحيد في نظرهم محاربة الدين بل الدين الإسلامي ليس إلا. وهكذا وجد فكر
ماركس نفسه مختزلا في عبارتين سريعتين تبسيطيتين أولاهما نضالوية "يا عمّال
العالم اتحدوا"، المرفوعة من قبل شيوعيين شعوبيين. وثانيهما تشويهية "لا
إله والحياة مادة" عبارة الأصوليين السخيفة المدّعية الإحاطة بماركس
والماركسية.
كان القصد من الدعوة إلى القضاء على الدين بوصفه سعادة الشعب الوهمية،
هو المطالبة بسعادة الشعب الحقيقية حسب الأخ ماركس، ولكن الكومبرادورية
العربية عملت كل ما في وسعها لتأبيد سعادة العرب السماوية ليخلو لها جوّ
التمتع بسعادة الأرض.
لا يمكن لهؤلاء وأولئك المصابين بالفهم المبتذل للمادية، أن يعرفوا أن
ماركس المفكّر تمكّن من النفاذ علميا إلى جوهر المنظومة الرأسمالية الأكثر
تطوّرا في زمانه واستكشاف آليات اشتغالها وتعقّل منطقها الدائم الذي يؤدي
حتما إلى أزمات متتالية وإلى شخصنة الأشياء وتشييئ الأشخاص. لو فقهوا هذه
الفكرة لما انطلت عليهم ولا على الذين من قبلهم لا أضحوكة أخلقة الرأسمالية
ولا أزعومة الفصل بين الأزمة المالية وأزمة الاقتصاد الحقيقي، ولأدركوا
أنّ منبع الأزمة هو الإنتاجوية السلعوية، ولكانوا قد وعوا أنّ الأزمة
مستمرّة لأنها هيكلية، وعلى ذلك لا يكفي تغيير علاقات الإنتاج بل ينبغي
تغيير نمط الإنتاج ذاته إذا أراد الناس تجنّب الهزّات واحترام الطبيعة. لقد
عاش في الرأسمالية الأكثر تقدّما في عصره ومع ذلك حللها تحليلا دقيقا ووصل
إلى نتيجة هي اليوم موضع إجماع علماء الاقتصاد مفادها أن لا رأسمالية بدون
أزمات.
وعلى عكس الفهم المبتذل للمادية التاريخية، لا تتغير الأشياء
أوتوماتيكيا، فماركس ليس "جبريا تاريخيا". فالناس هم الذين يغيّرون حياتهم
وإن كان ذلك تحت شروطهم التاريخية. ولئن كان ماركس مفكّر التحرّر من
الاغتراب بامتياز، فإنّ الفرد لا يستطيع أن يتحرر بمعزل عن المجموع.
انصبّ اهتمام ماركس بتحليل ما هو كائن قبل أن يفكّر في ما ينبغي أن
يكون. الدعوة إلى تجاوز الرأسمالية كان نتيجة فكر وعلم، ولم يكن الفكر
والعلم لدى ماركس مجرّد تبرير للدعوة إلى بديل لارأسمالي. ولم يكن تصوره
المادي للطبيعة والتاريخ فكرة مجندة لصراع سياسي ظرفي وإنما كان اكتشافا
علميا فلسفيا. ورغم أكاذيب وأباطيل يبثها الإنجيليون الأمريكان في
التلفزيونات العربية هذه الأيام بمباركة الإسلاميين تحت شبهة علمية مسوقة
تحت عنوان "التصميم الذكي"، فالعلم الحديث يقترب اليوم من التصوّر المادّي
للعالم والكون لا من التصوّر المثاليّ.
لم تفشل الشيوعية بالمعنى الماركسيّ الذي هو امتلاك الناس لوسائل
الإنتاج والثروة، بل الذي فشل في الإتحاد السوفييتي هو مصادرة ثروة الناس
ووسائل إنتاجهم. سقطت الشيوعية المعلبة لأنها حولّت الماركسية إلى لاهوت
بروليتاري غلّب الإيديولوجيا على الإبستومولوجيا. وليس من الغريب أن تقدّم
عن ماركس أهمّ وأعمق البحوث وأثمرها في جامعات الغرب وليس في جامعات شرق
أوروبا التي رفعته وثنا. في نهاية السبعينات مرّ لمدة قصيرة بجامعة الجزائر
أستاذ علم اجتماع أمريكي شابّ من أصول عربية ورغم عربيته المتواضعة كان
أستاذا رائعا. قال لنا هو الذي لم يكن يخفي ماركسيته أنّ البلدان الغربية
أقرب إلى روح الماركسية من البلدان الشرقية، فتعجّبنا جهلا آنذاك إذ لم نكن
ندري من جراء التعتيم الإعلاميّ ماذا كان يقع في السويد ورومانيا مثلا!
واليوم، مع استفحال أزمة الرأسمالية، يتحدّث الكثيرون عن "عودة
ماركس" فهل غادرنا ماركس يوما؟ اختفى ماركس المفبرك، الحزبيّ، ولكن لا أحد
يستطيع "تسفير" ماركس عالم الاقتصاد وعالم الاجتماع والمناضل الأمميّ، لأنه
بكل بساطة هو واحد من أربعة يعدّون أهمّ مفاتيح فهم التاريخ والإنسان
والكون: ماركس، داروين، فرويد، وانشتاين.
في بداية التسعينات، بعد سقوط جدار برلين والمنظومة الشيوعية برمّتها
قادني تصعلكي إلى مدينة تريف الألمانيةـ وكانت مناسبة سعيدة للحجّ إلى
المنزل الأنيق الذي تربّى فيه كارل ماركس. هو في حيّ جميل جدا ويلقى عناية
فائقة ويتمتّع بزيارة الكثير من الناس من كل بقاع العالم. ورغم كل شيء
تلاحظ الزائرة أو الزائر مدى الإحترام الذي يكنه له الألمان. لا تزال غرفته
على حالتها وكلّ أثاث كانت له معه علاقة في البيت العائليّ. لست أدري
لماذا تذكّرت وأنا أغادر بلاد كارل ماركس ذلك اليوم المشؤوم وكان ذلك في
نهاية االثمانينات حينما وصلت إلى قرية الدرعان قرب مدينة عنابة الجزائرية
باحثا وراغبا في زيارة البيت الذي ولد فيه الفيلسوف ألبير كامو، وكانت
الصدمة حينما وجدت عمالا منهمكين في تهديم كلّ الحيّ الذي يوجد به بيت صاحب
"الغريب" و"أسطورة سيزيف" و"الإنسان المتمرّد". وقد ندّدت بذلك العمل
الشنيع على صفحات جريدة لوماتان الجزائرية آنذاك. فمتى نتمرّد في العالم
العربي على القراءة المتسرّعة وعن إهمال ما لا يجب إهماله. متى ننتقل من
العيش السياحي في العصر إلى تملك روح العصر؟